لجريدة عمان:
2025-05-20@23:16:01 GMT

عن الجمال الطبيعي

تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT

أول ما يرد على أذهان الناس حينما تُذكَر كلمة «الجمال» هو تلك الصور أو الأشكال المعتادة للجمال في دنيا الحياة، وهي صور الجمال الطبيعي؛ ومنه الجمال البشري كما يتمثل في النساء خاصةً، وجمال المَشاهِد الطبيعية: كالغابات والبحيرات والأنهار والجداول، وغير ذلك مما لا يُحصى عدده ومما لا يراه الناس في عالم الواقع المُعاش! فالواقع أن الناس في أيامنا هذه قلما يشاهدون جمال السماء التي تزينها النجوم كمصابيح، بسبب الابتعاد عن الطبيعة والعيش داخل أبنية مرتفعة ومتلاصقة تحجب عنهم عالم الطبيعة الذي فتن كانط، فقال: «شيئان يملآن النفس بالإعجاب والروعة: السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقانون الخُلقي في باطني».

ومع ذلك، فإنه حتى أولئك البشر الذين تفتنهم الطبيعة لا يدرون شيئًا عن جمالها الذي لا يرونه، ومنه جمال صور المجرة الأرضية وغيرها من مجرات الكون التي لا نراها بالعين المجردة، وإنما نراها من خلال أجهزة التلسكوب العملاقة المتطورة؛ ولقد شاهدت صورًا من ذلك النوع تفوق الخيال في جماليات تكوينها وألوانها، وكأنها لوحات من الإبداع البشري الفائق في مجال التصوير التعبيري التجريدي. هذا الجمال الطبيعي لا تدركه الأبصار، ولكنه موجود في الكون بصور لا تحصى؛ ومنه ما هو موجود من حولنا في عالمنا الأرضي ولكننا لا نراه؛ ويمكننا أن نذكر في هذا الصدد أن التشكيلات الجمالية توجد حتى في نُدف الثلج، وهي التشكيلات التي قام بتصويرها عالم يُدعى بنتلي Wilson Bentley عبر عقود عديدة مستخدمًا كاميرات بدائية فيما مضى، والتي تم جمع الآلاف من صورها، ونُشِر بعضها فيما بعد في كبريات المجلات العلمية مثل Nature، و National Geographic، وأصبحت مصدرًا خصبًا من الصور التي يستلهمها المصورون وينهل منها المشتغلون بالتصاميم الفنية في صناعة النسيج والسجاد.

ولا شك في أن الكثرة الهائلة من صور الجمال الطبيعي التي تتجلى فيما نراه وفيما لا نراه، إنما تعد دليلًا قويًّا على وجود الخالق الذي يُوصَف بأنه «المصوِّر الأعظم»، باعتباره الخالق البارئ المُصوِّر. وهذا الدليل الذي أسميه «دليل الجمال» يمكن أن يضاف إلى الأدلة على وجود الله (وأرجو أن يُنسَب مسمى هذا الدليل إليَّ متى أراد أن يقتبسه أحد من الباحثين). وفحوى هذا الدليل أن صور الجمال المرئي واللامرئي في الكون هي من الكثرة بحيث لا تحصى، فهي إذن ليست مجرد مصادفات؛ كما أنها لا يمكن تسويغها وفقًا لمنطق الضرورة (كما في نظرية دارون على سبيل المثال)؛ فليست هناك أية ضرورة على الإطلاق تسوّغ هذا الجمال الهائل في التشكيلات اللونية على ريش بعض الطيور (كالطاووس والببغاوات) كيما تستمر في البقاء: فهذا الجمال المذهل على ريش هذه الطيور لا علاقة له بوظيفة الريش في التدفئة أو الطيران أو حتى إثارة الدافعية الجنسية. ومثل هذا يمكن أن يُقَال عن التشكيلات اللونية البديعة التي نجدها على جلد بعض الأسماك؛ فليست هناك وظيفة نفعية لهذا الجمال كي تبقى كأنواع حيوانية، بل إن العكس هو الصحيح، أعني أن هذه التشكيلات اللونية البديعة في بعض الأسماك، لا توجد غالبًا إلا في أسماك صغيرة لا تصلح لشيء، فهي لا تصلح حتى للأكل؛ وإنما تصلح فحسب للزينة! فالأسماك تتناسل وتتكاثر بصرف النظر عن جمال شكلها وهيئتها، بل إن من المفارقات المدهشة في هذا الصدد أن الأسماك التي تمتاز بألوان فائقة الجمال هي أسماك لا تصلح حتى للأكل.

