آن الأوان لإحكام العقل وتجنب الحروب.. نص كلمة الرئيس السيسي في القمة الثلاثية
تاريخ النشر: 8th, January 2025 GMT
شارك الرئيس عبد الفتاح السيسي، اليوم الأربعاء، في أعمال القمة العاشرة للآلية الثلاثية بين مصر وقبرص واليونان، والاجتماع الثاني للجنة الحكومية العليا المشتركة بين مصر وقبرص، واللذين عقدا بقصر الاتحادية بالقاهرة.
وتلا الاجتماعان عقد مؤتمر صحفي شارك فيه الرئيس وكل من الرئيس القبرصي "نيكوس خريستودوليدس" ورئيس الوزراء اليوناني "كيرياكوس متسوتاكيس"، وفيما يلي نص كلمة الرئيس خلال المؤتمر الصحفي: الرئيس "نيكوس كريستودوليدس".
لقد شهدت قمتنا اليوم، مناقشات ثرية وبناءة.. تناولت سبل تعزيز تعاوننا المشترك في مختلف المجالات، وبشكل خاص في مجال التعاون الاقتصادي، وزيادة التبادل التجاري والاستثماري.. وأرحب في هذا الصدد، بعقد منتدى الأعمال اليوم على هامش هذه القمة، والذي يستهدف بحث فرص تعزيز الاستثمارات والتجارة المتبادلة، بين مجتمعات الأعمال في دولنا الثلاث.
تطوير مشروعات مشتركةوقد كان ملف الطاقة، حاضرا بقوة في محادثاتنا اليوم.. حيث اتفقنا على ضرورة تطوير مشروعات مشتركة، في مجالات الطاقة المتجددة والربط الكهربائى، ونقل الغاز الطبيعي، وتعزيز البنية التحتية للربط الكهربائي بين الدول الثلاث.. بما يحقق التكامل الإقليمي في قطاع الطاقة، ويسهم بشكل فعال في ضمان أمن الطاقة العالمي، الذي عانى من الاضطراب، جراء الأزمات العالمية الأخيرة.
وأود الترحيب في هذا الإطار، بما شهدناه اليوم من توقيع عدد من مذكرات التفاهم، سواء على المستوى الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص، أو الثنائي بين مصر وقبرص.. وأؤكد في هذا الصدد، على ضرورة التنفيذ الفعال لتلك الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، لما لها من فوائد اقتصادية مشتركة.
السيدات والسادة الحضور، تتشارك مصر وقبرص واليونان الرؤى، بالنسبة للتعامل مع التحديات والأزمات الراهنة، التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
وكانت قمة اليوم، فرصة لمناقشة الكارثة الإنسانية غير المسبوقة، التي يتعرض لها إخواننا الفلسطينيون في غزة.. حيث أطلعت الضيفين العزيزين، على الجهود المتواصلة التي تبذلها مصر، لوقف إطلاق النار، وضمان نفاذ المساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح الرهائن.
وقد أكدنا في هذا الصدد، على أنه لا سبيل لتحقيق الاستقرار فى المنطقة، إلا بوقف شامل لإطلاق النار، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية بشكل فوري، ووقف أية ممارسات تؤدي إلى التهجير القسري للفلسطينيين، أو بحرق الأرض وخلق الظروف التي تدفع الفلسطينيين للمغادرة. وأشدد في هذا الصدد، على أننا نرفض تلك الممارسات والسياسات، وأن مصر لن تقبل بها أبدا.
لقد أكدنا خلال القمة، على أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وفقا للمرجعيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، هي السبيل الوحيد لتحقيق السلام المستدام، وبالتالي تحقيق التنمية الاقتصادية، والتعاون الشامل المنشود بين شعوب المنطقة.
وأؤكد على أن المنطقة، لا تتحمل المزيد من المغامرات، التي قد تهز استقرارها وتعصف بدولها، وتؤثر سلبا على مقدرات شعوبها.
لقد آن الأوان لإحكام العقل، والأخذ بالاختيارات السليمة، وتجنب المزيد من الحروب والدمار والكراهية.
ناقشنا كذلك الأوضاع فى سوريا، وأكدنا على تطلعنا، لتحقيق طموحات الشعب السوري في الاستقرار والأمن.. كما شددنا على أهمية الحفاظ على وحدة وسلامة وسيادة سوريا، وأن تتسم العملية الانتقالية بالشمولية والتعددية.
