نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرًا يسلط الضوء على كيفية نجاح شركة "ديب سيك" الصينية الناشئة في بناء أحد أقوى أنظمة الذكاء الاصطناعي في العالم باستخدام عدد أقل بكثير من الرقائق الحاسوبية مقارنة بالشركات الكبرى.

وقالت الصحيفة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن شركات الذكاء الاصطناعي عادة ما تقوم بتدريب روبوتات الدردشة الآلية الخاصة بها باستخدام أجهزة كمبيوتر عملاقة مزودة بـ16,000 شريحة متخصصة أو أكثر، لكن شركة "ديب سيك" قالت إنها تحتاج إلى حوالي 2,000 شريحة فقط.



وأوضح مهندسو الشركة بالتفصيل في ورقة بحثية؛ فقد استخدمت الشركة الناشئة العديد من الحيل التكنولوجية لتقليل تكلفة بناء نظامها؛ حيث احتاج مهندسوها إلى حوالي 6 ملايين دولار فقط من قوة الحوسبة الخام، أي ما يعادل عُشر ما أنفقته شركة ميتا في بناء أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي.


كيف يتم بناء تقنيات الذكاء الاصطناعي؟
وأوضحت الصحيفة أن تقنيات الذكاء الاصطناعي الرائدة تعتمد على ما يسمى بالشبكات العصبية، وهي أنظمة رياضية تتعلم مهاراتها من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات.

وتقضي أقوى الأنظمة شهورًا في تحليل جميع النصوص الإنجليزية على الإنترنت، بالإضافة إلى العديد من الصور والأصوات والوسائط المتعددة الأخرى، مما يتطلب كميات هائلة من القدرة الحاسوبية.

 وقد أدرك باحثو الذكاء الاصطناعي منذ حوالي 15 سنة أن رقائق الكمبيوتر المتخصصة التي تسمى وحدات معالجة الرسومات تعد وسيلة فعالة للقيام بهذا النوع من تحليل البيانات، وقد صممت شركات مثل شركة إنفيديا هذه الرقائق لعرض رسومات ألعاب الفيديو على الكمبيوتر في الأصل، ولكن وحدات معالجة الرسومات كانت لديها القدرة أيضًا على تشغيل العمليات الحسابية التي تدعم الشبكات العصبية.

ومع قيام الشركات بتعبئة المزيد من وحدات معالجة الرسومات في مراكز بيانات الحواسيب الخاصة بها، أصبح بإمكان أنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل المزيد من البيانات.

ولكن أفضل وحدات معالجة الرسومات تكلف حوالي 40,000 دولار، وتحتاج إلى كميات هائلة من الكهرباء.

كيف تمكنت "ديب سيك" من خفض التكاليف؟
أشارت الصحيفة إلى أن أبرز ما فعلته الشركة هو اعتمادها على طريقة تسمى "خليط الخبراء".

وقد كانت الشركات سابقًا تنشئ شبكة عصبية واحدة تتعلم جميع الأنماط في جميع البيانات الموجودة على الإنترنت، وكان ذلك مكلفُا لأنه يتطلب كميات هائلة من البيانات للتنقل بين رقاقات وحدة معالجة الرسومات.

ومن خلال طريقة "خليط الخبراء"، حاول الباحثون حل هذه المشكلة عن طريق تقسيم النظام إلى العديد من الشبكات العصبية، وهكذا يكون هناك 100 من هذه الأنظمة "الخبيرة" الأصغر حجمًا، ويمكن لكل منها التركيز على مجاله الخاص.

لقد عانت العديد من الشركات لتنفيذ هذه الطريقة، لكن شركة "ديب سيك" تمكنت من القيام بذلك بشكل جيد؛ حيث  قامت بإقران تلك الأنظمة "الخبيرة" الأصغر حجمًا مع نظام "عام".