والواقع أن هذا الأمر ذاته يذكرني بالجمال البشري نفسه الذي لا نجده فحسب في الشكل أو التكوين البشري للوجه والجسم، وإنما نجده حتى في الصوت البشري: فقد حبا الله البشر بملكات من الصوت بحيث لا يكون الصوت البشري مجرد أداة لتبليغ الكلام، وإنما يمتاز بقدرات على التنغيم والتعبير يمكن أن تبلغ درجة فائقة من الجمال، وهذا ما نجده في الأصوات الغنائية البديعية التي تبدو بوصفها إبداعًا إلهيًّا خالصًا، لا يمكن تسويغه أو تفسيره إلا بهذا الاعتبار: أعني باعتباره إبداعًا خالصًا. هذا الإبداع الإلهي الخالص هو ما نسميه عادةً بالموهبة. كنت أدعو الطلبة الذين أُلقي عليهم دروسي في علم الجمال، كنت أدعوهم إلى تأمل هذا الأمر، فأقول لهم: لقد حبا الله معظمنا بنعمة النطق والكلام، ولكنه حبا قلة منا بجمال الصوت، وحبا ندرة من البشر بالقدرات الفائقة في التعبير الجمالي عن هذا الصوت والتلوين فيه. ولكي أشرح معنى ما أقول لطلبتي، كنت استخدم مثالًا عمليًّا يُقرِّب المسألة من أفهامهم؛ فكنت أدعوهم إلى تأمل صوت المطربة الفذة: ليلى مراد. وهي مطربة فذَّة لأن الله أرادها أن تكون كذلك، أعني أراد أن يمنحها تلك القدرة الصوتية التي تتبدى في مدى اتساع الصوت، والقدرة على التنغيم في كل موضع من هذه المساحات الصوتية العريضة من دون جهد أو عناء، أعني من دون ذلك الجهد والعناء الذي يتبدى على وجوه المطربين العاديين إن حاولوا ملء تلك المساحات الصوتية، فترى عروق رقابهم نافرة بفعل شد الأحبال الصوتية، وترى شفاههم تنفرج إلى أقصى درجة وكأنهم يريدون الصراخ كي يبلغوا الطبقة الصوتية التي تبلغها ليلى مراد بكل سهولة، وبانفراجة ضئيلة للشفتين وكأنها ابتسامة عابرة!!

وكل هذا يؤكد في النهاية أن الجمال البشري أو الجمال الطبيعي في عمومه، إنما هو إبداع كوني لا تفسير له سوى أنه إبداع إلهي! ومع ذلك، فإن هذا الجمال الطبيعي يظل مختلفًا عن الجمال في الفن، وهذا هو موضوع مقالي التالي.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الجمال إبداع ا

إقرأ أيضاً:

بالصدفة .. جرافة تصطدم بمبنى وتكشف آثارًا جديدة في أم الجمال

#سواليف

كشف رئيس بلدية #أم_الجمال حسن الرحيبة عن اكتشاف #مبنى_أثري تحت الأرض خلال عملية إزالة اعتداءات للتنظيم يوم الجمعة.

وقال الرحيبة في تصريحات نقلتها إذاعة امن أف ام، إنّ #الجرافة اصطدمت داخل المدينة السياحية خلال عمليات الإزالة بشيء أثري لم يكن ظاهرًا، لتقوم البلدية بإبلاغ دائرة الآثار العامة، التي أرسلت بدورها فريقًا، حصر المنطقة وسيبدأ العمل فيها ضمن اختصاصه.

وبين أنّ معالم الموقع الأثري حتى اللحظة لم تتضح بشكل عام، وهذا معني بدائرة الآثار العامة، مشيرّا إلى أنّ ملف تسمية أم الجمال ضمن قائمة التراث العالمي، احتوى 10% من الآثار الموجودة في المنطقة، ما يعني أنه ليس مستغربًا اكتشاف #آثار_جديدة تضفي قيمة جديدة على #المدينة_الأثرية.

مقالات ذات صلة مشاهد لا تحتمل لأب فلسطيني يحاول إنقاذ طفله من حريق هائل سببه قصف إسرائيلي على خان يونس 2025/05/18

وأدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) العام الماضي في قائمتها لمواقع التراث العالمي موقع أم الجمال الأثري في أقصى شمال المملكة كسابع موقع أثري أردني يدرج على لائحة التراث العالمي لليونسكو، والتي تضم البترا وقصير عمرة وأم الرصاص ووادي رم والمغطس والسلط.

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • بمواصفات مذهلة وبطارية جبارة .. إليك أفضل سماعات أذن لاسلكية في الأسواق
  • تقرير| خطوات شراء أضحية سليمة من الجمال بأسوان مع قرب حلول عيد الأضحى
  • سوني تطلق WH-1000XM6: سماعة مطوّرة بصوت نقي وتصميم قابل للطي!
  • الدبيبة: ملتزم بمكافحة الإفلات من العقاب وإنهاء كافة التشكيلات المسلحة
  • الصغير: رحيل حكومة الدبيبة حتمي بعد انهيار تحالفه مع التشكيلات المسلحة
  • وقفة في ساحة كلية الطب البشري بجامعة حلب إحياءً لذكرى المظاهرة الكبرى التي شهدتها الجامعة ضد ممارسات النظام البائد وتقديراً لتضحيات الشهداء.
  • غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
  • اكتشاف مبنى أثري جديد في أم الجمال خلال إزالة اعتداءات تنظيمية
  • بالصدفة .. جرافة تصطدم بمبنى وتكشف آثارًا جديدة في أم الجمال