إبراهيم برسي
20 يناير 2025
القبح ليس نقيضًا للجمال، بل هو وجهه الآخر الذي يختبئ في هسيس الظلال، حيث يولد الضوء من شقوقه المجهولة.
هو شقيقه الذي نسج من ذات الطينة، لكنه اختار أن يترك الخضرة جانبًا ليروي حكاية أخرى.
هو سردية لا تصفق لها الأغصان الغضة، ولا تحتفي بها الزهور المشرقة، لكنها سردية تهمس بما لا يُقال.
هناك، بين الأغصان اليابسة التي تحمل وطأة الفناء، وفي هسهسة الرياح التي تعبر دون وعد، يزهر الجمال همسًا.
هل رأيت الفراشات وهي تتراقص فوق خراب الأغصان؟
نسيم الجناح لا يحتاج خضرة ليحمل موسيقى الحياة، ولا همس الجناح يشترط اكتمال الأغصان ليخبرنا أن الجمال لا يُصنع من البهرج.
ضوء التنسيب المشرق الذي يتسلل من بين الأغصان الجافة لا يزيف الحقيقة، بل يكشفها.
القبح، في عمقه، هو تأويل آخر للجمال، فصلٌ ناقص من حكاية الكون، لكنه يحمل الحقيقة أكثر من سذاجة الزهور المتفتحة التي تخنق نفسها بالاكتمال.
القبح لا يصرخ، بل يهمس.
هو الهسيس الذي يمر عبر حطام الأغصان، الحفيف الذي لا ينسجم مع لحن المألوف، لكنه يحمل صمودًا صامتًا.
الجمال لا يزهر دائمًا في النضارة، بل أحيانًا في الأغصان التي انكسرت لكنها لم تسقط.
هناك، في فجوات الزمن التي تتركها الطبيعة بلا اكتمال، تكمن الحقيقة: حتى الموت أخضر، إذا أصغيت إليه بما يكفي.
وماذا عن الظلال؟
تلك التي تراقص الضوء وتتمايل معه في حوار لا ينتهي؟
الجمال يكمن في الظلال التي تمنح الضوء بُعده الآخر.
الظل ليس نقيضًا للضوء، بل شريكه الذي يعيد تعريف الأشياء، كما يُعيد الجفاف تعريف الخضرة.
أو كما قال كونديرا: الجمال ليس في ما يُرى، بل في ما يُحجب، في الفراغ الذي يتركه الظل لتملؤه العين بالخيال.
في الظلال يسكن الجمال البعيد عن الصخب، جمال يزهر في صمت ويكشف نفسه لأولئك الذين يرون ما وراء الضوء.
الأغصان التي تخنقها الخضرة لا تفهم سر الجفاف.
إنها تعتقد أن الحياة زهوٌ دائم، لكنها تجهل أن الجمال يزهر في الرماد كما يزهر في التراب.
حين يسقط الضوء على الأغصان الميتة، يكشف تأويلًا جديدًا: الجمال ليس في اكتمال الصورة، بل في هشاشتها.
هو في الرمزية التي تتسرب بين الشقوق، في الحكاية التي ترويها الريح وهي تعبر دون أن تنتظر تصفيقًا.
الجمال هو كأس ممتلئة حتى الحافة، لكنه ليس بالخمر الذي يسكر في لحظة، بل رشفة تتسلل إلى الوعي ببطء، تفتح أبواب الحقيقة وتجعلها أشبه بنشوة لا تنطفئ.
القبح هو الكأس التي نظنها فارغة، لكنها مليئة بالاحتمالات.
الضوء الذي يخترق الزجاج لا يَعد بالكمال، لكنه يعكس الحياة وهي تلمع في هشاشتها، في تأرجحها المستمر بين الكمال والانكسار.
حين تنزع الطبيعة زينتها وتبقى العظام العارية للأغصان، تبدأ في كتابة شعرها الأكثر صدقًا.
الهسيس الذي يلف هذا العراء ليس إلا موسيقى البدء، لحظة الخلق الأولى التي تنكرها الخضرة لكنها تحتضنها الحياة.
نسيم الجناح حين يمر على القبح لا يبحث عن عطر، بل عن حقيقته المتأرجحة بين الحي والميت.
الجمال ليس في الزهور المشرقة وحدها، ولا في الأغصان الغضة التي تنحني لتمدح الريح.
إنه يسكن القبح كما يسكن النضارة، يعيش في الظل كما يعيش في الضوء، ويتمايل بينهما كفراشة ثملة، لا تعرف حدود الرقص ولا تتوقف عن اختراق الخواء.
الجمال، في نهاية المطاف، لا يطلب الكمال، بل يعترف بهسيس الحياة وهمسها، بأن القبح ليس ضدًا للجمال، بل هو الجمال وقد نزع عن نفسه كل بهرج، وبقي خالصًا، كأسًا من الحقيقة التي لا تنتهي.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الإضاءة الاصطناعية تطيل عمر النباتات في المدن
في المدن التي لا تنام، لا تنام النباتات أيضا. هذا ما تكشفه دراسة علمية جديدة نشرت يوم 16 يونيو/حزيران في مجلة "نيتشر سيتيز" حيث رصد فريق من الباحثين تغيرا لافتا في سلوك النباتات داخل المدن الكبرى، سببه الضوء الاصطناعي وحرارة العمران المتزايدة.
وخلصت الدراسة إلى أن موسم النمو في المناطق الحضرية بات أطول بنحو 3 أسابيع مقارنة بالمناطق الريفية، وهو فارق زمني كبير يحمل دلالات بيئية واقتصادية لا يستهان بها.
الدراسة التي غطت 428 مدينة في نصف الكرة الشمالي، من نيويورك إلى بكين، ومن باريس إلى طهران، اعتمدت على تحليل صور الأقمار الصناعية وبيانات دقيقة حول درجات الحرارة القريبة من سطح الأرض وشدة الإضاءة الليلية، إلى جانب مؤشرات نمو النباتات خلال الفترة ما بين عامي 2014 و2020.
تقول الباحثة الرئيسية في الدراسة "لين مينج" -أستاذة علوم الأرض والبيئة في جامعة فاندربلت الأميركية- إن نتائج الفريق أظهرت أن "الإضاءة الليلية الصناعية ليست مجرد مسألة جمالية أو أمنية في المدن، بل باتت عاملا بيئيا يغير من إيقاع الحياة النباتية".
وتوضح الباحثة في تصريحات لـ"الجزيرة.نت" أن النباتات في المدن تبدأ موسم النمو أبكر بـ12.6 يوما في المتوسط، وتنهيه متأخرا بـ11.2 يوما مقارنة بالريف، ما يعني فعليا أن النباتات الحضرية تنشط نحو 3 أسابيع إضافية سنويا.
وبحسب مينج، فإن التأثير الأوضح للضوء لم يكن في تسريع النمو فحسب، بل في تأخيره للتوقف. "ما أدهشنا هو أن نهاية الموسم في المدن تتأخر بصورة ملحوظة، ما يطيل الفترة التي تنمو فيها الأوراق ويستمر فيها التمثيل الضوئي، وهذا له آثار تراكمية على البيئة".
لم تكتف الدراسة برصد التأثير الزمني، بل قاست قوة الإضاءة الصناعية وتوزيعها الجغرافي، ووجدت أن شدة الإضاءة تتزايد كلما اقتربنا من مراكز المدن، مما يعزز تأثيرها على النبات بشكل تدريجي.
إعلانورغم أن المدن الأميركية كانت الأشد سطوعا، فإن بداية موسم النمو كانت أبكر في المدن الأوروبية، تليها الآسيوية، ثم الأميركية. وتشير الدراسة إلى أن نوع المناخ يلعب دورا في هذه الفروق، إذ كان تأثير الضوء الصناعي في تسريع النمو واضحا في المناطق ذات الصيف الجاف أو الشتاء البارد دون فترات جفاف.
تفتح هذه النتائج الباب على أسئلة لم تكن تطرح من قبل عند تصميم البنية التحتية للمدن. هل يمكن أن تتداخل الإضاءة الليلية مع النظام البيئي للنباتات؟ وهل يجب علينا إعادة التفكير في طريقة إضاءة شوارعنا وحدائقنا العامة؟ وفقا للمؤلفة الرئيسية للدراسة.
ترى "مينج" أن الجواب نعم، وتضيف: "يجب ألا نغفل أن أنظمة الإضاءة الجديدة -خصوصا مصابيح LED التي أصبحت معيارا عالميا- تبعث أطيافا ضوئية أقرب إلى الطيف الذي تستشعره النباتات، ما يجعل تأثيرها البيولوجي أقوى مما كنا نعتقد".
وتوصي الدراسة بأن يأخذ مخططو المدن في الاعتبار الآثار البيئية للإضاءة، سواء من حيث شدتها أو نوعها، بحيث يتم تطوير تقنيات أكثر "حساسية نباتيا" توازن بين الأمان البشري وسلامة البيئة الحضرية. الأمر لا يتوقف على الحدائق فقط، فمواسم النمو الطويلة قد تعني أيضا تغيرات في أنماط الحساسية لدى البشر، وامتداد فترات انتشار بعض الحشرات، وربما حتى تغيرات في جودة الهواء.
ورغم أن الدراسة ركزت على نصف الكرة الشمالي، فإن نتائجها تكتسب أهمية عالمية، خصوصا مع استمرار التوسع العمراني في الجنوب العالمي، حيث تتزايد كثافة المدن وينتشر الضوء الصناعي بوتيرة سريعة. وفي ظل غياب تخطيط بيئي دقيق، قد تتكرر آثار "الليل المضيء" التي رصدت في باريس وبكين، في مدن مثل لاغوس والقاهرة ونيودلهي.