وتبادلنا وجهات النظر أيضا، حول الأزمة الليبية، واتفقنا على أهمية تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي في ليبيا.. وتناولنا كذلك تطورات الأوضاع في السودان واليمن، وأكدنا بصفة عامة، على ضرورة سرعة تسوية الأزمات والصراعات الدائرة، تحقيقا للاستقرار، وبما يحافظ على ثروات البلاد وشعوبها.
السيدات والسادة الحضور، لقد سعدت صباح اليوم أيضا، بترؤس أعمال الاجتماع الثاني، للجنة الحكومية العليا المشتركة، بين مصر وقبرص، مع فخامة رئيس جمهورية قبرص.. حيث أكدنا على التزامنا المشترك، بتعزيز الأمن والاستقرار فى منطقتنا، ومواصلة دفع العلاقات الثنائية، بين بلدينا الصديقين قدما، فى شتى المجالات ذات الاهتمام المشترك.
وإنه لمن دواعي سروري، ما أشهده من تقدم ملموس، فى العديد من ملفات التعاون بين مصر وقبرص... بما في ذلك التعاون في مجال الطاقة، واستثمار الموارد الطبيعية فى البحر المتوسط، بالإضافة إلى التعاون فى مجالات الأمن البحري، والتكنولوجيا، والتعليم والبحث العلمي.
واسمحوا لي قبل أن أختم كلمتي أن أوجه الشكر لفخامة رئيس قبرص ودولة رئيس وزراء اليونان على الدور الذي قامت به قبرص واليونان خلال السنوات العشر الماضية، فمنذ عام 2014 كانتا أول دولتين متفهمتين للموقف الذي مرت به مصر، وأتوجه إليهما بالشكر على الدور الكبير الذي قاما به، لأنه في ذلك الوقت كانت الظروف صعبة جداً في مصر وكثير من دول العالم لم تكن متفهمة ما يحدث في مصر باستثناء قبرص واليونان، وبالتالي فإني أشكرهم.
وختاما، فإنني أجدد الترحيب بالضيفين العزيزين.. وأؤكد حرص مصر، على استمرار التعاون مع اليونان وقبرص، لضمان مستقبل مزدهر للعلاقات بين دولنا.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: السيسي مصر وقبرص واليونان القمة العاشرة مشروعات مشتركة المزيد قبرص والیونان بین مصر وقبرص فی هذا الصدد على أن
إقرأ أيضاً:
ما هي الصدمة الثلاثية التي تعيق عودة السوريين إلى وطنهم؟
شكل سقوط نظام بشار الأسد ديسمبر/كانون الأول 2024 نقطة تحول مفصلية في الأزمة السورية المستمرة المتعلقة بالتشريد القسري (للاجئين والنازحين داخليا)، غير أن العودة الجماعية المرتقبة ما زالت معرقلة بفعل جملة من العقبات المركبة التي تتجاوز نطاق التحليل التقليدي.
تشير إحصائيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى أنه بين ديسمبر/كانون الأول 2024 ومنتصف 2025، عاد ما يقارب 500 ألف لاجئ و1.2 مليون نازح داخليا إلى مناطقهم الأصلية، وهي أرقام متواضعة مقارنة بإجمالي أعداد المشردين قسريا، والذين يناهز عددهم 6.8 ملايين لاجئ، و6.9 ملايين نازح داخليا، موزعين في دول المنطقة وخارجها.
ويكشف هذا المعدل المحدود للعودة، رغم إزالة العائق السياسي الرئيسي، عن وجود معوقات أعمق وأشد تعقيدا، تستوجب دراسة حقوقية أكثر تفصيلا.
تركزت الجهود التقليدية في فهم هذه العقبات على الجوانب المادية والملموسة؛ كالبنية التحتية المدمرة، والنزاعات المتصلة بحقوق الملكية، والتدهور الاقتصادي، والمخاوف الأمنية المتبقية، دون أن يُمنح الاهتمام الكافي لبعد بدأ يفرض نفسه بقوة، بعد أحداث الساحل والسويداء في سوريا، وهو انتشار خطاب الكراهية والتحريض الطائفي على الإنترنت، والذي يتخطى حدود المكان، ويسهم في إدامة حالة التشريد من خلال آليات رقمية وافتراضية.