فقد كانت الأنظمة الخبيرة لا تزال بحاجة إلى تبادل بعض المعلومات مع بعضها البعض، وكان بإمكان النظام "العام" المساعدة في تنسيق هذه التفاعلات بينها.

وأضافت الصحيفة أن هذا ليس الشيء الوحيد الذي قامت به "ديب سيك"؛ حيث أتقنت أيضًا خدعة بسيطة تتضمن الكسور العشرية التي يمكن لأي شخص يتذكر درس الرياضيات في المدرسة الابتدائية أن يفهمها.


واستخدمت الشركة طريقة تبسيط الأرقام التي يستخدمها دارسو الرياضيات عند التعامل مع الأرقام التي لا تنتهي مثل رمز باي، والذي يُشار إليه أيضًا بـ π، وهو عدد لا ينتهي أبدًا: 3.14159265358979…
يمكن استخدام باي لإجراء عمليات حسابية مفيدة، ولكن عند إجراء هذه الحسابات، يمكنك اختصار باي إلى بضعة أعداد عشرية فقط: 3.14.

وقد قامت "ديب سيك بشيء مماثل - ولكن على نطاق أوسع بكثير - في تدريب تقنية الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.

وبيّنت الصحيفة أن العمليات الحسابية التي تسمح للشبكة العصبية بتحديد الأنماط في النص هي في الحقيقة مجرد عمليات ضرب، الكثير والكثير من عمليات الضرب.

وعادة ما تقوم الرقائق بضرب الأرقام التي تتناسب مع 16 بت من الذاكرة، لكن "ديب سيك" ضغطت كل رقم في 8 بتات فقط من الذاكرة، أي أنها اقتطعت عدة كسور عشرية من كل رقم.

وهذا يعني أن كل عملية حسابية كانت أقل دقة، لكن ذلك لم يكن مهمًا لأن العمليات الحسابية كانت دقيقة بما فيه الكفاية لإنتاج شبكة عصبية قوية جدًا.

وتابعت الصحيفة بأن الشركة أضافت خدعة أخرى؛ حيث اتخذ مهندسوها مسارًا مختلفًا عند ضرب الأرقام معًا بعد ضغطها، فعند تحديد إجابة كل مسألة ضرب، كانوا يقومون بتمديد الإجابة عبر 32 بت من الذاكرة، أي أنهم احتفظوا بالعديد من الكسور العشرية، مما جعل الإجابة أكثر دقة.

لقد أظهر مهندسو "ديب سيك" في ورقتهم البحثية أنهم كانوا بارعين جدًا في كتابة التعليمات البرمجية الحاسوبية المعقدة للغاية التي تخبر وحدات معالجة الرسومات بما يجب القيام به، وكانوا على مقدرة من جعل هذه الرقائق المزيد أكثر كفاءة.

ورغم أن قليلًا من الناس يملكون هذا النوع من المهارة، لكن مختبرات الذكاء الاصطناعي الجادة لديها المهندسين الموهوبين اللازمين لمضاهاة ما قامت به "ديب سيك"، وربما يستخدم بعضهم لحيل نفسها بالفعل.


لكن من الواضح أن الكثيرين فوجئوا بعمل "ديب سيك"، وهذا لأن ما قامت به الشركة الناشئة ليس بالأمر السهل؛ فالتجارب اللازمة للتوصل إلى إنجاز كهذا تكلف ملايين الدولارات - إن لم يكن المليارات - من الطاقة الكهربائية.

وقد أشار العديد من النقاد إلى أن مبلغ الـ 6 ملايين دولار الذي أنفقته الشركة لم يغط سوى تدريب النسخة النهائية من النظام، وقال مهندسو "ديب سيك" في ورقتهم البحثية إنهم أنفقوا أموالاً إضافية على الأبحاث والتجارب قبل إجراء التدريب النهائي، ولكن الأمر نفسه ينطبق على أي مشروع متطور للذكاء الاصطناعي.

وختمت الصحيفة بأن شركة "ديب سيك" خاطرت مخاطرة أتت بثمارها، ومع مشاركة الشركة الصينية الناشئة لأساليبها مع باحثين آخرين في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن حيلها التكنولوجية ستقلل تكلفة بناء الذكاء الاصطناعي بشكل كبير.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تكنولوجيا علوم وتكنولوجيا علوم وتكنولوجيا الصينية الذكاء الاصطناعي خفض التكاليف الصين الذكاء الاصطناعي ديبسيك خفض التكاليف المزيد في تكنولوجيا علوم وتكنولوجيا علوم وتكنولوجيا علوم وتكنولوجيا علوم وتكنولوجيا علوم وتكنولوجيا علوم وتكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا سياسة سياسة تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا تكنولوجيا سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذکاء الاصطناعی کمیات هائلة من العدید من دیب سیک

إقرأ أيضاً:

عيسى بيومي يكتب: الذكاء الاصطناعي الفائق.. طموح أو وهم

بعد أن ترك ليوبولد أشينبرنر - أحد باحثي شركة "أوبن أيه آي" الأمريكية الرائدة في الذكاء الاصطناعي - وظيفته وأسس شركته الخاصة للذكاء الاصطناعي العام، نشر مقالًا مثيرًا من ١٦٥ صفحة في يونيو ٢٠٢٤، تحت عنوان "للتوعية بما يحدث: العقد القادم" يفصّل فيه رؤيته لتطور الذكاء الاصطناعي من الآن حتى عام ٢٠٣٤. يقول في مقاله: "إن السباق للوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام قد بدأ، نحن نبني ماكينات يمكنها أن تعقل وتفكر، وبحلول عام ٢٠٢٥/٢٠٢٦ ستتفوق هذه الماكينات على كثيرين من خريجي الجامعات، وبنهاية العقد ستكون أكثر ذكاء منك ومني؛ سوف تصل للذكاء الفائق القدرة بالمعنى الحرفي للكلمة.."

وعلى الرغم من أن أشينبرنر وبعض الباحثين يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي العام هو نتيجة حتمية لتطور الذكاء الاصطناعي التوليدي المستخدم اليوم في النماذج اللغوية والتصويرية، لا تُجمع غالبية الخبراء على إمكانية حدوث ذلك، أو على الأقل ليس في هذا الزمن المنظور؛ فما هي حجتهم ولماذا الخوف من الوصول لهذا المستوى الذي يطلقون عليه الذكاء الاصطناعي العام؛ وما سوف يتبعه من مستوى الذكاء الفائق لحدود وقدرات الذكاء البشري في كافة المجالات؟

هل هو ممكن؟

هناك من الفلاسفة وعلماء المعرفة – مثل الأسترالي ديفيد تشالمرز - من يتصور أن عمليات التطور العشوائي التي أنتجت مستوى الذكاء الإنساني، يمكن بالقصد تكرارها للوصول إلى نفس النتيجة أو أفضل إذا قام مبرمج ذكي بتصميم وتوجيه برامج جينية، بل ويقدّر تشالمرز حدوث ذلك خلال القرن الحالي، مستدلًا على ذلك بالتفوق الهائل للهندسة البشرية في بعض المجالات مقارنة بإمكانات التطور العشوائي البطئ. ألم يتمكن الإنسان من الطيران محققًا في زمن جد قصير ما أنجزه التطور في ملايين السنين، وإن فعل ذلك بطرق مختلفة؟ كما يمكن الوصول لمستوى الذكاء الاصطناعي المرغوب بهذا المفهوم إذا استطعنا تشغيل لوغاريتمات البرامج الجينية تلك على حواسب ذات سرعات كافية.

لكن اقتفاء أثر عمليات التطور الطبيعي لإنجاز مستوى مصطنع من الذكاء لا يبدو ممكن التحقيق عمليًا؛ لأن القدرة الحسابية المطلوبة لمحاكاة عمليات التطور التي أفرزت الذكاء البشري هائلة وليست في متناولنا، مع الأخذ في الاعتبار سمات عمليات الانتخاب الطبيعي مثل تأثير المصادفة واحتمالات الإخفاق في التكيف مع البيئة وحدوث تحورات جينية عفوية غير مفيدة أو لا علاقة لها بالذكاء.

