لماذا اختار نتنياهو ديرمر لقيادة المفاوضات؟
تاريخ النشر: 20th, February 2025 GMT
ما إن نشر خبر موافقة مكتب نتنياهو على بدء المرحلة الثانية من مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، حتى قفز إلى الواجهة اسم المستشار السياسي الأكثر قربًا من بنيامين نتنياهو، وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر. إذ أعلن مكتب نتنياهو تسليم ديرمر مسؤولية قيادة وفد التفاوض الإسرائيلي في هذه المرحلة بدلًا من رئيسَي جهاز الموساد ديدي برناع، وجهاز الشين بيت رونين بار.
هذا التعيين يثير أسئلةً كثيرةً حول خلفيات هذا الاختيار لهذه الشخصية بالذات، واستبعاد قادة الأجهزة الأمنية بالمقابل. ولكن للحق، فإن نتنياهو قد ضرب بهذا التعيين أكثر من عصفورٍ بحجرٍ واحد.
رون ديرمر ينحدر من أصلٍ ألماني من جهة أبيه المحامي الذي كان قد ولد في نيويورك لعائلةٍ هاجرت قديمًا إلى الولايات المتحدة، ومن أصلٍ ألماني وبولندي من جهة أمه التي ولدت في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني لأبوين مهاجرين من ألمانيا وبولندا قبل الحرب العالمية الثانية، وبعد النكبة الفلسطينية هاجرت عائلة أمه بالكامل إلى ولاية فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث التقى والده بوالدته وتزوجا، ثم ولد رون في فلوريدا عام 1971، وعاش طفولته وشبابه هناك.
ودرس ديرمر في صباه في مدرسةٍ دينيةٍ يهودية متشددة في مدينته ميامي بيتش، ونشأ فيها متعصبًا لإسرائيل التي تعلم في تلك المدرسة أنها هي التي تمثل طموحات الشعب اليهودي وآماله، بما شده للسفر إلى إسرائيل أكثر من مرة، ودرس الاقتصاد والإدارة في جامعة بنسلفانيا، ثم الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة عام 1993، وكان يرأس جمعيةً طلابيةً يهودية باسم (لخايم) خلال دراسته هناك، ويبدو أن سنوات دراسته ونشاطه في أكسفورد هي التي أدخلته في عالم السياسة الإسرائيلية، حيث نشط من بريطانيا في حزب (يسرائيل بعاليا) الإسرائيلي اليميني القومي الذي رأسه في ذلك الوقت نتان شيرانسكي (وهذا الحزب اندمج في حزب الليكود عام 2006).
إعلانوبرز اسم ديرمر في ذلك الوقت بين الناشطين في هذا الحزب خاصةً في انتخابات عام 1996 في إسرائيل التي فاز فيها نتنياهو لأول مرةٍ برئاسة الحكومة، ليهاجر بعد تخرجه إلى إسرائيل عام 1997 ويكتسب الجنسية الإسرائيلية ويتزوج هناك، ويقال إن شيرانسكي هو الذي قدّم ديرمر لنتنياهو في ذلك الوقت المبكر من مسيرة نتنياهو السياسية، وبالتالي فإن علاقة نتنياهو وديرمر قديمة ومرافقة لكافة مراحل حياة نتنياهو في دهاليز السياسة الإسرائيلية، وما لبث أن أصبح أحد أقرب الشخصيات لنتنياهو على الإطلاق، حتى بات البعض يطلق عليه لقب (ظل نتنياهو).
هذا الشخص المتشدد بلغ به التعصب لدولة الاحتلال لدرجة أنه تنازل بلا تردد عن جنسيته الأميركية الأصلية عام 2005 ليتمكن من شغل منصب الملحق الاقتصادي في السفارة الإسرائيلية في واشنطن، الذي رشحه له بنيامين نتنياهو الذي كان يشغل منصب وزير المالية في حكومة أرييل شارون آنذاك.
وبعد عودته إلى إسرائيل عام 2008 ساهم بفاعلية في نجاح حملة نتنياهو الانتخابية وحصوله على رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام 2009، ليعينه نتنياهو مستشاره الخاص، ويتحول إلى رجل في غاية القوة والنفوذ، حتى إنه كان يكتب خطابات بنيامين نتنياهو، وهذا ما جعل نتنياهو يسلمه ملفًا حساسًا هو منصب سفير إسرائيل في واشنطن، وهو الملف الذي برع ديرمر في إدارته بسبب علاقاته الواسعة في الأوساط الأميركية.
وهنا برزت علاقاته مع التيار المحافظ في الولايات المتحدة، حيث نجح في بناء شبكة علاقات واسعةٍ مع شخصياتٍ محسوبة على الحزب الجمهوري، وهي التي ستقدمه في وقتٍ لاحقٍ للرئيس دونالد ترامب في فترته الأولى، حيث أعجب به ترامب بعد أن علم بدوره الكبير في توجيه وتحريك دفة السياسة الإسرائيلية تجاه الولايات المتحدة، ولا سيما دوره في كتابة الخطاب الأشهر لبنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي في عهد إدارة أوباما عام 2015، والذي أثار أزمةً دبلوماسيةً حينها بين إدارة أوباما وإسرائيل بعد تحريض نتنياهو في خطابه على عدم المضي قدمًا في خطة أوباما لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما كان يتفق تمامًا مع أهواء الجمهوريين، ولا سيما دونالد ترامب.
وهذا المدخل جعل من ديرمر مفتاحًا أساسيًا من مفاتيح السياسة الإسرائيلية في الولايات المتحدة في عهد ترامب، فمن خلال علاقاته التجارية والسياسية والاجتماعية المتعددة، لعب دورًا مركزيًا في تسهيل عدد من المشروعات الخطيرة، وعلى رأسها اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها عام 2017، وكذلك اعترافها بضم الجولان السوري المحتل لإسرائيل رسميًا، وساهم بفاعليةٍ كبيرةٍ في عقد اتفاقيات أبراهام مع عدد من الدول العربية عام 2020، وهو ما جعل وجوده في واشنطن مفتاح نجاحٍ مبدئيٍّ لطموحات نتنياهو.
إعلانومع قدوم حكومة نتنياهو الثانية، قرر نتنياهو تسليم حقيبة وزارة الشؤون الإستراتيجية لصديقه الوفي ديرمر، وهذه الوزارة التي أنشئت عام 2006 في عهد حكومة إيهود أولمرت كوزارةٍ شكليةٍ لإرضاء أفيغدور ليبرمان زعيم حزب (إسرائيل بيتنا)، تحولت إلى أداةٍ مهمةٍ بيد حكومات الليكود المتعاقبة، ويدٍ ناعمة خفية تعمل على ملفات تبدو صغيرةً ولكنها حساسة، مثل ملف ملاحقة أعضاء حركة المقاطعة الدولية ضد إسرائيل (BDS)، والعلاقات العامة مع مؤسسات المجتمع المدني وما شابهها.
وفي عهد ديرمر تحوَّلت هذه الوزارة إلى أداةٍ فعالةٍ في دبلوماسية الأبواب المغلقة ومحادثات ما تحت الطاولة، ويبدو أن نتنياهو بات يعتمد على ديرمر في هذه الوزارة – التي كان يفترض قديمًا أنها هامشية – لدرجة أنه خصص لديرمر مقعدًا دائمًا في كابينت الحرب الذي يدير الحرب على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الأمر الذي لم يكن نتنياهو يتيحه لوزراء في وزاراتٍ مركزيةٍ حيويةٍ، مثل وزارة الأمن القومي التي كان يرأسها إيتمار بن غفير.
من خلال النظر في هذه الحقائق، تتكشف لنا أسرار اختيار نتنياهو لديرمر ليرأس وفد المفاوضات في مرحلتها الثانية المفصلية على حساب رئيسَي جهاز الموساد والشين بيت.
فنتنياهو في مفاوضات المرحلة الأولى التي كان يرأس وفد إسرائيل فيها رئيس الموساد وجد نفسه مضطرًا تحت ضغط مبعوث ترامب ستيفن ويتكوف للنزول عن الشجرة والموافقة على الصفقة في مرحلتها الأولى. وهو يأمل بتعيينه ديرمر أن يكون قد أعاد لنفسه السيطرة الكاملة على ملف المفاوضات في مرحلتها الثانية.
اختيار ديرمر يعني أن نتنياهو يريد السيطرة على مفاتيح المفاوضات، ذلك أن ديرمر يمكن أن نعتبره نسخةً من نتنياهو، وهو ما جعل عائلات الأسرى الإسرائيليين تعبر عن خوفها من هذا الاختيار، فديرمر قال لهم في أحد اللقاءات إنه لن يؤيد أي اتفاق يوصل إلى إنهاء الحرب دون ضمان القضاء الكامل على حماس، في تكرارٍ حرفي لكلام نتنياهو.
إعلانمن ناحيةٍ أخرى، فإن نتنياهو بهذا التعيين يرجو أن يتخلص من ضغوط ترامب، حيث يرى نتنياهو أن ديرمر شخصية محببة لترامب، وهذا أمر حقيقي، فديرمر كان قد صرح في أحد لقاءاته العامة أنه يعتبر ترامب ملهمًا له لدراسة الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة بنسلفانيا في شبابه بعد أن قرأ أحد كتبه حول إدارة الأعمال.
كما أن علاقاته السياسية بترامب في فترة رئاسته الأولى كانت نتائجها كبيرة كما أسلفنا. ومن هنا فإن نتنياهو يرى أن وجود ديرمر على رأس الوفد المفاوض قد يساهم في تخفيف الضغوط الأميركية عليه؛ لأن ديرمر حلقةُ وصلٍ مقربةٌ لكلا الطرفين: نتنياهو وترامب.
وفي نفس الوقت، فإن تعيين ديرمر يعتبر محطةً أساسيةً ضمن محطات الحرب الدائرة في الأروقة بين نتنياهو وأجهزة الأمن الإسرائيلية وانقلابه عليها، فهي تعتبر أن تهور نتنياهو قد يودي بمشروع دولة الاحتلال كله إلى المجهول، ونتنياهو يعتبر أن نجاحه في وضع رَجُلِه المقرّب على رأس الوفد المفاوض بمباركة ترامب يجعله يكسب نقاطًا كثيرةً في وجه الأجهزة الأمنية، ويكون بذلك قد نجح في تحييدها عن أروقة اتخاذ قرارات الحرب الحالية، حتى إنه اتخذ قرارًا بمنع قادتها من حضور الاجتماعات الأمنية، وهو ما سيسهل عليه التخلص منهم لاحقًا دون إزعاج من الإدارة الأميركية التي لطالما كانت حليفًا وثيقًا للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وتثق تمامًا في تقديراتها المختلفة.
التخوف هنا في الحقيقة يكمن في أن تعيين ديرمر يعني أن نتنياهو يريد أن يكون هو نفسه الذي يقود المفاوضات، وهو الذي في نفس الوقت لا يريدها أن تنجح، وإن نجحت فبناءً على رؤيته الخاصة دون تنازلات مؤذية، لأنه يثق في قدرة ديرمر على تخفيف الضغوط الأميركية مع إبقاء مصلحة نتنياهو في مقدمة اهتماماته، وخاصة بسبب حماسة ديرمر نفسه للحرب.
ينبغي ألا ننسى هنا أيضًا أن ديرمر هو مهندس أوّل فكرة طرحت للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة برًا وبحرًا في بداية الحرب مباشرةً، بل إنه حاول تسويق التهجير أكثر من مرةٍ لإدارة بايدن، واختياره يدل على أن نتنياهو يريد تطبيق خطة التهجير بأي ثمنٍ.
إعلانوهذا ما يرتب على المفاوض الفلسطيني أن يتمتع بصلابةٍ مضاعفةٍ في المرحلة الثانية من المفاوضات مهما كانت الضغوط؛ لأنه هذه المرة لن يواجه جهةً واحدةً، بل جهتين متفقتين على خطة فرض الاستسلام عليه بالقوة، وتهجيره خارج القطاع نهائيًا ودون رجعة.
ويجب أن يعيَ المفاوض الفلسطيني أبعاد ما يريده نتنياهو وظلُّه ديرمر، أو ترامب وشركاؤه، ويثقَ في نفس الوقت أنه يملك من الأوراق ما يجعله قادرًا على فرض رؤيته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات السیاسة الإسرائیلیة الولایات المتحدة نتنیاهو فی أن نتنیاهو دیرمر فی وهو ما فی عهد
إقرأ أيضاً:
لماذا يكره ترامب شعار «لا ملوك بعد اليوم»؟
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
يوم السبت الماضي خرج ما بين خمسة إلى سبعة ملايين شخص إلى الشوارع والساحات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة من الولايات « الحمراء» (الداعمة للجمهوريين) إلى «الزرقاء» (الداعمة للديمقراطيين) في مظاهرات حاشدة ضد الرئيس دونالد ترامب وإدارته في حدث وُصف بأنه ربما أكبر تظاهرة جماهيرية في تاريخ البلاد ليوم واحد. وقد سبقتها في يونيو مظاهرات مشابهة، وإن كانت أقل عددًا (تراوح المشاركون فيها بين مليونين وخمسة ملايين)، لكنها كانت أيضًا من أضخم الاحتجاجات التي شهدتها أمريكا في يوم واحد.
