طريق التغيير في اليمن...أحلام كبيرة وعقبات أكبر
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
عندما انطلقت شرارة الثورة في اليمن، كانت التوقعات تتجاوز الحُلم الفردي لكل يمني، بل امتدت لتلامس مستقبل بلد بأكمله. اليمن هذا البلد العريق كان على موعد مع التغيير، ووجد نفسه في قلب عاصفة من الآمال والإرادات المتناقضة، التي صهرت تطلعات الملايين في بوتقة من التحولات والتحديات الكبرى. كان الخروج إلى الشوارع من صنعاء الى تعز وعدن يحمل رسالة عميقة وواضحة: "لن نعود إلى الوراء.
في تلك اللحظة، بدا وكأن اليمن على مشارف حقبة جديدة، عنوانها العدل والديمقراطية والكرامة، لكن سرعان ما اصطدمت هذه التطلعات بواقع سياسي وأمني واقتصادي عسير، كاد أن يُفقد اليمنيين إيمانهم بقدرة الثورة على تغيير مسار حياتهم. ومع ذلك، بقيت بذور الأمل مزروعة، وإن كان غبار الصراع يحجب رؤيتها أحياناً.
الجذور.. لماذا تحرك الشعب؟
لنعد إلى اللحظة التي أشعلت فتيل الثورة، حيث كان اليمن يعيش ظروفاً صعبة اقتصادياً وسياسياً، فالفساد استشرى في المؤسسات، والنظام الحاكم غدا عبئاً على مستقبل البلاد، والشباب الذي يشكل غالبية السكان وجد نفسه محاصراً بين بطالة مرعبة ومستقبل مبهم. لم تكن مشاعر الإحباط والحرمان مستحدثة، بل كانت تتراكم منذ عقود، وتفاقمت حتى وجدت طريقها إلى الشوارع والساحات العامة.
سعت إيران إلى استغلال الأوضاع في اليمن لتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث دعمت الحوثيين ووفرت لهم المساعدات العسكرية والسياسية، مما ساهم في تعزيز قوتهم وتوسيع رقعة نفوذهم في الشمال، خاصة في العاصمة صنعاء. كما أن هذا الدعم مكّن الحوثيين من التمسك بموقفهم تجاه التحالف السعودي، وزاد من قدرتهم على الصمود في وجه العمليات العسكرية.حين رأى الشباب اليمني صور الثورات في تونس ومصر، تجددت لديهم الرغبة في كسر القيود وتحقيق العدالة. وللمرة الأولى منذ عقود، أحس اليمنيون أن بإمكانهم صياغة مستقبلهم بأنفسهم. قاد الشباب الاحتجاجات وهم يحلمون بغدٍ أكثر إشراقاً، غير مدركين حجم المعوقات التي ستعترض طريقهم، ومدى صعوبة تحويل الشعارات إلى واقع ملموس.
أحد هؤلاء الشباب، واسمه علي، كان في مقتبل العشرينيات من عمره، وكان يحلم بإكمال دراسته في الهندسة والعمل في شركة محلية، ربما تساعده على مساعدة أسرته. يقول علي: "كنتُ أعمل في مقهى صغير لصاحب الحي لأوفر بعض المال لدراستي، لكن كنت أشعر أنني أضيع وقتي على شيء لن يحدث. سمعتُ عن أصدقائي ممن تخرجوا وهم لا يزالون يبحثون عن عمل. حتى صديقي الذي تفوق في الجامعة لم يجد وظيفة، فكان الوضع يدفعنا نحو اليأس.".
عندما اندلعت أولى المظاهرات، انضم علي للمتظاهرين في ساحة التغيير، وكان يُردد شعارات تعبر عن رفضه لهذا الواقع الصعب. "كنت أردد: ’يا نعيش بكرامة، يا نموت بشرف". لأول مرة في حياتي، شعرت أنني لست وحيداً، وأن هناك كثيرين يتشاركون نفس الحلم.
لم تكن مشاعر الغضب مجرد مشاهد غريبة؛ بل كانت تراكمات جروح قديمة زادت من قوة اللهب الذي اشتعل في الساحات استيقظ الأمل الكامن لدى الشباب اليمني في إمكانية كسر القيود، وتحقيق العدالة، وتغيير الواقع. شعر اليمنيون، وللمرة الأولى، أن بإمكانهم صياغة مستقبلهم بأنفسهم. نزلوا إلى الشوارع حالمين بغد أكثر إشراقاً، ومؤمنين أن لديهم الحق في حياة كريمة ومستقبل مشرق.
التحديات الكبرى.. ما الذي وقف في وجه التغيير؟
ورغم أن الحلم كان واعداً، إلا أن الطريق نحو بناء دولة ديمقراطية كانت مليئة بالأشواك، حيث اصطدمت الأماني بعراقيل ضخمة تجسدت في تداخلات معقدة بين التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، إلى جانب التدخلات الخارجية. هذه التحديات لم تترك للثورة مساراً مفتوحاً، بل كانت كالحواجز التي تحول دون تحقيق الحلم المنشود.
قد يكون وصف اليمن في هذه الفترة كـ"ساحة للحسابات السياسية" أمراً واقعياً، حيث وجد اليمنيون أنفسهم محاصرين بين توجهات سياسية متضاربة، ورؤى متعارضة بين مختلف الأطراف. كانت هذه الانقسامات امتداداً لصراعات أيديولوجية وجغرافية قديمة، حيث اشتد الصراع بين فصائل الشمال والجنوب، وبين القوى التقليدية والقوى الصاعدة بعد الثورة.
رغم اتفاقيات التسوية التي تمت برعاية إقليمية، إلا أن الهوة بين الفرقاء السياسيين ظلت عميقة، وغلبت المصالح الحزبية على المصلحة الوطنية. وكلما اقتربت الأطراف من نقطة وفاق، ظهر خلاف جديد يعيق التقدم، مما أثقل كاهل الدولة وجعل الطريق نحو الديمقراطية أكثر تعقيداً.
أملٌ محاصر بالخوف
لم يكن اليمن وحيداً في مواجهة هذا التحدي، بل أصبح الأمن هو العائق الأساسي الذي يمنع التحول السلمي. مع تزايد نشاط الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم القاعدة وحركة أنصار الله (الحوثيين)، تراجعت أحلام الاستقرار، وأصبح المواطنون يخشون على حياتهم بشكل يومي. انفجر العنف في مختلف أنحاء البلاد، وتحولت الصراعات المسلحة إلى أمر يومي، يُضاف إلى معاناة المواطنين.
شباب الثورة وجدوا أنفسهم في وجه العنف، فبدلاً من أن يروا الدولة الديمقراطية التي نادوا بها، وجدوا أنفسهم بين نيران النزاعات المسلحة، ما جعل عملية بناء الدولة مستحيلاً في ظل الخوف والقلق.
كان الوضع الاقتصادي المتردي أيضا أحد المحفزات الأساسية للثورة، ولكن بعد مرور سنوات على انطلاق الربيع العربي، ازداد هذا التحدي تعقيداً. يعيش اليمنيون واقعاً اقتصادياً يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حيث البطالة في ارتفاع، ومعدلات الفقر تجاوزت الخطوط الحمراء، وبات الحصول على قوت اليوم تحدياً كبيراً أمام كثير من الأسر.
في كل بيت، هناك قصة من معاناة البسطاء. فتاة كانت تحلم بإكمال دراستها، وشابٌ كان يرنو إلى فرصة عمل كريمة، وأبٌ يكافح لتوفير احتياجات أسرته الأساسية. لم يكن انهيار الاقتصاد مجرد رقم أو إحصائية، بل كان واقعاً يومياً يعاني منه الجميع. ومع استمرار النزاعات المسلحة، بات تحقيق الاستقرار الاقتصادي أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع.