مسار ثانٍ لإمكانية تطور الذكاء الاصطناعي وذكاء الآلة يمكن تحقيقه بمحاكاة عمل الدماغ البشري؛ إما بمضاهاة الوظائف البيولوجية للمخ بشكل كامل أو اتخاذها نموذجًا للاحتذاء به.

المضاهاة الكاملة للمخ أو ما يعرف بتحميل العقل (Mind uploading) تعني إجراء مسح شامل للمخ ليتم تحويل وظائفه البيولوجية إلى نموذج مرقمن في الكومبيوتر فينتج عنه برنامجًا ذكيًا يماثل المخ البيولوجي في وظائفه. إنجاز هذا التماثل الكامل يتم على ثلاث مراحل؛ الأولى المسح المفصل لشرائح دقيقة لمخ إنسان بعد الوفاة بالميكروسكوب الإلكتروني، ثانيًا إدخال البيانات الناتجة من عمليات المسح في كومبيوتر لإعادة بناء الشبكات العصبية الثلاثية الأبعاد للمخ الأصلي ثم دمج الخريطة الناتجة بمجموعة من النماذج الحسابية العصبية، ثالثًا تطبيق البناء الحسابي العصبي الناتج على كومبيوتر قوي لتكون المحصلة في النهاية بناء مرقمن للمخ الأصلي بذاكرته وشخصية صاحبه، أي يتواجد عقل بشري محاكًا كبرنامج كومبيوتر يمكن استئثار صفاته الوظيفية المحاسبية لأداء أعمال عقلانية. 

أين نحن الآن من تنفيذ هذه المحاكاة الكاملة للمخ البشري؟ أحد التقديرات الحديثة التي ذكرها الفيلسوف السويدي نيك بوستروم في كتابه الذكاء الفائق، تتوقع الوصول للإماكانات التقنية المطلوبة لإنجاز تلك المحاكاة بمنتصف القرن الحالي.

في محاولة قام بها حديثًا باحثون من جامعة هارفارد وخبراء في الذكاء الاصطناعي من جوجول؛ لرسم خريطة كاملة لملليمتر مكعب واحد من المخ، غاصوا فيها لأعمق ما أمكن الوصول إليه في الرسم العصبي مستخدمين أحدث تقنيات موجودة، قسموا هذه العينة لخمسة آلاف شريحة، وصوروا كل شريحة بالمجهر الإلكتروني، ثم أعادوا تجميع هذه الصور فبلغ عدد الخلايا فيها خمسين ألف خلية ومائة وخمسين مليونًا من التشابكات العصبية، مما كشف للباحثين طلاسم وألغازًا لا ذكر لها في أحدث مدونات العلوم ولم يمكنهم تفسيرها؛ مما يثبت وجود فجوة بين ما هو معلوم وما يجب التوصل له على حد قول جيف ليستمان أحد أساتذة هارفارد لصحيفة الجارديان. وبحساب تكلفة إجراء هذه التجربة على كل المخ تبين ضخامتها لحد المستحيل، فقد وصلت لخمسين مليارًا من الدولارات وإجراء مسح إلكتروني لما يوازي مائة وأربعين فدانًا مما يخلق منها أكبر مركز للبيانات على سطح الأرض، وهذا لإجراء مرحلة المسح فقط، فما بالك بإنفاذ كل المراحل؟ 

