جريدة الرؤية العمانية:
2025-06-27@20:49:57 GMT

الإنسانية والدين.. صراعٌ أم تكامل؟

تاريخ النشر: 26th, January 2025 GMT

الإنسانية والدين.. صراعٌ أم تكامل؟

 

 

 

بدر بن خميس الظفري

 

بين مفاهيم الدين والإنسانية، تتشابك الأسئلة وتتعقد الرؤى، فهل هما وجهان لعملة واحدة، أم أن بينهما انفصالًا جوهريًا؟ وهذا السؤال ليس وليد اليوم؛ بل هو نتاجُ تاريخٍ طويلٍ من التأملات الفلسفية والصراعات المجتمعية.

ومع ذلك، يظلُّ الإنسانُ محور هذا النقاش؛ فهو الكائن الذي يتأرجحُ بين دوائر متعددة من القيم والأفكار والعقائد، محاولًا أن يجد موطئ قدم في عالمٍ تتصارع فيه الثوابت مع المتغيرات.

حينما نتحدثُ عن الإنسانية، فإننا نتحدث عن جوهر الوجود، ذلك الشعور الذي يعلو فوق الحدود والتقسيمات. الإنسانية، كما يصفها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، هي تلك “البصيرة الداخلية التي تربطنا بالآخرين قبل أن تفرقنا عنهم”. إنها القدرة على النظر إلى البشر بوصفهم شركاء في رحلة الحياة، دون أن نغرق في تصنيفاتهم الدينية أو الثقافية. لكن هل يمكن للإنسانية أن تكون مستقلة تمامًا عن الدين؟ وهل الدين في جوهره يعارض القيم الإنسانية؟

إن الشرائع السماوية والقوانين الوضعية تلتقي في مبدأ أساسي، وهو دعم الفضيلة ومقاومة الشر. وفي هذا التقاطع تظهر حقيقة جلية وهي أن الدين، في صورته الأصلية، لم يكن يومًا إلّا وسيلة لتعزيز القيم الإنسانية، كالتعاطف والرحمة والعدل. ولهذا يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “ولقد كرمنا بني آدم”، ليؤكد بذلك أن الكرامة الإنسانية هي منحة ربانية تشمل الجميع دون استثناء. وفي الإنجيل، نجد تأكيدًا على هذه الفكرة في قول المسيح: "فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ". كما يعزز التلمود هذا المعنى بقوله: “مَنْ يُنْقِذُ نَفْسًا وَاْحِدَةً كَأَنّهُ أَنْقَذَ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ”، وهو نص أكده القرآن الكريم في قوله: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".

التحدي الحقيقي الذي يواجهنا اليوم هو إعادة تعريف العلاقة بين الدين والإنسانية، لا بوصفهما خصمينِ متضادَّينِ؛ بل كقوتين متكاملتين. وفي عالم يسوده الانقسام، يجب أن نتجاوز تلك الفكرة السطحية التي تجعل من التدين مجرد طقوس تؤدى بلا روح، لأن الدين الذي يكتفي بالمظاهر وينسى الجوهر يُفرغ نفسه من معناه، فجوهر التدين الحقيقي هو الأخلاقُ الفطريةُ التي لا تتطلب ترهيبًا أو تخويفًا؛ بل تترسخ في القلب حبًا للخير وبغضًا للشر.

لكن لماذا تراجعت القيم الإنسانية لدى البعض ممن يدَّعون التدين؟ قد يكمُن السبب في الخلط بين الوسائل والغايات، فقد بات الدين لدى كثيرين مجرد أداة لضبط السلوك عبر الترهيب من المجهول، لا وسيلة لتربية الإنسان على المحبة الحقيقية. وفي هذا المعنى يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “غاية الدين أن تحيا القلوب بحب الخير والحق، لا أن تموت خوفًا من العقاب”. كما نجد ابن رشد يؤكد على أهمية هذا البعد بقوله: “الفلسفة والدين توأمان، هدفهما تحقيق السعادة للإنسان. الفلسفة تدعو إلى الحقيقة بالعقل، والدين يدعو إليها بالإيمان، والغاية واحدة: كمال الإنسان".

 

الإنسانية ليست مجرد شعار نرفعه؛ بل هي اختبار يومي لقيمنا وأخلاقنا، كيف ننظر للآخر؟ كيف نتعامل مع من يختلفون عنا في الدين أو الثقافة؟ والدين، إذا فهم بعمق، يعزز هذه المبادئ، فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم يؤكد على ذلك قائلًا: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. وكما قال ابن مسكويه: “غاية الأخلاق أن يصل الإنسان إلى التمام في إنسانيته، وأن يفيض الخير منه كما يفيض النور من الشمس”.

في هذا السياق، نجد أن سلطنة عُمان قد أرست دعائم التسامح والتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع ومنها أصحاب الشرائع المختلفة؛ فقد حرص السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- على تعزيز قيم التسامح والوئام الإنساني، مؤكدًا أن “العنف الداخلي يدمِّر نسيج المجتمع في أماكن كثيرة من العالم”. ولتعزيز هذه القيم، سنَّت السلطنة قوانين تجرّم إثارة النعرات الدينية والمذهبية. فقد نصت المادة (108) من قانون الجزاء العُماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7/2018 على أنه: “يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (3) سنوات، ولا تزيد على (10) سنوات كل من روج لما يثير النعرات أو الفتن الدينية أو المذهبية، أو أثار ما من شأنه الشعور بالكراهية أو البغضاء أو الفرقة بين سكان البلاد، أو حرض على ذلك”. وهذا بلا شك يشمل الدعاء بالهلاك على أصحاب الأديان الأخرى في منابر الجمعة باعتبار السلطنة دولة تضم سكانا من جميع الشرائع السماوية والوضعية.