تفترض هذه المقالة أن خطاب الكراهية الإلكتروني والتحريض الطائفي والانتشار الواسع لمقاطع الفيديو التي تصور العنف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تشكل فئة مستقلة من عقبات العودة، ذات أثر واضح في تشكيل قرارات العودة لدى النازحين واللاجئين السوريين.
عوائق العودة الطائفيةيمثل تحول التوترات الطائفية من المجال المادي إلى الفضاء الرقمي تطورا في كيفية تعاطي مجتمعات ما بعد الصراع مع الانقسامات الهوياتية وتكريسها.
تبين المفاهيم التقليدية للطائفية، المبنية على السيطرة على الأرض والعنف المباشر، محدوديتها في استيعاب ديناميكيات النزوح المعاصرة، حيث خلقت الوسائل التقنية مساحات افتراضية جديدة تطيل أمد النزاع.
إعلانيتطلب هذا التطور إعادة نظر في مفهوم الحواجز الطائفية، آخذين في الحسبان الخصائص الخاصة للبيئة الرقمية؛ من حيث استدامتها، وسهولة انتشارها، وقدرتها على تجاوز الحواجز الزمنية والجغرافية.
تتمثل الطائفية الرقمية بنشر الكراهية القائمة على الهوية عبر المنصات الإلكترونية بشكل مكثف، مما يؤدي إلى تعزيز الشقاقات والتوترات والانقسامات الداخلية، مهددة الاستقرار المجتمعي لمرحلة ما بعد الصراع.
وعلى عكس العنف الطائفي التقليدي الذي يتطلب التقارب الجغرافي والقدرة التنظيمية، تعمل الطائفية الرقمية من خلال شبكات لامركزية عابرة للحدود، تسهم في ترسيخ الانقسامات بين مجتمعات الشتات.
وتعكس الحالة السورية هذا التحول بوضوح، حيث تظهر منصات التواصل الاجتماعي انتشارا واسعا للخطاب الطائفي قبل وبعد سقوط نظام الأسد، لا سيما عقب أحداث الساحل والسويداء، مما أدى إلى خلق بنية رقمية متزايدة الحدة في الانقسامات الطائفية.
تلعب منصات التواصل الاجتماعي دورا رئيسيا في تعميق هذه الانقسامات عبر آليات متعددة:
أولا، تساهم الخوارزميات في تضخيم المحتوى الطائفي وتعزيز انتشاره، في حين تحجَب الأصوات المعتدلة. ثانيا، يؤدي الطابع الفيروسي للمحتوى التحريضي إلى منح الحوادث الفردية أو المحلية حضورا رقميا مبالغا فيه، مما يعمم مخاوف محلية لتصبح عامة. ثالثا، تسمح الطبيعة المجهولة لكثير من المنصات بنشر خطاب متطرف يصعب التعبير عنه في التفاعلات الاجتماعية المباشرة.وتنتج هذه الآليات مجتمعة ما يمكن وصفه بـ"البنية التحتية العاطفية للكراهية"، أي البنية الرقمية التي تغذي وتعزز المشاعر الطائفية بشكل دائم عبر الزمان والمكان.
التأثير النفسي والاجتماعي لخطاب الكراهية عبر الإنترنتيكشف الترابط بين التعرض الرقمي للمحتوى الطائفي وتحديات الصحة النفسية للنازحين عن مسارات معقدة يتحول من خلالها خطاب الكراهية الإلكتروني إلى معاناة إنسانية فعلية.
ويمثل السياق السوري تحديا في هذا المجال، إذ يواجه النازحون قسريا مصادر متشابكة ومتراكمة للصدمات النفسية؛ بدءا من التعرض المباشر للعنف، مرورا بالصعوبات المرتبطة بالنزوح، وانتهاء بالتعرض المستمر للمحتوى الرقمي الطائفي الموجه ضد مجتمعاتهم. وتعقد هذه "الصدمة الثلاثية" التحديات النفسية التي يعانيها ضحايا التشريد القسري.
تسهل المنصات الرقمية انتشار ما يسميه المختصون النفسيون "الصدمة غير المباشرة"، عبر التداول الواسع لمقاطع الفيديو التي تصور مشاهد العنف، ما يؤدي إلى إعادة تنشيط استجابات الصدمة لدى المشاهدين.
