قال الدكتور أندريه زكي رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر فى وعظته أثناء احتفال رئاسة الطائفة الإنجيلية بكنيسة قصر الدوبارة: الإخوة الأحباء، أود أن أحدِّثكم اليوم عن معنى ميلاد السيد المسيح للبشرية. 

 في السابق اعتدت أن أحدِّثكم عن أحداث ميلاد السيد المسيح، ولكن اليوم أريد أن أركز معكم على معنى ميلاد السيد المسيح وسط كلِّ ما يحيط بنا من أحداثٍ وتحدياتٍ.

 
• السياق المعاصر:
          تشهد منطقتنا العربية أحداثًا مؤلمةً
 نحتفل بعيد الميلاد هذا العام ومازال نزيف الدم مستمرًّا. 
 خصوصًا في غزة، واستمرار الحرب المدمرة. 
 شهدنا ورأينا الأحداث في سوريا وسط مخاوف وقلق حول المستقبل. 
 في السودان مازال القتال مستمرًّا وضحاياه من الأبرياء الذين لا يرغبون إلا في حياةٍ سالمةٍ هادئةٍ.
               صعوبة الحياة أصبحت واقعًا لكثيرين
 هناك تحديات اقتصادية تواجه الجميع. 
 والإصلاح الاقتصادي يتطلب خطوات هامة. 
كيف يؤثر ميلاد المسيح في منظورنا للحياة بشكل عميق؟
 إن هذه التحديات وغيرها تضعنا في مواجهة أسئلة وجودية عميقة. 
 لماذا نحن هنا؟ 
 وهل هناك حياة لها معنى رغم كل هذه التحديات المحيطة بنا؟ 
 كيف يؤثر الميلاد في رؤيتنا للحياة؟
• المقطع الكتابي: 
أتأمل اليوم معكم في كلمات البشير يوحنا، أحد تلاميذ السيد المسيح، حول هذه الأسئلة الوجودية:
"اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلًا. وَهذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْهُ وَنُخْبِرُكُمْ بِهِ: إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ."
(1يو 1: 1 – 5)
• تفسير المقطع الكتابي:
   سياق سياسي مضطرب
 يكتب البشير يوحنا هذه الكلمات قرب نهاية القرن الأول الميلادي. 
                    الإمبراطور الروماني تراجان وسياسة القمع 
 الإمبراطور الروماني تراجان -الذي حكم الإمبراطورية الرومانية بين الأعوام 98 إلى 117م- قام بممارسات سياسية قمعية، وكان المجتمع الذي يكتب له البشير يوحنا متأثرًا بشدة بهذه السياسات. 
 مارس تراجان أشرس أنواع القمع وكان يفرض سياسة الأرض المحروقة في حروبه، ولم يبالِ بالأبرياء، محققًا أطماعه السياسية.

فرض ضرائب باهظة
 لم تكن حروب تراجان هي سبب الضيق الوحيد، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط حيث فرض ضرائب باهظة تُدفع لروما كل عام. 
تابع “ زكى ”  خلال عظته: أزمات اقتصادية في المنطقة
 أدت هذه الضرائب إلى ضيق العيش وحدوث أزمات اقتصادية شاملة في المنطقة، وفقًا لما يحكيه المؤرخ يوسيفوس في كتابه "أخبار اليهود".
رسالة مزلزلة
 وسط هذا السياق السياسي والاقتصادي الصعب، يكتب يوحنا رسالةً مزلزلةً للمجتمعات الشرق الأوسطية: أن الحياة أُظهِرت! ما الذي تعنيه هذه الكلمات؟
• السيد المسيح "كلمة الحياة"
 فيحكي كيف أن تلاميذ السيد المسيح قد عاشوا بجوار السيد المسيح بصفته "كلمة الحياة" (وهو نفس المصطلح الذي يستخدمه في مقدمة انجيل يوحنا عن المسيح كونه كلمة الله). 
يركز يوحنا على تجسد السيد المسيح
 بميلاد المسيح: هذه الحياة قد أُظهِرت لأن المسيح ظهر في الجسد. 
 في العدد الأول يركز البشير يوحنا عن حقيقة تجسد السيد المسيح وأخذه لجسد حقيقي. 
 ويحكي كيف أن المسيح كان يسمعه المحيطون به، يرونه بعيونهم، وتلمسه الأيادي.
نشر الخبر السار
 عاش التلاميذ مع السيد المسيح ورأوا وشهدوا الأخبار السارة لهذا فهم يخبرون اليوم بالحياة التي كانت عند الآب. 
ميلاد المسيح يواجه الموت الذي يسود على العالم
 وأشكال الموت كثيرة، ولكن الحياة تعني أن ميلاد السيد المسيح يواجه الموت الذي يسود على العالم. 
المعنى، الهدف وسبب الوجود
 ولكن ما المعنى من كل ذلك؟ ما الهدف والغاية التي نعيش لأجلها؟ 
  يقول البشير يوحنا إن الإجابة على كل هذه الأسئلة هي الحياة التي أظهرها لنا السيد المسيح في لحظة تجسده وميلاده.
• الشركة مع الله
 هدف البشير يوحنا هو أن يخبر هذا المجتمع الصغير عن "الشركة" مع الله. 
 انظروا كلمات يوحنا: "لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا" هذا هو الهدف النهائي والغاية العظمى للحياة الإنسانية:
 أن يكون للإنسان شركة مع الله. وهذه الشركة هي التي تعطي للحياة الإنسانية معنى. 
اشتياق يشبع فقط بالعلاقة مع الله
 هناك اشتياق بداخل كل إنسان لا يشبعه منصب، أو أسرة، أو علاقة، أو مكسب، أو مال أو نفوذ مهما كان، بل تشبعه فقط العلاقة مع الله اللانهائي وغير المحدود.
الميلاد هو الباب نحو العلاقة والشركة مع الله
 بميلاد المسيح التقت الأرض بالسماء وأصبحت الشركة بين الله والإنسان ممكنة. 
 التقى المحدود بغير المحدود، التقى النسبي مع المطلق.  
 أن روعة الميلاد أنه يفتح لنا الباب نحو العلاقة القادرة أن تعطينا المعنى، علاقتنا بالله.

• الفرح الكامل 
 لكن انظروا معي ما يقوله يوحنا أيضًا: ما الذي سيحدث حينما نتمتع بهذه الشركة؟ 
 يقول يوحنا: "وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلًا" 
 ما هو معنى الفرح الكامل؟ أحبائي، هناك فرح غير كامل، هناك سعاداتٌ مختلفة، أشكال مختلفة من السعادة. 
الفرح الذي يشبع الفراغ الوجودي
 قد نصبح سعداء حينما نحصل على ترقية، حينما نرث ميراثًا ماديًّا ضخمًا، حينما حتى نرى أبناءنا في نجاح. 
 ولكن يوحنا يتكلم عن نوع آخر من الفرح، فرح كامل، أو بتعبير آخر: فرح مطلق! 
 هذا النوع من الفرح هو الذي يشبع الفراغ الوجودي، هو الذي يشبع البحث الإنساني الحثيث عن الهوية والذات.
• التطبيق العملي:
         رجاء الميلاد وسط الظروف
 لم تكن ظروف المجتمع الذي كتب له يوحنا سهلة، بل كانت صعبة ومعقدة 
 ومع هذا كان هناك رجاء الميلاد 
الشركة مع الله هي الرجاء
  كان لدى يوحنا رسالة مباشرة: الشركة مع الله، علاقة الإنسان بالله
 لقد خُلِقنا وصُمِّمنا على هذا النسق: أن نُشبع بعلاقتنا مع الله.

فرح رغم الواقع
 الفرح المطلق ممكن: وماذا ستكون النتيجة؟ فرح مطلق، فرح لا يتجاهل الظروف، ولا يزيف الواقع، لكنه فرح بالرغم من الواقع. 
 إنه فرح داخلي وسلام في القلب.
 لقد قال السيد المسيح: "جئت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل" وهذا هو معنى مجيء المسيح، حينما وُلِد، لكي يعطي للإنسان معنى وقيمة.
أختتم: أحبائي، أدعوكم أن تتأملوا في هذه القيم الثلاث: الحياة، الشركة، والفرح. 
ليكُن ميلاد المسيح اليوم فرصة لندرك معنى الحياة وغاية الوجود...
آمين...