وفي خطابه الأول، أكد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- على أهمية السير على نهج السلطان الراحل في تعزيز قيم التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، قائلًا: “عزاؤنا الوحيد وخير ما نخلد به إنجازات السلطان الراحل هو السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المُستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه”.

في عالمنا الحديث، تزداد الحاجة إلى خطاب جديد يوفق بين العقل والنقل، وبين التراث والحداثة. خطابٍ يعيد الاعتبار للإنسان بوصفه كائنًا قادرًا على التفكر والتأمل، لا مجرد تابعٍ أعمى. إن العودة إلى القيم الإنسانية ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية، فمن دونها، نفقد قدرتنا على التعايش ونقع في شراك الكراهية والانقسام.

لذلك.. علينا أن نبدأ رحلة يومية في التفكر والتأمل، ليس فقط في النصوص المقدسة، بل في الحياة نفسها، وأن يسأل كل واحد منا نفسه بداية كل صباح: كيف يمكنني أن أكون إنسانًا أفضل؟ وكيف يمكن أن يكون وجودي إضافة حقيقية لهذا العالم؟ وكما قال جلال الدين الرومي: “لا تسأل عن دين الإنسان؛ بل اسأل عن قلبه. فإن كان نقيًا، كان دينه الحب”.

هذه الرسالة الخالدة تدعونا لأن نجعل الإنسانية مرآة أفعالنا، وغاية إيماننا، لنحيا في انسجام مع أنفسنا ومع الآخرين، مؤكدين أن التعايش والتسامح هما أساس أي حضارة تسعى إلى الرقي والاستمرار.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

رحيل الشاعر فؤاد الحميري بعد صراع مع المرض

شمسان بوست / خاص:

فجع الوسط الثقافي والإعلامي اليمني، فجر الجمعة، بخبر وفاة الشاعر المعروف فؤاد الحميري، في أحد مستشفيات مدينة إسطنبول التركية، بعد معاناة طويلة مع المرض، عن عمر ناهز 47 عامًا.

وأفادت مصادر مقربة من أسرة الراحل أن حالته الصحية شهدت تدهورًا ملحوظًا خلال الأيام الأخيرة، حيث كان يتلقى العلاج منذ فترة في إسطنبول، دون أن تُفصح العائلة عن مزيد من التفاصيل حول طبيعة مرضه.


ويُعد الحميري واحدًا من أبرز الأصوات الشعرية والإعلامية في اليمن خلال العقود الأخيرة. برز اسمه بقوة خلال أحداث ثورة فبراير 2011، من خلال قصائده الثورية وخطبه المُلهمة التي لامست قلوب الناس، وجعلته رمزًا من رموز الكلمة الحرة.

كما تولّى خلال مسيرته منصب نائب وزير الإعلام، وأسهم بشكل فعال في إثراء المشهد الثقافي من خلال أعماله المتنوعة في الشعر، والصحافة، والمسرح السياسي، فضلًا عن زاويته الأسبوعية الشهيرة “المقامات الحميرية” التي لاقت تفاعلًا واسعًا.

خلف الحميري إرثًا غنيًا من الدواوين والمقالات التي عبّرت عن قضايا الوطن والمواطن، وارتبط اسمه بالدفاع عن الكرامة والحرية، فكان صوتًا شعبيًا صادقًا وضميرًا نابضًا بالشجاعة والصدق.

وقد تفاعل العشرات من الأدباء والناشطين والسياسيين مع نبأ وفاته، معبّرين عن بالغ حزنهم لفقدان “شاعر الثورة” و”صوت الضمير اليمني”، ومؤكدين أن رحيله يُعد خسارة فادحة للساحة الثقافية والوطنية.

رحم الله الشاعر فؤاد الحميري، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان.

مقالات مشابهة

  • اتفاق سلام ينهي صراع 30 عاما بين رواندا والكونغو الديمقراطية
  • صراع الحب والمال يحسمه الصمت في فيلم الماديون
  • وفاة الإعلامية كوثر بودراجة بعد صراع مع السرطان
  • شرير التسعينات.. تفاصيل من حياة الراحل الفنان عماد محرم بعد صراع مع المرض
  • رحيل الشاعر فؤاد الحميري بعد صراع مع المرض
  • هل الاقتصاد ساحة صراع فكري وأيديولجي؟ كتاب يكشف خفايا نظريات الاقتصاد
  • وسام أبو علي يشعل صراع الانتقالات.. عرض خليجي ضخم ونيويورك يدخل على الخط
  • عبد الملك بن كايد: «تحقيق أمنية» تجسد القيم الإنسانية الإماراتية
  • محافظ قنا يطلق خطة تنموية لتحقيق تكامل عمرانى شامل
  • صعوبة الحياة وتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة