الرسالة التي حملت رؤية المؤتمر الوطني المستقبلية للسودان جديرة أن تثير نقاشا واسعا في أوساط النخبة السودانية المثقفة . وقد آن لقادة الفكر في بلادنا أن يبدأوا السباق المعرفي ، وليفتحوا الأبواب لشعب السودان ليسهم في رسم استراتيجية البناء والنهضة العظيمة للأمة السودانية .

ونهاية الحرب الضروس قد باتت وشيكة بما قدمته القوات المسلحة ومعاونيها من شباب السودان بتكويناته وانتماءاته المختلفة من تضحية وفداء وثبات وصبر وعزيمة ، لجديرة بأن
تسجل في كتاب التاريخ فخرا وعزا ومجدا أثيلا للسودان ، وتترك في قلوب أعدائه رعبا ورهبة
لا يمحوها مرور الأيام والليالي .

فالتحية والدعاء بعد حمد لله لكل من اشترك في معركة الكرامة بالقتال المباشر وبالإعداد وبالانفاق المادي وبالرأي السديد وبالدعاء الصادق لتحقيق النصر الخالد والمجد التليد . والرحمة والقبول من الله لشهدئنا من المقاتلين في صف القوات المسلحة الذين وهبوا حياتهم لربهم ولبلادهم العزيزة . والدعاء لكل مكلوم وكل مهموم ومظلوم وجريح ومصاب ولكل أم وأب لشهيد أو مقاتل جسور .
إن من ملامح ما بعد النصر أنها كما أنهت المؤامرة الاقليمية والدولية الكبري علي البلاد ، فإنها قد انتهت بها حقبة جيل السبعينات والثمانينات ومعظم مواليد الاربعينات والخمسينات من أبناء السودان الذين عمروا بلادهم وأداروها في تلك الحقبة . فمن عبر منهم إلي الدار الآخرة فهو رجاء الله تعالي ومغفرته ورضوانه . ومن بقي منهم فهو في فترة المراجعة والإنابة والاستعداد للرحيل ، مع بذل ما اكتسبه من تجارب الحياة العامة والخاصة للجيل الناهض بأعباء الحياة القادمة . فبتقدم العمر وبتغير الأحوال وباختلاف أهداف المرحلة وتحدياتها لم يعد هناك من يطمع من أبناء ذلك الجيل في منصب أو في قيادة أو مكسب دنيوي إلا ما ندر ، وقد عبروا عن مواقفهم هذه في مناسبات عدة . فليهنأ الذين أصابهم الوجل من عودة مشاهير سابقين إلي تولي الحكم مجددا فلا العمر ولا الرغبة ولا الأحوال تسعفهم في ذلك . ولتستعد الأجيال الناهضة لتولي مسئولية إدارة الحياة في الدولة والمجتمع بمواهبهم في العلم والمعرفة ، وليدخلوا بابتلاء الله لهم في معترك الحياة بالعزم والحزم والزهد والاستقامة ، وبحب الله وحب الوطن وحب الناس وكراهية الفساد والخيانة والجريمة .
إن النظر في أسبقيات العمل في الدولة تفرض علي المرء البدء بما هو أولي . ولا أحسب أن قضية ما تسبق قضية الأمن القومي في البلاد . فبفقدان الأمن فقد أهل السودان كل شيء ، النفس والأرض والمال والعرض والطمأنينة والتعليم والصحة واجتماع الأسرة وغيرها . لقد كان عقلاء المجتمع يطلقون المحاذير للشعب السوداني عن مخطط العدو الخارجي لاستهداف الوطن والمواطنين ، ويبينون لهم ملامح التخطيط المجرم لاحتلال البلاد ، وقد نشرت ملامحه في وسائل الإعلام الغربية باقتراب احتلال دول في المنطقة من بينهم السودان ، ولكن غفلة العامة كانت كبيرة ، وتصديقهم لوقوع الكارثة كان ضعيفا ، وحسبوها