وفي نفس السياق أعلنت جامعتا جونز هوبكنز الأمريكية وكامبريدج البريطانية عام ٢٠٢٣ نجاح فريق عالمي من الباحثين في رسم خريطة كاملة لمخ ذبابة الفاكهة يقتفي كل وصلة عصبية فيه، مما يقرب العلماء من فهم آلية التفكير ويعزز مستقبل أبحاث المخ ويلهم لبناء أنظمة جديدة لتعليم الآلة. وهذا يبين أن الحديث عن مسار محاكاة المخ البشري رقميًا ليس من قبيل الخيال وإنما تُبذل الجهود وتُنفق الأموال والسنون في محاولة الاقتراب منه. هذا على الرغم من الصعوبات التكنولوجية الهائلة التي تواجه تنفيذ أول محاكاة كاملة للمخ البشري خاصة تطوير تكنولوجيا المسح وتكنولوجيا قراءة الصور للمستوى الضروري لنجاح المحاكاة المنشودة، إذا قارنّا مخ ذبابة الفاكهة الذي يتكون من حوالي ثلاثة آلاف خلية عصبية ونصف مليون تشابكًا، بالمخ البشري الذي يتكون من ستة وثمانين بليون خلية عصبية ومائة تريلليون تشابكًا! 

أما بالنسبة لاتخاذ الوظائف البيولوجية للمخ كأمثلة للاحتذاء بها؛ فالتقدم المضطرد في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي سيكشف عن المبادئ العامة لعمل المخ  مما يساعد على توجيه جهود تطوير الذكاء الاصطناعي، مثل تقنية الشبكات العصبية المطبقة حاليًا في نماذج الذكاء الاصطناعي والمستوحاة من فهم وظائف الخلايا العصبية في المخ الطبيعي، وكذلك فكرة التنظيم الهرمي التي نقلها خبراء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من المخ إلى تقنية تعليم الآلة. ولأن الآليات الأساسية لعمل المخ محدودة العدد يُنتظر الكشف عن أسرارها جميعًا بمرور الوقت واستمرار البحث بما يمكن من ابتكار ماكينة ذكية على غرار المخ البشري، وإن كان يصعب تحديد متى يحدث ذلك.

مسار ثالث للوصول إلى مستوى الذكاء الفائق أو الاقتراب منه؛ عن طريق محاولة تعزيز الوظائف البيولوجية  للمخ. فالتقدم الحادث في التكنولوجيا الحيوية سيسمح بالتحكم المباشر في الجينات البشرية، مما يتيح آليات أكثر فاعلية من استخدام العقاقير المنشطة للذاكرة والنشاط العقلي أو التوجيه الوراثي عن طريق برامج تحسين النسل. فربما يؤدي التقدم في التكنولوجيا الجينية لاصطناع جينوم بشري وتصميم جنين حسب المواصفات المطلوبة. 

مسار رابع لتطور الذكاء الاصطناعي نحو الذكاء الاصطناعي العام ومنه للذكاء الفائق؛ يُسمى التطور الذاتي المتكرر، وهو كما يدل اسمه يعني تصميم البرنامج المقصود بما يسمح له بتصحيح أدائه لوظيفته فيكتسب من ثم مهارات جديدة، ويتم ذلك بتطبيق لوغاريتمات التعلم التدريجي الذي يحلل البيانات المتاحة له ويكتشف ما خفي فيها من أنماط تؤهله للارتقاء بذكائه، بمعنى تعديل هندسته وطريقة عمله، وكلما أنتج نسخة مطورة من نفسه أصبح أقدر على الوصول لنسخة أرقى من سابقتها، وهكذا يصبح يومًا في مستوى الذكاء الاصطناعي الفائق. لن يصاحب ذلك دوافع الطموح أو الغرور أو الحب أو الكراهية أو غير ذلك من أحاسيس البشر فهذا أعقد في احتمال حدوثه ويتطلب جهدًا هائلًا لمحاولة إضافته إلى ماكينة إذا تُقنا إليه.

مسار خامس نحو الذكاء الفائق يمكن اقتفاؤه بربط المخ بالكومبيوتر عن طريق شرائح إلكترونية وأقطاب كهربية،على سبيل المثال. فقد أثبتت التجارب التي أجراها العلماء على الفئران إمكانية تحسين الذاكرة بهذا الأسلوب. ويتخيل الباحثون في هذا المجال إمكانية تفاعل عقولنا مع المعلومات بسرعة الضوء، حيث تعمل الذاكرة بدون أخطاء، وتتفوق إمكاناتنا المعرفية على ما هي عليه الآن؛ لذلك فمستقبل غرس الرقائق العصبية الدقيقة في المخ – في رأيهم – سيمكن الإنسان من الارتقاء بذكائه إلى مستويات غير مسبوقة، فيفكر ويتعلم ويتفاعل مع عالمه بطريقة مختلفة تمامًا، ويستشهدون على ذلك بنجاح التطبيقات الطبية لهذه التكنولوجيا. وسوف يساعدهم على تحقيق طموحهم التقدم المتواصل في علم المواد وتكنولوجيا الرقائق المتناهية الصغر والهندسة البيولوجية، ولهذا يتصورون مستقبلًا للذكاء الفائق عن طريق التكنولوجيا تكون الرقائق العصبية إحدى دعائمه.

ومن الواضح التأثير الهائل الذي سيحدثه الإنسان ذو الذكاء الفائق وقتئذ على ابتكار ماكينات ذات ذكاء خارق تمكنه من السيطرة على الكون والحياة ومصيره، أو ربما تسيطر هي عليه. فالماكينات الذكية اصطناعيًا بهذا القدر ستمتلك من الميزات ما تتفوق به على المخ البيولوجي، مثل السرعة المحاسبية الهائلة، وسرعة الاتصال الداخلي بين أجزائها بشكل يفوق التصور، والحجم الضخم الممكن الوصول إليه مما يعزز قدراتها الخارقة، وسعة الذاكرة التي لا حدود لها، كما أن قدراتها لا يصيبها الإجهاد والوهن ولا تتدهور بالهرم أو يتحتم عليها الموت، ويمكن تطوير أدائها كلما تقدمت تكنولوجيا بناء الكومبيوتر وبرامج تشغيله التي يمكن نسخها بلا نهاية. 

يطمح العلماء للوصول للذكاء الفائق بسبب قدراته المذهلة الواعدة التي ستعين على إيجاد حلول لتحديات مضنية مثل تغير المناخ والأمراض المستعصية والفقر والجهل، لكنهم في نفس الوقت يتغافلون عن تداعياته الغامضة على الحضارة الإنسانية والوجود البشري؛ حين يصل الذكاء الاصطناعي بالتكنولوجيا أو تصل هي به إلى مرحلة اللاعودة، حين تخرج التكنولوجيا عن سيطرة الإنسان تمامًا، ما يسمونه نقطة التفرد التكنولوجي. 

القوى المعرفية الخارقة والإرادة

في فهمنا للذكاء الاصطناعي بكل أنواعه ودرجاته لا يجب أن ننسى أو نتغافل عن طبيعته ومن ثم نخطئ في إسقاط صفات إنسانية على كيفية عمله وأدائه لوظائفه التي صُمم من أجلها؛ ولو تجاوزت قدراته حدود ما خطط له مصمموه نتيجة لما يستوعبه من بيانات ومعلومات وما يستنبطه من أنماط عجز العقل البشري عن اكتشافها وربما تمنحه فرصة تطوير قدراته، فهذا بالضبط ما تحتويه معادلات إنشائه وما يُنتظر منه بلوغه وإن كنا لا نقدّر مداه.

الذكاء الاصطناعي لا يزال بعيدًا عن تكافؤ أي من خصاله المعرفية مع العقل البشري، لكن تطور تكنولوجيا التعليم العميق وابتكار برامج اللغات القادرة على جعل الحواسب تخاطب البشر بلغاتهم مثل (GPT-4)، تحت مسمى الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ دنا بالذكاء الاصطناعي قليلًا من خواص الذكاء الطبيعي. 