ورغم أن واجب الرئيس أن يمثل جميع مواطني بلاده فإن ما قاله ترامب عن هذا اليوم كان كاشفًا لطبيعة رؤيته؛ فخلال حديثه للصحفيين على متن طائرته إير فورس وان قال: إنها مهزلة.
نظرت إلى الناس، ولم أرَ فيهم تمثيلًا لهذا البلد. ورأيت لافتات جديدة تمامًا يبدو أنها مموّلة من سوروس (الملياردير الأمريكي ذي الميول الليبرالية الذي يدعم منظمات المجتمع المدني)، وأتباع اليسار الراديكالي المجانين. نحن نتحقق من الأمر. المظاهرات كانت صغيرة، والناس مختلون.
وفي اليوم نفسه نشر الرئيس على منصة «تروث سوشيال» مقطع فيديو أنتجه الذكاء الاصطناعي يُظهره وهو يقود طائرة حربية ويقصف المتظاهرين بسيول من القاذورات مرتديًا تاجًا على رأسه. هذه ليست مبالغة، بل حدث بالفعل.
أما ما لم يكن صحيحًا فهو رواية الرئيس عن المظاهرات؛ إذ أكدت جميع التقارير أن المحتجين كانوا يمثلون أطيافًا واسعة من المجتمع الأمريكي، وأن تحركاتهم كانت سلمية ومنظمة.
ومن المفيد مقارنة ردّ ترامب هذا بما قاله الرئيس السابق باراك أوباما حين واجه احتجاجات «حزب الشاي» الصغيرة نسبيًا في فترته الأولى. فقد صرّح أوباما عام 2010 قائلًا: «أعتقد أن في أمريكا تقليدًا نبيلًا من الشك البنّاء في السلطة، وهذا أمر جيد.
وهناك أيضًا تقليد نبيل في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يقوم على أن الحكومة يجب أن تعيش في حدود إمكاناتها وألا تُثقل كاهل الأجيال القادمة بالديون»، ثم دعا المتظاهرين إلى تحديد مطالبهم بوضوح حتى يمكن العمل على أرضية مشتركة.
قد يظن البعض أن الفارق بين الرجلين مجرد اختلاف في الطباع، لكن المسألة أعمق من ذلك. فحتى الرئيس ريتشارد نيكسون -المعروف بحقده العميق على معارضيه- التقى طلابًا من المحتجين على حرب فيتنام عند نصب لنكولن التذكاري، محاولًا فهم وجهة نظرهم بوصفهم مواطنين لا خصومًا.
أما ترامب فلا يرى نفسه رئيسًا لكل الأمريكيين، بل لقومه وحدهم، أولئك الذين يسكنون ما يسميه «أمريكا ماجا» والمحددة بألوان خريطة الانتخابات الرئاسية لعام 2024. ليست القضية أنه يهتم بمصالح مؤيديه فحسب، بل إنه يُضمر كراهية صريحة لمن يعارضونه.
وقد قال في مناسبة رسمية لتأبين الناشط المحافظ تشارلي كيرك الشهر الماضي: «أنا أكره خصمي ولا أريد له الخير» ما يريده ترامب هو السيطرة، لا الحوار. ولأجل ذلك حوّل الأجهزة الأكثر قسوة في الدولة إلى أدوات لتركيع معارضيه، أو «أعدائه» كما يراهم، وإجبارهم على الخضوع لإرادته. ولهذا خرج الملايين يهتفون تحت شعار «لا ملوك بعد اليوم» رافضين نزعاته السلطوية وأحلامه الملكية.
تحت هذا الشعار اجتمع واحد من كل خمسين أمريكيًا ليعلن رفضه لأساليب الحكم الاستبدادية التي يتبعها الرئيس. ومع أن مؤيدي ترامب يتجاهلون اتهامات السعي وراء سلطة مطلقة، ويتذرعون بمقولة «هوس معاداة ترامب»؛ فإن الوقائع وحدها كافية لإثبات العكس.