مناورات من ساسة يريدون بها التكسب ، فلم يستبينوا النصح حتي وقعت الواقعة ورأوا بأعينهم ما لم يخطر ببالهم من فظائع الحرب وقسوة المجرمين ووحشية البشر وهمجية ليست من طبائع الحيوان ، وأصبح مخطط العدو يجوس خلال ديار المواطنين العزل في القري النائية والمدن الوادعة . ولولا لطف الله وحسن تدبيره ورعايته لفقدنا أرض السودان بما تحمله من مواهب الله الثرة وعواريه المستودعة ومنائحه الدارة وخيراته الوفيرة ومساجده العامرة وخلاويه التالية لكتابه ، ولأصبح أهله مشرودين في دول لا تعرف معاني الإخاء والنصرة وحب الناس واستقبال الملهوف .
فمن أجل هذا الدرس القاسي تكون العظة للحاكم والمحكوم علي السواء بأن قضية الأمن القومي هي القضية ذات السبق في الترتيب ، بلا تراخ ولا تفريط ، ولا استهانة ولا استكانة ولا مجاملة لقريب أو بعيد أو لصديق أو عدو . فإن كان في خزينة البلاد وفي خزائن أفراد مال كثير أو قليل فهو أولا لتأمين البلاد ، والبدء بالقوات المسلحة وقوات الأمن وقوات الشرطة . إن مضاعفة الاحتياطي البشري لهذه القوات في ظل التهديد الماثل والذي لم تزدة الأيام إلا تأكيدا ، ينبغي أن يضاعف بعشرة أضعافه . والقوات النظامية تدرك كيف تفعل ذلك دون عنت ومشقة . ومضاعفة الاحتياطي البشري تظل تأمينا للبلاد من أي تمرد داخلي وأي غزو خارجي ، كما أنها سند ميسور لمواجهة الكوارث الطاريئة ، وهي أيضا مورد للمعلومات ورصد لكل نشاط تخريبي في الاقتصاد ومكافحة التهريب وتجارة المخدرات والوجود الأجنبي غير المقنن ، وفي الحيلولة دون انفجار النزاعات القبلية وفي اختراق الحدود وغيرها .
إن مضاعفة قوات الاحتياط بشريا لابد أن تصحبه مضاعفة القدرات القتالية والتأهيل الأمني والتدريب المتقدم والإعداد النوعي الذي يستجيب للتطوير الفني باضطراد كلما تطورت الأنظمة التقنية ليواكب تطورها تجاوزا للتخلف وحرصا علي التفوق المستمر الذي يفضي إلي يأس شياطين الإنس والجن من الطمع في بلادنا .
بالطبع هنا لا نتحدث عن تطوير القدرات العسكرية الدفاعية والفنية ، حيث أن قادة هذه الأجهزة أكثر دراية منا ، ولا نتحدث عن إعادة هيكلتها كما كان يفعل جهلة الحرية والتغيير وعملاء السفارة الغربية وخونة الزمرة المستعبدة وأرباب اليسار المستخدم ، ونحن نعلم أن ما لدي هذه الأجهزة ما يعينها في تطوير استراتيجيتها كلما لزم الأمر . ومع ذلك نلمح ولا نفصل في إعادة النظر في الخارطة الجغرافية الدفاعية بما يعين علي قيام مدائن حضرية جديدة مزودة بوسائل دفاعية مقتدرة وقدرات انتاجية مقتدرة ووسائل اتصال عالية الجودة وصناعات تحويلية ومصدات دفاعية محكمة وخارطة دائرية متصلة لا تعين العدو علي اختراق البلاد كما فعل الآن ، وتستوعب في داخلها نخبة كبيرة من الخريجين لتقوية حصون البلاد الجديدة ، ولميلاد جيل عالم مستنفر معبأ ومقاتل ومنتج ومهتد وهاد لأمته المحفوظة بعناية الله تعالي .

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: الحزب الجديد!

ظلّت التجربة السياسية في السودان، منذ الاستقلال في العام 1956، تدور في فلك أزمات متكررة، لم يكن سببها غياب الأحزاب، بل عجزها عن تجديد مفاهيم العمل السياسي وبناء مشروع وطني جامع. فقد تنوّعت الكيانات وتعدّدت الأسماء، لكن كثيرًا منها ظلّ أسير الأجندات الضيّقة وواجهة لصراعات النخب الفاشلة.

في هذا السياق، لا يكفي تأسيس حزب جديد كـ “حزب الكرامة” أو غيره لتجاوز الانسداد في الأفق السياسي ، ما لم يُبنَ على وعيٍ بطبيعة الدور الحزبي نفسه: من يُمثّل هذا الحزب؟ ماذا يُقدّم؟ وكيف يُسهم في إعادة تعريف الدولة والمجتمع؟ فالتجديد المطلوب اليوم ليس في الشكل، بل في الرؤية، والوظيفة، والمفاهيم.

رئيس تحرير صحيفة “المجهر السياسي”، الهندي عز الدين، كتب بالأمس معلّقًا على هذا الاسم في منصة “إكس”، مُبديًا تحفّظه على رمزية “الكرامة”، التي يرى أنها ارتبطت وجدانيًّا بعملية عسكرية “معركة الكرامة”، اشترك فيها الشعب السوداني، لكنها ليست إطارًا سياسيًّا يمكن البناء عليه لمشروع حزبي طويل الأمد. إلا أنه لم يناقش الموضوع . في هذا المقال نحاول مناقشة جوهر الفكرة بعيدًا عن التشكيك في دوافع من يقف خلفها، سواء من رجال أعمال أو قيادات سياسية أو ناشطين.

عليه دعونا نطرح سؤالًا تأسيسيًّا: هل نحن بحاجة إلى قيام “حزب جديد”، أم إلى إعادة تعريف جوهر الفكرة الحزبية والسياسية في السودان؟

بالنظر إلى الواقع السياسي الذي تعيشه بلادنا منذ سنوات، وما تشهده الساحة من ارتباك عميق في المفاهيم والولاءات، إلى جانب بعض الممارسات الحزبية التي ترقى إلى مستوى خيانة الوطن؛ فالأحزاب التقليدية، رغم إرثها التاريخي، باتت عاجزة عن التجديد، بينما تتكاثر أخرى بلا هوية، وغالبًا ما تتأسّس وفق منطق المكايدة أو الطموح الشخصي، لا وفق برنامج سياسي جاد يعكس تطلّعات الشارع ويترجم أولويات المرحلة.

إن تأسيس حزب حقيقي في هذا الظرف يتطلّب ما هو أعمق من اختيار اسم جاذب أو شعار طَموح؛ يتطلّب أولًا إعادة تعريف مفهوم الحزب باعتباره أداة ديمقراطية لصياغة الإرادة الجماعية، لا وسيلة لتكريس المصالح أو تحصيل المكاسب الضيّقة.

إذا لم تتحرّر الأحزاب، القديمة والحديثة، من منطق التوظيف السياسي والمادي، ستبقى أسيرة أدوارها الوظيفية في صراعات عبثية تُعيد إنتاج الفوضى بدل أن تُنتج مشروعًا وطنيًّا جامعًا. لقد تحوّل العمل الحزبي في بلادنا إلى فضاء تغلب فيه الحسابات الشخصية والانتماءات الضيّقة على الرؤية الوطنية الجماعية، مما عطّل قدرتها على بناء مؤسسات تعبّر بصدق عن هموم الناس وتحوّل تطلّعاتهم إلى سياسات واقعية منتجة و فاعلة.