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: میلاد السید المسیح الشرکة مع الله میلاد المسیح

إقرأ أيضاً:

رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (2 من 3)

في هذا الجزء الثاني من سيرة المفكر الإسلامي عبد الكريم جرمانوس، التي تنشرها صحيفة "عربي21" للكاتب والباحث المصري جمال سلطان بالتزامن مع نشرها على صفحته الرسمية على فيسبوك، نتابع رحلة رجلٍ استُبعد من الأزهر ظلماً، متهمًا بالجاسوسية، لكنه صمد أمام محنته، واستثمر علاقاته الشخصية والتربوية لتعميق دراسته وإثراء تجربته الفكرية والدينية.

يعكس النص تجربة جرمانوس الفريدة في مصر والحجاز، حيث الجمع بين التحصيل العلمي الصارم في اللغة العربية وآدابها، وبين التأمل الروحي والتفاعل الإنساني العميق، سواء مع رفقاء الدراسة الفقراء أو مع مجتمعات المسلمين في القاهرة والمدينة ومكة. كما يسلط الضوء على إيمانه العميق بالحضارة الإسلامية وحماية اللغة العربية، ورفضه لمحاولات التغريب أو التخفيف من قيم الأمة.

في هذا الجزء، يستعرض سلطان طرائف ومواقف شخصية تكشف عن أخلاق جرمانوس، من مروءته مع زملائه في الدراسة إلى تقديره للمعاني الروحية في الحج، وهو يمزج بين الرواية التاريخية، والسيرة الذاتية، والتأمل الفكري، ليقدم صورة متكاملة عن رجلٍ جمع بين العلم، والتدين، والإنسانية، والوفاء للتراث الحضاري.

طرائف لها معنى

بعد إبعاده من الأزهر على خلفية اتهامه ـ ظلمًا ـ بالجاسوسية، اتجه "عبد الكريم جرمانوس" إلى الاعتماد على علاقاته الشخصية لاستكمال دراسة اللغة العربية وآدابها، فتواصل مع عدد من العلماء للدراسة على أيديهم خارج الأزهر مثل الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، والشيخ علي الزنكلوني، الذين أحاطوه برعايتهم، وأخلصوا له الدعم وتسهيل الدراسة.

ومن طرائف ما يحكيه "جرمانوس" أن نسخة الكتاب الذي كان يدرس منه كانت رديئة وقديمة وحروفها باهتة والقراءة فيها صعبة، وكان له زميل أزهري مصري فقير يدرس معه ويشاركه منهج التعليم ومقرراته، ففوجئ بهذا الطالب الفقير يؤثره على نفسه، ويعطيه نسخته من الكتاب وكانت نسخة جيدة وجديدة وواضحة للقراءة وأخذ النسخة القديمة باعتبار أنه عربي الأصل واللغة فيسهل عليه القراءة فيها، فحمل له "جرمانوس" هذا الجميل، وكان قد لاحظ أن هذا الأزهري الفقير ينتعل حذاء مهترئا قديما مثيرا لشفقة من يراه، فاستغلها فرصة أثناء خروجهم من الصلاة في أحد المساجد ومنحه حذاءه الفاخر الجديد وأخذ الحذاء المهترئ فانتعله، فرفض صاحبه المصري ذلك، وتبادلوا الجدل والعزيمة والرفض والقبول، فأراد أن يفرض عليه الأمر الواقع فلبس النعل المهترئ وانطلق مسرعا بعيدا عن المسجد تاركا صاحبه المصري مرغما على انتعال الحذاء الجديد الفاخر، فلما ركب الترام رآه الناس فاستغربوا من هذا "الأوربي" الذي ينتعل حذاء قديما مهترئا، وراحوا يتغامزون، وكان معه في الترام الأديب إبراهيم عبد القادر المازني، فسأله: ماذا بك يا أستاذ عبد الكريم؟ فراح يقص عليه الحكاية بلغته العربية الفصحى التي يلتزم بها، وسمعها الركاب في الترام فراحوا يكبرون وأقبلوا عليه مثنين على فعله ومروءته.