وإذا تواصلت الخطوات نحو الوصول إلى كامل قدرات ذكاء البشر وتفوقت الماكينة على المخ البيولوجي؛ فالوصول إلى مستوى الذكاء الاصطناعي الفائق أو الخارق مسألة ترتبط بالوقت وتخطي المصاعب التكنولوجية وتذليل المقاومة الاجتماعية والسياسية المتوقعة بوسائل قانونية.

وبسبب تشابك وتعقد العناصر المؤثرة على انتفاضة الذكاء الاصطناعي إلى تلك الآفاق الخفية لا يمكن تخمين زمن الوصول هل هو عقود أم قرن من الزمان أم غير ممكن على الإطلاق، ولهذا يعتقد البعض أن الهلع الشائع من تطور الذكاء الاصطناعي لأفق الذكاء الخارق هو من قبيل الخيال والخوف من مجهول لا نفهم طبيعته أو نعرف صفاته، والبعض الآخر يجد ضرورة في ضبط الأبحاث ومراقبة شركات التكنولوجيا حتى لا تنحرف إلى مسار يؤدي إلى نتيجة تسبق وضع المحاذير ويفوت الأوان؛ فتواجه البشرية حينئذ ماكينات ذات ذكاء خارق لا تفهم مقاصدها أو كيف تنفذ إرادتها.

تكنولوجيا تتحرر من صانعها

يجزم جانب من الخبراء وعلماء الذكاء الاصطناعي ومن ورائهم المستثمرون بأموالهم ومستقبل البشرية؛ أن الوصول لمستوى الذكاء الاصطناعي الفائق ممكن، والسعي إليه مبرر ومرغوب، لأنه أمل الجنس البشري في إيجاد حلول للمشاكل الطبيعية المستعصية التي تحاصر وجوده وتهدد مستقبله مثل الأوبئة والبراكين وتغير المناخ وارتطام الكويكبات والشهب بكوكب الأرض، بل ويمكنه أيضًا وضع حد لأخطار من صنع الإنسان نفسه مثل التدمير العشوائي لحضارته بما تسببه التكنولوجيا ذاتها بأشكالها المتعددة من العبث بتوازن موارد الحياة على كوكب الأرض والإخلال بنواميس الطبيعة والتنافس المدمر بين الدول. لكنهم لم يذكروا جوانب أشد خطرًا على المكنون الإنساني مثل فساد الذمم واضمحلال الضمائر وانتشار الظلم والعنصرية وعدم المساواة وغيرها من مساوئ الأخلاق التي هي في الحقيقة الخطر الأعظم المهدد لوجود الإنسان. 

طباعة شارك ليوبولد أشينبرنر أوبن أيه آي الذكاء الاصطناعي الذكاء الاصطناعي التوليدي ديفيد تشالمرز ذكاء الآلة الميكروسكوب الإلكتروني نيك بوستروم جيف ليستما الجارديان جونز هوبكنز كامبريدج محاكاة المخ البشري أول محاكاة كاملة للمخ البشري تقنية تعليم الآلة الأوبئة البراكين

مقالات مشابهة

  • يصاب بالتسمم باستشارة من «الذكاء الاصطناعي»
  • الذكاء الاصطناعي يساعد في رعاية أكثر فعالية في الطوارئ
  • أبوظبي تكتب قصة نجاح في الذكاء الاصطناعي
  • نائب محافظ سوهاج يُطلق مبادرة «سوهاج Ai» لتأهيل الشباب في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني
  • مقارنة بين GPT-5 وGPT-4.. تطور الذكاء الاصطناعي من الدقة إلى العمق
  • عيسى بيومي يكتب: الذكاء الاصطناعي الفائق.. طموح أو وهم
  • عبيدات يكتب ( توظيف الذكاء الاصطناعي في قطاع النقل العام )
  • أبرز اتجاهات الذكاء الاصطناعي التوليدي في 2025
  • إطلاق CharGPT5 في خطوة نحو الذكاء الاصطناعي الفائق
  • الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي (3- 5)