التدخلات الإقليمية والدولية.. لعبة الأيادي الخفية
اليمن، الذي يقع في قلب المنطقة العربية ويتمتع بموقع استراتيجي يطل على أحد أهم الممرات المائية، وجد نفسه ضحية لصراع نفوذ قوى إقليمية ودولية، ساهمت في تعميق الأزمات الداخلية وأشعلت الفتن بين الأطراف المختلفة. فبمجرد اندلاع الصراع الداخلي في اليمن، بدأت دول مثل السعودية وإيران تنخرط في الصراع بدوافع تتجاوز حدود اليمن ذاته.
تمثل السعودية وإيران القوتين الرئيسيتين اللتين تتنافسان على بسط نفوذهما في اليمن، وذلك ضمن نزاعهما الإقليمي الأكبر. السعودية، التي ترى اليمن كعمق استراتيجي لأمنها القومي، لم تتوانَ عن التدخل لدعم الحكومة الشرعية ومواجهة حركة الحوثيين التي تتلقى دعماً من إيران. وجدت السعودية في هذا الصراع ضرورة لحماية حدودها الجنوبية من أي تهديد محتمل قد يأتي من حلفاء إيران في اليمن، مما دفعها إلى تشكيل تحالف عسكري وشن عمليات عسكرية كبيرة بهدف منع الحوثيين من السيطرة على البلاد.
من جانب آخر، سعت إيران إلى استغلال الأوضاع في اليمن لتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث دعمت الحوثيين ووفرت لهم المساعدات العسكرية والسياسية، مما ساهم في تعزيز قوتهم وتوسيع رقعة نفوذهم في الشمال، خاصة في العاصمة صنعاء. كما أن هذا الدعم مكّن الحوثيين من التمسك بموقفهم تجاه التحالف السعودي، وزاد من قدرتهم على الصمود في وجه العمليات العسكرية.
لم تقتصر التدخلات الخارجية في اليمن على القوى الإقليمية، بل كان للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، دور بارز في الصراع. فباعتبار اليمن موقعاً حيوياً يؤثر على أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، تدخلت الولايات المتحدة لاعتبارات أمنية وسياسية، حيث شنت عمليات ضد الجماعات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة، كما دعمت التحالف الذي تقوده السعودية. ورغم أن هذه التدخلات جاءت بحجة مكافحة الإرهاب، إلا أنها أدت إلى تعقيد الوضع الأمني، وزادت من معاناة المدنيين.
إضافة إلى ذلك، كانت الدول الأوروبية تتخذ موقفاً حذراً، حيث حاولت التوفيق بين مصالحها الاقتصادية المتمثلة في بيع الأسلحة إلى دول التحالف، وبين الضغوط الإنسانية التي تطالب بوقف الحرب ومعالجة الأزمة الإنسانية. أدى هذا الموقف المتناقض إلى المزيد من التعقيد في المشهد السياسي اليمني.
الأطراف المحلية.. أدوار تتغير تحت الضغط الخارجي
أصبحت الأطراف اليمنية المحلية مجرد أدوات في لعبة الصراع الإقليمي والدولي، حيث وجدت الفصائل المتنازعة نفسها تعتمد على دعم من قوى خارجية لضمان بقائها في ميدان الصراع. وبدلاً من التركيز على بناء الدولة وتحقيق استقرار اليمن، باتت هذه الفصائل غارقة في تحالفات معقدة ومتقلبة تحكمها مصالح القوى الخارجية.
النتيجة.. اليمن كضحية لحروب بالوكالة
أدى هذا التدخل الإقليمي والدولي إلى تحويل اليمن إلى ساحة لصراع نفوذ أكبر من قضاياه الداخلية، حيث غدت القوى المتنازعة منشغلة بموازين القوى الخارجية على حساب طموحات الشعب اليمني في السلام والاستقرار. تفاقمت الأزمة الإنسانية وانتشرت المجاعة والأوبئة، في حين تراجعت فرص الحلول السلمية.
أصبح المشهد في اليمن وكأنه رقعة شطرنج سياسية تحركها أصابع قوى كبرى، بينما يتحمل المواطنون اليمنيون العبء الأكبر من المعاناة. إن خروج اليمن من هذا الصراع يتطلب تحييد هذه التدخلات، والتركيز على بناء دولة مستقلة ذات سيادة، تحمي مصالح شعبها وتضمن له الحياة الكريمة.