ما إن غشيت غرفتي بمكة، واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني، واستولى عليّ النعاس فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، وكأنه ينشر كلمة الله فيضيء بها العالم داعياً إلى الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة، لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد، وهو يجول أثناء الليل في شوارع بغداد، ويجوس خلال أزقتها، فيكافئ الأتقياء، وينزل العقوبة بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة، وقد سادها حكم العرب فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفقه والفلك، حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء ؛ ولا يظن أحد أن ما شاهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث الأحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق الإيمان" .كانت متعة عبد الكريم جرمانوس أثناء إقامته في مصر تتلخص في تجواله ليلا في القاهرة المملوكية، في الأزهر وحي الحسين، يقول صديقه ورفيق دربه محمود تيمور: "كانت أوقاته المفضلة هي التي يؤم فيها بيوت الله ، يعد ذلك أزكى رياضة نفسية له، يجول في حي الحسين ليلا، يستروح منه الصفاء والهدوء، ويتنسم فيه روح الإيمان، ويظل في تطوافه ملتحفاً بعباءته العربية الفضفاضة، حتى إذا تعالى صوت المؤذن للفجر، داعياً للصلاة في السحر، وقف متخشعاً يترشف بأذن عاشق ولهان ذلك الأذان الحلو النغم، فيسري في جسده سريان رحيق علوي من روضات الجنان".

كان "جرمانوس" يلاحظ مشاهد التخلف الذي يعيش فيه المجتمع المصري، ويشعر بالأسى والحزن من ذلك، لكنه كان يرى أن هذا التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي سببه المباشر والأهم هو الاستعمار الغربي، يقول : "أما الواقع المؤلم لبلاد الإسلام اليوم فمصدره هو الحضارة الأوروبية وحدها، لأنها حاربت هذه الشعوب الآمنة بالحديد والنار مستعمرة ربوعها، ومدعية أنها تحمل رسالة التقدم والازدهار".

وقد عتب "عبد الكريم جرمانوس" على المصريين في ذلك الوقت ميلهم إلى التغريب، وتقليد الغرب في الثياب والمأكل والمشرب وكثير من الآداب والسلوكيات، ودعاهم إلى الاعتصام بقيمهم وتقاليدهم التي تشكل شخصيتهم الإسلامية المميزة، كما رفض الدعوات التي أطلقها بعض المفكرين المصريين في ذلك الوقت، من المهزومين حضاريا، لاستخدام اللهجة العامية في الكتابة بدل العربية الفصحى بدعوى تسهيل اللغة، ندد بتلك الدعوة بشدة، واعتبرها هزيمة حضارية، وامتدادا لخبث المستشرقين.

يقول لصديقه محمود تيمور: "إننا لا نلوم أعداء العربية إذا حاربوها استجابة إلى أضغانهم الحاقدة، ولكننا نلوم العرب أنفسهم لأنهم يهجرونها في أحاديثهم العامة والخاصة"، وناقش أدلة أنصار هذه الدعوى مناقشة علمية وتاريخية ولغوية مبهرة، وحكى أن أديبا عراقيا أهداه رواية كتب حواراتها باللهجة العامية، فاستعصى عليه فهمها، فاستدعى أديبا مصريا ليشرحها فاستعصى على الأديب المصري فهمها، فاستعان بالسفير العراقي وكان من منطقة عراقية مختلفة عن تلك التي يقطنها المؤلف فاستعصى عليه فهم كثير منها، وهو يحكي تلك الواقعة ليؤكد على أن الهدف الخبيث من الدعوة لاستبدال العامية بالفصحى هو تمزيق هذه الأمة بحيث لا يفهم بعضهم لغة بعض، كما يستعصي عليهم بعد ذلك قراءة القرآن وفهم معانيه، ومع الأسف كان يقود تلك الدعوة إلى استخدام العامية أسماء كبيرة ومؤثرة منها أحمد لطفي السيد الذي كان يرأس الجامعة المصرية، وعبد العزيز باشا فهمي وسلامة موسى وآخرون، والمدهش أنه أثر كثيرا في صديقه الأديب الكبير محمود تيمور، الذي كان يكتب حوارات قصصه أحيانا باللهجة العامية، لدرجة أنه انصرف تماما بعد ذلك عن استخدام العامية في رواياته.

رغب عبد الكريم في تحقيق حلمه بالحج إلى بيت الله الحرام، فركب السفينة إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة ثم المدينة ثم ذهب إلى الرياض وسط نجد بعد انتهاء الحج، وهو يحكي وقائع تلك الرحلة بتبتل شديد في كتابه "الله أكبر"، بمشاعر فياضة، ورقة متناهية، وتفاصيل دقيقة عن الأماكن ومن صحبهم من حجاج من أجناس مختلفة، جمعهم الشوق إلى حج البيت الحرام وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحدث حتى عن الناقة التي ركبها أثناء تجواله، حيث لم تكن السيارات قد انتشرت على نطاق واسع، وسجل مشاعره في حنوه وشفقته على الناقة ونظرات الشكر التي رآها في نظرتها إليه، وكيف نظرت إليه نظرة عتاب عندما أعادها إلى البدوي الذي تعامل مع الناقة بخشونة وقسوة، وكتب تأملات تفيض حبا لحضارة الإسلام وتاريخه المهيب بصورة مدهشة، فمن ذلك ما كتبه عندما حط رحاله في "أم القرى" مكة المكرمة.

يقول: "وما إن غشيت غرفتي بمكة، واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني، واستولى عليّ النعاس فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، وكأنه ينشر كلمة الله فيضيء بها العالم داعياً إلى الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة، لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد، وهو يجول أثناء الليل في شوارع بغداد، ويجوس خلال أزقتها، فيكافئ الأتقياء، وينزل العقوبة بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة، وقد سادها حكم العرب فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفقه والفلك، حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء ؛ ولا يظن أحد أن ما شاهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث الأحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق الإيمان" .

والمؤسف أن نسخ هذا الكتاب المهم الذي سجل فيه قصة إسلامه وحجه وبعض مشاهده في مصر، شبه مختفية اليوم، وأتمنى أن تقوم جهة رسمية في مصر أو السعودية بإعادة طبعه، ونشره بالعربية والإنجليزية، لأنه ذو أهمية في سيرة هذا الرجل العظيم، كما أن هذا الكتاب ترجم إلى لغات أوربية كثيرة، وكان له أصداء كبيرة هناك وقتها.

الشيء الوحيد الذي كان ينغص عليه عيشه، ويؤلمه، هو أن زوجته التي يحبها ويحترمها كثيرا، ما زالت باقية على ديانتها الأولى، المسيحية، وكان يبتهل إلى الله دائما أن يهديها إلى الإسلام، حتى وقعت له المفاجأة التي غمرته بالسعادة.

ونستكمل الحديث في الحلقة المقبلة بإذن الله..

إقرأ أيضا: رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (1 من 3)

مقالات مشابهة

  • معنى الصلاة الواردة في قوله تعالى صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وبيان شبهة في ذلك
  • معنى العفو وفضله في الشرع الشريف
  • الشركة القابضة تكرم رئيس مياه القاهرة.. تفاصيل
  • الحاج حسن الإسكندراني.. المجذوب الذي فقد عقله نتيجة غدر الصحاب
  • رئيس الوزراء يشهد مراسم توقيع اتفاقية تعاون بين الشركة المصرية لنقل الكهرباء وشركة «K&K» الإماراتية
  • في زحمة الحياة
  • مدى نجاسة بول القطة وحكم الصلاة في المكان الذي تلوث به
  • رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (2 من 3)
  • الطائفة الإنجيلية: قمة شرم الشيخ تجسّد الدور المصري التاريخي في دعم جهود السلام
  • رئيس الطائفة الإنجيلية: مصر تؤكد ريادتها في ترسيخ السلام من خلال “قمة شرم الشيخ”