المواطن السوداني لم يعد يبحث عن زعيم مُلهم أو شعار براق، بل عن حزب يمتلك برنامجًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا واضحًا يعالج أزمات المعيشة، والخدمات، والعدالة الاجتماعية. وتُثبت تجارب إقليمية أن الأحزاب التي تقوم على برامج لا على شعارات هي التي أحدثت التحول المنشود. ففي تركيا، مثّل حزب العدالة والتنمية نموذجًا لحزب انطلق من برنامج إصلاحي مكّنه من التدرّج من المعارضة إلى الحكم. وفي رواندا، قادت الجبهة الوطنية بقيادة بول كاغامي نهضة شاملة في بلد خرج من جحيم الإبادة عبر خطاب وطني ومشروع تنموي صارم.

هذه النماذج تؤكد أن الحزب ليس مجرد وعاء تنظيمي، بل أداة لتجسيد إرادة جماعية ومشروع لبناء الدولة. ومن هنا، فإن إعادة هيكلة المشهد الحزبي في السودان لا تتطلّب مزيدًا من الكيانات، بل اندماجًا عقلانيًّا وفق المشتركات الفكرية والرؤى العملية.

المطلوب ليس تعدّد اللافتات، بل وجود ثلاثة أو أربعة أحزاب قوية تُمثّل التيارات الكبرى: الإسلامي، الليبرالي، القومي، اليساري، وتضم تحت مظلّتها الحركات والتيارات عبر برامج واضحة، لا تحالفات ظرفية أو انتهازية.

من أبرز معوّقات تطوّر الأحزاب السودانية استمرار الارتهان لنموذج “الزعيم الأوحد”، الذي يُختزل فيه العمل السياسي في شخصية فردية ترتبط غالبًا برمزية تقليدية أو تاريخية. هذا النموذج لم يعد ملائمًا لواقع السودان الراهن، في ظل تنوّع المجتمع وتباين قدرات النخب. فالعالم تجاوز فكرة “القائد الملهم” إلى نمط القيادة الجماعية المؤسسية، التي تقوم على توزيع المسؤوليات والعمل التشاركي.

هذا النموذج أكثر واقعية أمام تعقيد الأزمات، وأكثر انسجامًا مع الديمقراطية، وأقدر على إنتاج حلول قابلة للتنفيذ، كما يُحصّن الحزب من التبعية الخارجية. ومن هنا ينبغي أن تكون القيادة الجماعية والشورى الفاعلة جوهر أي مشروع حزبي جاد، بعيدًا عن الهياكل السلطوية التي تعيد إنتاج الفشل.

وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن اللحظة السياسية الراهنة تستدعي من النخب الجادة إعادة تعريف العمل الحزبي، لا كوسيلة للوصول إلى السلطة، بل كمنصّة لإنتاج مشروع وطني جامع. فالحزب الذي لا يتجاوز منطق الزعامة والشللية، ولا يمتلك برنامجًا متكاملًا، يبقى عبئًا لا أداة للتغيير. بدون هذا التغيير الجوهري في الفهم، لن تتجاوز الأحزاب في السودان حالة التجزئة والتخبط، وسيظلّ حلم دولة المواطنة والتنمية والعدالة حلمًا بعيد المنال.
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 11 يونيو 2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • إبراهيم شقلاوي يكتب: كهرباء السودان .. من قري إلى كلاناييب
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (قال …. من يفتحون عيونهم الآن)
  • ماذا قال جبريل ابراهيم التشكيل الوزاري الجديد وما يُشاع عن أزمة جوع في السودان؟
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الحزب الجديد!
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (القادم …. يا ساتر)
  • الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال (الجبهة الثورية) تدين الاعتداء على الحدود السودانية
  • خارجية “الوحدة الوطنية” تنفي صلة أي قوة ليبية رسمية بهجمات على الحدود السودانية
  • لصد العدوان.. قرار عاجل من القوات المسلحة السودانية بشأن المثلث الفاصل
  • لبنان: تفكيك 500 موقع سلاح وتعزيز الأمن جنوباً
  • الخارجية السودانية: مشاركة كتيبة السلفية الليبية التابعة لخليفة حفتر اعتداء سافر على سيادة السودان