وتشير الدراسات التي أجريت حول النازحين إلى أن هذه الآثار النفسية لا تتضاءل مع مرور الوقت، بل قد تتزايد نتيجة استمرار التعرض للمحتوى الرقمي الصادم، والذي تساهم الخوارزميات في تكرار ظهوره أمام المستخدمين الذين سبق أن تفاعلوا مع محتوى مرتبط بالصراع، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء دورات من الصدمات المتجددة، تبقي النازحين في حالة تأهب مستمرة، حتى مع تراجع التهديدات الجسدية.
يسهم زرع الخوف عن طريق الخطاب الطائفي الرقمي في تشكيل قرارات العودة لدى النازحين واللاجئين عبر آليات نفسية محددة، حيث يخلق المحتوى التحريضي عبر الإنترنت قلقا استباقيا تجاه سيناريوهات العودة، محولا الاحتمالات النظرية إلى مخاوف واقعية من خلال استخدام لغة وصور تهديدية ومباشرة.
إعلانوتؤكد دراسات ميدانية حول العائدين المحتملين أن التعرض للمحتوى الطائفي الرقمي يزيد من شعورهم بالتهديد، ويضعف الثقة في الضمانات الأمنية المعلنة، ويرفع من تقديرات المخاطر المحتملة عند العودة.
إن استمرار تواجد المحتوى التحريضي على الإنترنت يجعل من التهديدات التي صدرت خلال ذروة النزاع حاضرة دوما في أذهان النازحين، فيما يعرف بـ"الانهيار الزمني"، مما يضطر العائدين المحتملين إلى تقييم أوضاعهم لا بناء على الظروف الراهنة فحسب، بل استنادا إلى المحتوى الرقمي المستمر الذي يشير إلى ضعف محتمل في المستقبل.
ساحة المعركة الرقمية في سوريا وأثرها على ديناميكيات العودةبرزت البيئة الرقمية في سوريا ما بعد الصراع كساحة معركة محتدمة، تتصارع فيها السرديات الطائفية حول تشكيل تصورات العودة وظروفها، كانت هذه الظاهرة في البداية منحصرة نسبيا ضمن نطاق المواجهة بين الموالين لنظام الأسد والمعارضين له، غير أن الأحداث الأخيرة في الساحل خلال مارس/ آذار، وفي السويداء خلال يوليو/ تموز 2025، فجرت موجة من الخطاب الطائفي، يرجح أن تكون لها تداعيات بعيدة المدى تتجاوز المستقبل المنظور.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على مجرد تصعيد في حدة الخطاب، بل تشير إلى تحول جوهري في آليات تكوين الهويات الطائفية وتوظيفها سياسيا واجتماعيا كسلاح في الصراع السوري.
وتستغل هذه الهويات البيئة الرقمية متعددة المنصات، ما أدى إلى انتشار واسع النطاق لمحتوى الكراهية، مع استدامة لم تعهدها الأشكال التقليدية من النزاعات الطائفية.
تطور الخطاب الطائفي على الإنترنت من مجرد إشارات مبطنة أو تلميحات غامضة إلى خطاب صريح قائم على استهداف واضح للهويات الفرعية، ما أدى إلى نشوء توترات وانقسامات داخلية تهدد بجدية فرص التعايش السلمي.
ويعكس هذا التحول اللغوي تحولات هيكلية أعمق على مستوى الإدراك المجتمعي السوري لمفاهيم الاختلاف والانتماء، إذ يسهم الأرشيف الرقمي للهويات الطائفية عبر الوسوم (الهاشتاغات) والمجموعات والعبارات المنتشرة في خلق ما يمكن وصفه بـ"أرشيف الكراهية"، وهو ما يجبر العائدين المحتملين على التعامل معه كجزء من تقييمهم لفرص العودة الآمنة إلى مناطقهم الأصلية.
وقد برزت منصات رقمية محددة كقنوات رئيسية لنشر وتعزيز الخطاب الطائفي، وتمتاز كل منها بسمات خاصة تؤثر في طبيعة المحتوى المنشور وانتشاره. إذ تتحول مجموعات فيسبوك المنظمة وفق التقسيمات الجغرافية إلى ساحات افتراضية توثق فيها الحوادث الطائفية وتناقش وتضخم، فتُحول بذلك الحوادث المحلية إلى روايات عامة تؤثر في العلاقات بين مختلف الطوائف.
في حين تسهم مجموعات واتساب، بحكم خصوصيتها وتشفيرها ودينامياتها القائمة على التقارب الشخصي، في انتشار واسع للتقارير غير الموثقة والشائعات التحريضية ضمن دوائر موثوقة اجتماعيا، ما يمنح الخطاب الطائفي مصداقية أكبر من خلال التفاعل المباشر.