فقد أنشأ أجهزة جديدة لملاحقة خصومه، وأبقى جيوشًا في المدن من دون موافقة الكونجرس، وجعل المؤسسة العسكرية فوق المدنية، وقطع طرق التجارة، وفرض الضرائب دون استشارة المشرعين، بل صرف أموال الدولة من دون تفويض برلماني لدفع رواتب الجنود أثناء الإغلاق الحكومي في مشهد يعيد إلى الأذهان ممارسات الملوك المستبدين في أوروبا القديمة.
كل ذلك في سبيل إعادة تشكيل نظام الحكم الأمريكي على صورته هو؛ ليصبح سلطة فردية مطلقة. لقد أدرك معارضوه أنه يسعى إلى قوة تمكنه من سحقهم، ولم يُخفِ هو رغبته في تحويل مؤسسات الدولة ضد الولايات التي تميل إلى الديمقراطيين، ومعاقبة مواطنيها؛ لأنهم لا يصوتون له. ففي حديثه أمام قيادات الجيش مؤخرًا قال: «نحن نواجه غزوًا من الداخل لا يختلف عن الغزو الأجنبي.
إنها حرب داخلية»؛ ولهذا استخدم الحرس الوطني لاحتلال المدن، واستبدل القانون المدني بالأوامر العسكرية، وسخّر أجهزة الأمن الفيدرالية لملاحقة خصومه السياسيين والجامعات والمنظمات التي يصفها بالليبرالية، كما جمّد أموالًا مخصصة للولايات ذات الأغلبية الديمقراطية، وهدد بقطع التمويل عن مدن مثل نيويورك.
وقال في أحد اجتماعات الحكومة: «نحن نقطع فقط برامج الديمقراطيين. أكره أن أقول ذلك، لكنها الحقيقة. سنوقف برامجهم الشهيرة التي لا تروق للجمهوريين». والمفارقة أن هذا الإصرار على معنياقبة الديمقراطيين أضرّ بملايين من أنصاره المقيمين في ولايات كبرى مثل نيويورك وإلينوي وكاليفورنيا غير مدرك أن في مقاطعة لوس أنجلوس وحدها من صوّتوا له أكثر مما في ولاية أوكلاهوما كلها.
ففي نهاية المطاف لا يمكن حكم دولة على أساس «فريقي ضد فريقكم». فالولايات المتحدة لا تنقسم حقًا إلى مجتمعين منفصلين مهما أظهرت الخرائط الانتخابية. فالشعب الأمريكي رغم انقسامه السياسي يعيش في وطن واحد ينهض أو يسقط معًا. ومن ثم فإن سياسة الانتقام التي ينتهجها ترامب تلحق الضرر بالجميع حتى بمن يصفقون له من أنصاره.
وقد كان الهدف المباشر لمظاهرات «لا ملوك بعد اليوم» هو تذكير الرأي العام والنخب السياسية والاقتصادية بأن ما قيل عن «تحول المزاج العام» بعد انتخابات 2024 ليس إلا وهمًا، وأن ترامب، الذي يصوّره البعض رمزًا «للأمريكي الأصيل» ليس سوى سياسي عادي فاقد للشعبية.
لكن قوة الاحتجاج الجماهيري تكمن في أنه وإن كان منظمًا يظل غير متوقع في أثره؛ فلا أحد يعلم من تأثر به أو استلهمه أو تغيّر بسببه.
باستعادتها لرموز الثورة الأمريكية وشعاراتها؛ أعادت هذه المظاهرات تذكير الأمريكيين بأنهم شركاء في مشروع الحكم الذاتي، وأنه لا وجود لانتخابات تمنح أي رئيس سلطة انتزاع هذا الحق منهم. يحتاج ترامب إلى الانقسام ليغذي طموحاته الاستبدادية، ويحقق حلمه الملكي؛ ولذلك يعمل على تمزيق البلاد من الداخل. غير أن تصاعد موجة الرفض الشعبي قد يكون الدليل الأقوى على أن الأمريكيين بدأوا يدركون قوتهم حين يتوحدون في وجه الاستبداد.
جمال بويي كاتب عمود في صحيفة «نيويورك تايمز»، ومراسل سياسي سابق لمجلة «سلايت».
الترجمة عن صحيفة ذا نيويورك تايمز