الأمل في بناء دولة ديمقراطية
اليمنيون يدركون اليوم أن بناء دولة ديمقراطية يتطلب أكثر من مجرد شعارات؛ يتطلب إرادةً حقيقية من جميع الأطراف. إنهم يحلمون بدولة تضمن حرية التعبير والمشاركة السياسية، دولة تكفل العدالة الاجتماعية وتعزز سيادة القانون، ويستطيع المواطن فيها أن يشعر بالأمان والاستقرار.
اليمنيون يدركون اليوم أن بناء دولة ديمقراطية يتطلب أكثر من مجرد شعارات؛ يتطلب إرادةً حقيقية من جميع الأطراف. إنهم يحلمون بدولة تضمن حرية التعبير والمشاركة السياسية، دولة تكفل العدالة الاجتماعية وتعزز سيادة القانون، ويستطيع المواطن فيها أن يشعر بالأمان والاستقرار.في بلد يواجه أزمة اقتصادية خانقة، يبقى الأمل في تحقيق تنمية حقيقية هو الباعث لكثيرين للاستمرار. يعلم اليمنيون أن التنمية الاقتصادية ليست رفاهية، بل هي حاجة ملحة لاستقرار المجتمع. من خلال جهود محلية ودولية من الممكن تحسين الاقتصاد وخلق فرص عمل، وإعادة بناء البنية التحتية، مما سيسهم في تحسين مستوى المعيشة ويخفف من معاناتهم اليومية.
دور الشباب.. الأمل الذي لا يموت
الشباب الذين بدأوا الحراك لم يفقدوا إيمانهم في التغيير. هم عماد هذا الوطن، وقوته التي لا تنضب من رحم المعاناة، يستمر الشباب في رفع أصواتهم، في الدفاع عن حقوقهم وحقوق وطنهم. هم يعتقدون أن التغيير ممكن، وأن بناء اليمن الجديد يتطلب إرادة وعملاً مستمراً، فمهما كانت التحديات، يبقى الأمل قائماً في نفوسهم، ليكونوا جزءاً من التغيير الذي نادوا به منذ اللحظة الأولى.
خاتمة.. اليمن وطن الصمود وأرض الآمال المتجددة
رغم المحن والجراح العميقة التي أثخنت جسد اليمن، يظل هذا الوطن رمزاً للصمود والكرامة، حياً بنبض أهله وصبرهم العجيب على المآسي، ومستعداً لمواجهة أعتى التحديات. على مدار سنواتٍ طويلة، واجه اليمنيون حرباً من الأزمات، تضافرت فيها العوامل الداخلية مع التدخلات الخارجية، ومع ذلك لم تفقدهم الأزمات إيمانهم بوطنهم ولا تلاشت تطلعاتهم إلى العدل والسلام.
يمضي اليمن اليوم نحو مستقبلٍ مثقلٍ بالاختبارات، لكنّ الأمل يظل وقود هذا الشعب الطامح إلى حياة أفضل، والذي لا يزال يؤمن بأن تحقيق الديمقراطية والكرامة والحرية هو هدف يستحق النضال، مهما بدا بعيد المنال. كل لحظة تمر على اليمنيين تبني في نفوسهم طبقات جديدة من الصبر والإرادة، وكأن هذه السنوات العصيبة تعمل على تشكيل ملامحهم بصلابة نادرة. إنهم يعلمون أن الوصول إلى الديمقراطية ليس طريقاً سهلاً، بل ميدان يختبر فيه الشعب قدرته على التغيير والبقاء.
يرى اليمنيون أن أحلامهم قد تكون مؤجلة، لكنها لم تمت، وأن بناء دولة حديثة تعبر عن إرادة الشعب، وتحمي حقوق الأجيال القادمة، هو حلم يستحق التمسك به. ولعلّ ما يميز هذا الطموح هو إدراكهم لضرورة استيعاب الدروس، من التجارب المريرة التي خاضوها، سواء في الوحدة الوطنية أو في مواجهة الفساد والاستبداد. فهم يعرفون اليوم أن المصالحة الداخلية، وتجاوز الخلافات، وترسيخ العدالة، هي الطريق الأمثل لاستعادة اليمن مكانته، وتجنب دوامة الصراع.
وفي قلب كل هذه التطلعات، يدرك الشباب الذين بدأوا الاحتجاجات الأولى أن مسؤوليتهم لا تنتهي بالتعبير عن الآمال، بل تمتد إلى تحمل المسؤولية، وبناء جسور التفاهم، والسعي لمستقبل يُعلي مصلحة اليمن فوق أي مصلحة شخصية أو خارجية. هؤلاء الشباب، بروحهم الطموحة، هم بمثابة الشعلة التي ستضيء الطريق نحو التغيير، حين تتحقق الظروف المواتية، وحين تستعيد اليمن عافيتها السياسية والاقتصادية.
في النهاية، يبقى اليمن أكبر من أن يضعف تحت وطأة الاستبداد، وأقوى من أن ينكسر أمام محاولات الهيمنة والاستغلال. إنها قضية شعب آمن منذ القدم بقيم الحرية والاستقلال، ويعلم اليوم أن وطنه يحتاج لكل ذرةٍ من إرادته، ولكل قطرة من عزيمته. ومع كل هذه التحديات، يظل السؤال الكبير مفتوحاً: هل يستجيب القدر يوماً لإرادة هذا الشعب؟ هل يرى اليمنيون الحلم الذي طال انتظاره وقد صار حقيقة؟
ربما لن تكون الإجابة واضحة قريباً، لكن إيمان اليمنيين بوطنهم يجعل هذا الحلم ممكناً، مهما طال الزمن.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الثورة اليمن اليمن ثورة سياسة رأي تداعيات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة صحافة من هنا وهناك اقتصاد سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بناء دولة دیمقراطیة الیمنیون أن الیوم أن فی الیمن أن بناء فی وجه بل کان
إقرأ أيضاً:
في 1045 ساحة.. اليمنيون يختصرون المشهد: استفتاءٌ شعبي بصبغة عسكرية
يمانيون/ تقارير في لحظةٍ فارقةٍ من عمر المواجهة ضمن معركة (طوفان الأقصى)، خرج ملايين اليمنيين إلى الساحات احتفاءً بالنصر، في مشهدٍ أُسطوري صاخِبٍ يختصرُ تحوُّلًا استراتيجيًّا في معادلات القوة والردع في الوطن العربي الكبير.
التظاهرات المليونية المتزامنة، أمس الجمعة، لم تترك بقعة في الجغرافيا اليمنية إلا وغطتها بالحشود، في “1045” مسيرة حاشدة، وفعالية مصغَّرة، في كُـلّ محافظةٍ ومديريةٍ وساحةٍ وسهلٍ وجبل، كانت إعلانًا وجوديًّا، سياسيًّا، عسكريًّا، وإيمانيًّا بأن اليمن دخل مرحلةً جديدة: مرحلة ما بعد الانتصار وهزيمة أمريكا.
من صنعاء إلى صعدة وحجّـة، ومن الحديدة إلى عمران والجوف، ومن تعز إلى البيضاء، ومن ريمة إلى ذمار، ومن إب إلى مأرب، ومن لحج إلى الضالع والمحويت، رفرفت راياتُ النصر في الفضاء اليمني الحر، تملأه حناجر هادرة تردّد: “بقوة الله هزمنا أمريكا وسنهزِمُ (إسرائيل)”.
أبعدُ من عين الشمس.. اليمن ترسلُ إشاراتِها لكل الأرض:
رسائلُ مدوية أرسلتها الجموعُ اليمنية، تؤكّـد أن لا مكانَ للحياد، ولا عودةَ إلى الوراء، وأن اليمن اليوم هو من يصوغُ قواعدَ الاشتباك ويعيد رسمَ خرائط الردع.
اللافت أن المسيرات تجسيدٌ لتراكم وعي ثوري متين، وموقف عقائدي ثابت، وتَجَلٍّ عملي لمعادلة الردع الإيماني التي أعلنها السيد القائد، واستكملتها القواتُ المسلحة اليمنية ببيانٍ ناري بعد انتهاء المسيرات، في واحدةٍ من أكثر العمليات النوعيةِ دقةً وجرأة.
وبينما كانت القوات المسلحة اليمنية تحتفلُ بالنصر بطريقتها، كانت الجماهير تتدفَّقُ إلى ميدان السبعين في صنعاء، في حشدٍ مليوني لا يمكنُ للعقل السياسي التقليدي استيعابَه، ولا لتقديرات العدوّ التعامل معه، وكأن اليمن يكتُبُ معادلة التحدي والتمكين: هُنا شعبٌ لا يُقهر، هُنا وعي لا يُخدع، وهُنا أُمَّـة لا تخذُلُ من استنصرها.
بيانات المسيرات كانت نارًا محرقة فوق رؤوس الأعداء، وبلسمًا يشفي صدور المستضعفين، حَيثُ جاء فيها: “بقوة الله هزمنا أمريكا وسنهزم إسرائيل”، و”العدوّ الأمريكي فشل وتراجع وانكسر، وخرج من ساحة المعركة بلا مكاسب”، و”نبارك العمليات المباركة التي وصلت إلى مطار اللُّد، واخترقت كُـلُّ منظومات الردع”، و”جاهزون لأية مواجهة.. والمقاومة في غزة ليست وحدها”.
التحول الكبير: من الدفاع إلى الهجوم
ولأول مرة منذ عقودٍ من الزمن، يتحدثُ شعبٌ بأكمله من موقع المنتصر، لا المتضامِن، من موقع الفاعل في المعادلة الدولية لا المراقب الهامشي، وبات في صدارة المعركة، متقدمًا الصفوف لا خلفها، وأن زمن الخطابات الفاترة قد ولَّى، وجاء زمنُ الصواريخ الفرط صوتية.
أمريكا نفسُها خرجت من عدوانها على اليمن بفضيحةٍ استراتيجية مدوية، بعدَ ما فشلت في تحقيق أيًّا من أهدافها، واضطرَّت لإعلان التراجع من بوابة سلطنة عُمان، وها هي حكومة كيان العدوّ الصهيوني تدفعُ ثمنَ حماقاتها في غزة، بالصواريخ والمسيَّرات اليمنية.
الساعاتُ التي جاءت بعد المَسيرات شهدت إعلانًا عسكريًّا حاسمًا من القوات المسلحة اليمنية، أكّـد نجاحَ عملية نوعية استهدفت مطار “اللُّد” داخلَ الأراضي المحتلّة، بالتزامن مع قصف أهداف حسَّاسة في مدينة “يافا” المحتلّة.
عملية عسكرية مزلزلة -حسبَ مشاهد الرعب والهلع الذي تركته في صفوفِ المغتصبين الصهاينة- لم تكن منفصلةً عن المشهد الجماهيري، بل كانت امتدادًا ميدانيًّا لصوت الشارع، وجاءت بمثابةِ البرهان العملي على أن اليمنيين يترجَّمونها نارًا وصواريخَ.
عمليةٌ جاءت ترجمةً لواقع اليمن الجديد الذي بات مركَزَ الفعل لا ذيل الحدث، ودوره القيادي والفاعل في قلب محور الجهاد والمقاومة، في سياق تحوُّلٍ نوعي من حالة الدفاع إلى المبادرة، ومن حالة ترديد شعار وصرخة الشهيد القائد؛ إلى الفعل العسكري الحاسم.
وها هو كَيانُ العدوّ الصهيوني اليوم يصيحُ: “أمريكا تركتنا وحيدين في مواجهة اليمنيين”، يعي ماذا يعني أن يكونَ خصمَك اليمن وقيادتُه القرآنية؟، ماذا يعني أن تكون المواجهة مع يمنٍ جديد، كتب في ساحاته: “نحن قوم إذَا ضربنا أوجعنا وَإذَا هدّدنا فعلنا؟”.
واشنطن نفسها أعلنت وقفَ التصعيد العسكري ضد اليمن بعد أشهرٍ من المواجهة في البحر الأحمر، في خطوةٍ عُدَّت بمثابة إقرارٍ أمريكي بالهزيمة أمام صلابة اليمنيين وتطور قدراتهم العسكرية غير المتوقعة، لا سِـيَّـما بعد فشل الدفاعات الأمريكية في التصدِّي للصواريخ الباليستية اليمنية.
المسيرات المليونية: استفتاءٌ شعبي ببُعدٍ روحي
المسيرات المليونية لم تكن مُجَـرّد حشود؛ بل كانت أقربَ إلى استفتاء وطني شعبي، أكّـدت أن قرارَ الردع غدا خيارَ شعبٍ كامِلٍ يسنُدُ قيادتَه.. اللافتات، الشعارات، الخطابات، وحتى التعبيرات على وجوه المشاركين، كلها كانت تنطق بلغة القوة والوثوق، لغة الانتصار لا الانكسار، لغة الردع لا التنديد.
كما أنها لم تخلُ من البُعد الإيماني العميق؛ فبين الحشود ارتفعت لافتات “مسيرة الشكر لله”، في تعبيرٍ عن وعي جَمْعِي يرى أن النصرَ يكتُبُه الله سبحانَه لعبادِه المستجيبين له، المتحرِّكين والمستعدِّين للتضحية، وليس وليدَ الحظ أَو الصدفة، وهذا ما يمنحُ المعركةَ اليمنية بُعدًا روحيًّا يتجاوز السياسةَ والجغرافيا، ليكرِّسَ نموذجًا فريدًا في مقاومة الهيمنة والاستكبار.
ومن قلب الميادين أرسلت الجماهيرُ ثلاثَ رسائل سياسية وعسكرية، قالت لقاطني البيت الأبيض: “لم يعد بمقدوركم ممارسةُ العدوان بلا كلفة. لقد جرَّبتم التصعيد.. وخسرتم”، وللكيان المؤقَّت: “زمنُ تفوُّقِكم العسكري قد انتهى. الصواريخ اليمنية تعرفُ طريقَها إلى عمقكم الاستراتيجي، ولا عائق يمنعُها”، وللشعوب الحرة: “بالإرادَة والعقيدة والإبداع، يمكن قلب موازين القوى، مهما كان الفارق في العتاد والتمويل”.
رسائلُ حملت عنوانًا لمرحلةٍ قرآنية، حَيثُ احتشد الملايين لا ليشكروا قائدًا أَو حزبًا، بل ليقولوا شُكرًا لله، في انعكاسٍ روحي عظيم لطبيعة المعركة اليمنية، التي تنطلقُ من يقينٍ قرآني أن النصر من عند الله، وأن التحرير لا يأتي إلا من باب الإيمان أولًا، ثم القوة والإرادَة والموقف.
أصواتُ الحشود، وكأنها استفتاء مفتوحٌ على الشرعية الثورية، وتجديدٌ للعهد مع القضية الفلسطينية، وتأصيلٌ لمعركة الأُمَّــة مع أعدائها، ورسالة مدوية تقول: “هنا اليمن.. هنا صوتُ الله في زمن الصمت.. هنا الشعبُ الذي صنع من رماده نيرانًا تُمطِرُ العدوّ المجرم، وتغسلُ عارَ الخِذلان العربي بماء النصر القرآني”.
ومن قرأ المشهدَ جيِّدًا سيدرك أن اليمن اليوم، بات الرقمَ الأصعب، الذي قلب الطاولة على أعظم قوى العالم المتغطرس، وقالها اليمنيون بصوتٍ واحد: “هزمنا أمريكا.. وسنهزِمُ (إسرائيل)”، والعالم -شاء أم أبى- بدأ يشعُرُ بذلك.
نقلا عن المسيرة نت