وتتيح طبيعة منصة إكس، بما فيها من مزايا التفاعل الآني وانتشار الوسوم، التصعيد السريع للتوترات الطائفية خاصة في أوقات الأزمات أو الأحداث البارزة. كما تؤدي قنوات تليغرام دورا محوريا كمنصات للتنسيق والتعبئة الطائفية، خصوصا تلك التي يديرها أشخاص أو جماعات ترتبط بالنظام السابق، أو بفصائل مسلحة، أو بمجموعات متطرفة، وتسعى عبر محتواها التهديدي إلى استهداف مجتمعات بعينها.
وتشير الأدلة المتاحة إلى أن العديد من هذه الحسابات قد تكون موجهة من قِبل دول، أو جهات تسعى لتعميق الانقسامات، بغرض تحويل الأزمة الطائفية إلى مواجهات مسلحة تبقي النازحين بعيدا عن أوطانهم الأصلية.
مقاطع الفيديو العنيفة كوسيلة رادعة للعودةيمثل تداول مقاطع الفيديو التي تصور العنف عبر الشبكات الرقمية وسيلة فعالة وواسعة الانتشار في إطالة أمد النزاع الطائفي، لتصبح حاجزا نفسيا وعاطفيا قويا يردع اللاجئين والنازحين عن العودة، متجاوزا الاعتبارات العقلانية المتعلقة بالتقييم الأمني للوضع.
إعلانوتنتشر على نطاق واسع تسجيلات تبث عنفا طائفيا تاريخيا أو حديثا، بدءا من مشاهد المجازر القديمة وانتهاكات الكرامة الإنسانية، ووصولا إلى لقطات التدمير والترهيب المعاصرة، وتوزع هذه المواد المرئية عبر الشبكات الرقمية السورية بتأثير قوي تضمنه الخوارزميات الحديثة.
وتقوم هذه المقاطع بوظائف متعددة، فهي تخلد الصدمات التاريخية، وتكرس التهديدات المستمرة، وتلقي بظلالها على سيناريوهات العودة المستقبلية. ويؤدي استمرار توفر هذه المواد الرقمية إلى إبقاء تأثير العنف الماضي حاضرا بشكل دائم، مما يقلص المسافة الزمنية بين فظائع الأمس وقرارات اليوم.
يظهر تأثير هذه الفيديوهات جليا على عمليات اتخاذ القرارات الخاصة بالعودة لدى اللاجئين والنازحين، وذلك من خلال آليات نفسية معقدة تدمج الأدلة البصرية بشكل مباشر في تقييم المخاطر.
ويشير العائدون المحتملون إلى أن مجرد مشاهدة مقطع واحد يصور عنفا طائفيا في مناطقهم الأصلية قد يكون كافيا لترجيح قرار عدم العودة، حتى لو تعددت التقارير التي تتحدث عن تحسن نسبي في الظروف الأمنية.
وتضمن الطبيعة الفيروسية لهذا المحتوى أن تكتسب الحوادث المنعزلة أو المتفرقة أثرا مبالغا فيه، حيث تنتقل هذه المقاطع بسرعة كبيرة بين مجتمعات الشتات السوري، متجاوزة بذلك أي معلومات سياقية أو تقييمات موضوعية للمخاطر الفعلية، مما يعزز ما يعرف في الأدبيات النفسية بـ"سلاسل التوافر المعرفي"، أي أن الصور والمقاطع المتوفرة بسهولة عن العنف تهيمن على إدراك النازحين لمستوى المخاطر المحتملة.
ويخلق هذا المحتوى الرقمي "جغرافيات خوف متخيلة"، وهي بنية نفسية وعاطفية تكرس استمرار النزوح وتحدي المفاهيم التقليدية للانتماء الجغرافي. وتتحول مقاطع الفيديو التي تصور العنف إلى "نصب رقمية" دائمة تذكر النازحين بأماكن يعتبرونها ملوثة بالعنف الطائفي بشكل لا يمكن تجاوزه أو نسيانه، بغض النظر عن الواقع الحالي.
وتتكون هذه الجغرافيات المتخيلة من خرائط عاطفية قوامها الخوف والاشمئزاز والغضب، وتؤثر بقوة في قرارات العودة، حتى من مسافات بعيدة. ويصف اللاجئون السوريون ردود أفعالهم الغريزية عند مشاهدة مقاطع توثق عنفا في مناطقهم الأصلية، والتي تتحول إلى مشاعر نفور واشمئزاز عميقين، لتتحول تلك المشاعر إلى قرارات ترفض العودة.
خاتمةتشكل خطابات الكراهية الرقمية، والتحريض الطائفي، وانتشار مقاطع الفيديو التي تصور العنف عبر منصات التواصل الاجتماعي ما يمكن تسميته بـ«البعد الرابع» لأزمة النزوح السوري؛ وهو بعد يتداخل مع عوامل النزوح التقليدية كالتدمير المادي، والتهديدات الأمنية، والعقبات القانونية، والقيود الاقتصادية، لكنه في الوقت ذاته يتمتع باستقلالية واضحة عنها.
يتميز هذا البعد الرقمي بخصائص تستدعي إعادة النظر في السياسات والمقاربات المتعلقة بالعودة؛ إذ إنه عابر للحدود، ومستمر رغم التحولات السياسية، ويخلق عوائق نفسية وعاطفية قد تكون أكثر صعوبة من العوائق المادية.
وتؤكد الحالة السورية بوضوح كيف يجد النازحون واللاجئون أنفسهم أمام تحديات لا تقتصر على تدمير البنى التحتية أو النزاعات المتعلقة بحقوق الملكية، بل تشمل كذلك بيئة رقمية مشبعة بالكراهية الطائفية، تعيد باستمرار إنتاج الظروف النفسية والاجتماعية المسببة للصراع.
إن الاعتراف السياسي بالطائفية الرقمية بوصفها عائقا أساسيا أمام عودة النازحين واللاجئين يحمل في طياته تداعيات جوهرية، ويتطلب من الحكومة السورية ومن المجتمع الدولي تطوير إستراتيجيات متقدمة تدمج ما بين الجوانب التقنية، والنفسية، والسياسية.
إذ ينبغي استكمال الجهود التقليدية لتيسير العودة، والتي تتركز عادة على إعادة إعمار البنية التحتية، وحل النزاعات القانونية، وتوفير الضمانات الأمنية، بمبادرات رقمية تهدف إلى بناء السلام والتعايش.
وتتضمن هذه المبادرات تأسيس وحدات متخصصة ضمن آليات العدالة الانتقالية، تتولى رصد وتحليل ومعالجة خطاب الكراهية والتحريض على العنف في الفضاء الرقمي؛ بالإضافة إلى تطوير شراكات فعالة مع منصات التواصل الاجتماعي الكبرى من أجل تحديد وإزالة المحتوى الذي يحرض على العنف الطائفي.
كما ينبغي العمل على إنشاء برامج تعليمية تعزز «محو الأمية الرقمية»، بهدف تمكين النازحين واللاجئين من تقييم المحتوى الرقمي نقديا، وتشجيع ودعم إنتاج روايات بديلة ترفض التأطيرات الطائفية وتعمل على تعزيز التعايش والتماسك الاجتماعي.
إعلانعلاوة على ذلك، فإن مواجهة تحديات المجال الرقمي تتطلب تشريعات متخصصة، وبناء قدرات مؤسسية، وأطر تعاون دولي وأممي تكون قادرة على التصدي للطبيعة العابرة للحدود الوطنية للمحتوى الطائفي.
لا يقتصر تحقيق العودة المستدامة للسوريين على إعادة بناء المدن المدمرة أو تصحيح الأوضاع القانونية وحدها، بل يقتضي أيضا استعادة المجال الرقمي من تجار الكراهية والتحريض الطائفي. يتطلب هذا الأمر تحولا في إدراك مفهوم العودة بعد انتهاء النزاع؛ من مجرد انتقال جغرافي إلى تفاوض معقد مع بيئات رقمية تؤثر بشكل عميق في تصورات الهوية، والأمن، والتعايش المشترك.
ومن خلال إدراك هذه الحقيقة، يمكن للمجتمع الدولي أن يساهم في خلق الظروف الملائمة التي تمكّن ملايين النازحين واللاجئين السوريين من العودة إلى ديارهم، دون أن يرافقهم خوف مستمر من الكراهية الرقمية التي ما زالت تنتشر بقوة في شبكات التواصل التي تجمعهم وتفرقهم في آن واحد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline