يلجأ الإنسان إلى المهنة كحاجة طبيعية وضرورية توفر له أسباب البقاء، فالدوافع وراء البحث عن مهنة قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو ذاتية، وهناك أيضا دوافع عقائدية وسياسية تحرك الميول الفردي للإنسان، وتحقق له شرط وجوده الإنساني. إن الشرط المادي قد يكون أهم هذه الدوافع مهما اختلفت درجات المهن في بساطتها وتواضعها أو علو قيمتها ضمن هرم تراتبها الاجتماعي، فسلم الأولويات هو الذي يحدد قبول أو رفض الفرد للمهنة، والإنسان قد يقع تحت ضغط الظرف الزمني والحياتي، الذي يقوده إلى مهن تفرضها وقائع وظروف الحياة.

وفي كتاب «أسوأ المهن في التاريخ، سرد لقصة ألفي عام من العمالة البائسة» يسرد لنا «توني روبنسون» في كتابه الصادر عن مشروع كلمة بترجمة د. عبدالله جرادات، يسرد لنا أسوأ المهن والوظائف التي مرت بها البشرية في عصورها المختلفة، فنراه يبدأ من العصور الرومانية القديمة مرورا بالقرون الوسطى ونزولا إلى العصر الفيكتوري، حسب الفصول التي شاء الكاتب أن يقسم بها هذا الكتاب.

وسأحاول أن أعرج هنا بقليل من التفصيل على بعض هذه الحقب الزمنية التي تناولها هذا الكتاب، والذي حاول من خلالها سرد مأساة الإنسان في بحثه المضني، لتوفير أسباب بقائه من خلال المهن التي مرّت بها العصور المختلفة لتاريخ الإنسانية.

أسوأ الوظائف الأولى

في الفصل الأول من هذا الكتاب، ينقل لنا روبنسون صورة واقعية للمجتمع الروماني القديم والرفاهية التي كانت تعيشها هذه المجتمعات، والتي تستوجب وجود وظائف دنيا تقوم بمتطلبات هذه الرفاهية. فإلى جانب أدوار العبيد في تلك المجتمعات البعيدة، كانت ثمة مهام تؤدى من قبل الرجال والنساء الأحرار، فهناك مهمة «جامع القيء» الذي كان يتطلب وجوده في الولائم الرومانية، حيث يخصص مكان يسمى «المقيئة» يتقيأ فيه الضيوف لإفساح المجال للمزيد من الطعام الذي يمر عبر أفواههم، والذين لا يستطيعون مغادرة أمكنتهم توفر لهم أوانٍ أو يتقيؤن بكل بساطة في أرضية الغرفة، ثم يكون هناك من يمسح أو يجمع هذا القيء والذي هو خليط من الطعام والشراب الذي كان يقدم في تلك المجتمعات المخملية.

وخارج هذه القبب الفارهة، فهناك أيضا «عمال مناجم الذهب»، الذين يتطلب منهم الحفر لأعماق كبيرة باستخدام أكثر الأدوات بدائية، ونقل كميات من الصخور من داخل الأنفاق الضيقة والمظلمة والخطرة، والتي كانت عرضة للانهيار في الظلام الدامس، إلى جانب الدخان الذي يتسرب عبر الأنفاق في محاولة إشعال النار لإضاءة هذه الأماكن المعتمة.

أما «الحراثة والفلاحة» في تلك العصور المظلمة، فكان الفلاح، رغم امتلاكه للأرض، ملزمًا بتقديم العديد من الأعمال لسيده. وعند وفاته، كانت أرضه تنتقل إلى مالك العزبة. بالإضافة إلى عمله في الفلاحة، كان الفلاح يقوم بأدوار أخرى مثل جمع الحطب، والطحن، والبناء. أما زوجته فكانت تقوم بمهام متعددة مثل الطحن، والحياكة، والخياطة، والطهي. وكان الأبناء يعملون كراعين للأبقار والخنازير والأغنام، كما كانوا ينقلون الأشياء ويعملون كحمّالين، ويعاونون في كل الأعمال التي يحتاجها سيدهم. عدم القيام بهذه الأدوار كان يعني الجوع في تلك الحياة القاسية، التي كانت تسمح ببيع الأبناء ليصبحوا عبيدًا بسبب عجز الأسر عن تأمين نفقاتهم. هذا الجوع كان يقود إلى الانتحار الجماعي بسبب المجاعات التي كانت تضرب تلك المجتمعات البائسة، حيث كان العديد من الناس الذين يعانون تحت وطأة الجوع يلجأون إلى الانتحار الجماعي بالقفز من جروف عالية، لينهوا حياتهم بالارتطام بالأرض.

أسوأ المهن في العصر الفيكتوري

في الفصل السادس من هذا الكتاب يأخذنا روبنسون إلى أسوأ المهن في العصر الفيكتوري، حيث تميز هذا العصر بالتقدم العلمي والاجتماعي خلال حكم الملكة فيكتوريا، لكنه رغم تقدمه العلمي والمدني لم يخل من صور تمثل حياة البؤس لطبقات مختلفة من هذا المجتمع. وتتكشف هذه الحياة البائسة من خلال هجرات سكان الريف إلى عالم المدن الذي تتحكم فيه الآلات وتعج سماواته بالدخان والذي عجّل بانتشار أوكار تعاطي الأفيون والمخدرات، رغم ما حظي به هذا العصر من نهضة علمية وكتاب كبار كتشارلز ديكنز وتشارلز داروين.

تميزت المنازل في العصر الفيكتوري بوجود المداخن التي تنفث الدخان إلى الخارج، ولحاجة هذه المداخن إلى التنظيف المستمر كان لابد من استحداث مهنة «منظف المداخن»، ولأن فتحات هذه المداخن ضيقة كان لا بد من استخدام الأطفال للقيام بهذا الدور، حيث يتعرض هؤلاء الأطفال المتسلقون للسقوط والكسر ومنهم من يلقى حتفه وذلك بسبب طول هذه المداخن وضيق مساحاتها. يتم اختيار هؤلاء الأطفال من الشوارع وإبقاؤهم جوعى وهزيلين كي لا يعلقوا في إحدى هذه المداخن.

ورغم القوانين التي سنت لمنع استخدام هؤلاء الأطفال، إلا أن خرق هذه القوانين كان شائعا وذلك بسبب تفاهة الغرامات التي كانت تفرضها الدولة آنذاك.

من أغرب المهن في العصر الفيكتوري مهنة «الباحث عن أعقاب السيجار» والتي تتطلب البحث عن أعقاب السيجار الذي لم يفسده اللعاب، وذلك لإعادة تدوير التبغ الموجود داخله. يروي الكتاب عن الأطفال الذين كانوا يجوبون الشوارع والطرق التجارية بحثاً عن أعقاب السيجار وبيعه مقابل شراء دقيق الشوفان الذي يتم غليه مع فتات الخبز لتحضير وجبة تسد جوع هؤلاء الأطفال، بينما يقوم مشتري هذه الأعقاب ببيعها إلى مصنعي التبغ ليقوموا بإعادة تدويرها، لتظهر على شكل سيجار جديد. وهناك مهنة «بائع الشاي المتجول» الذي يمر على البيوت والحارات اللندنية الراقية، إذ يقوم هذا البائع بجمع وشراء بواقي الشاي من أباريق الشاي في أحياء لندن الراقية، ومن ثم تجفيفها وإعادة بيعها لأصحاب المحلات الذين يقومون بدورهم بإعادة استخدامها من خلال خلطها مع أوراق الشاي الجديدة.

لا يكف روبنسون عن إدهاشنا في سرده الممتع والمؤلم للمجتمعات الفقيرة التي تعيش تحت ظلال المجتمعات المخملية في مختلف العصور، فمن العصور الوسطى إلى العصر التيودوري والعصر الستيوارتي والعصر الجورجي، يتنقل بنا بسرد وتوصيف رائع لأشكال المهن التي مرت بها هذه العصور والمجتمعات والحقب الزمنية، والتي تكشف مأساة الإنسان في بحثه المضني عما يضمن له أسباب بقائه واستمراره في الحياة.

وفي الفصل الأخير من هذا الكتاب، يتوقف بنا عند المهن التي غدت ألقابا للعائلات، ويتساءل في مفتتح هذا الفصل: «ما المهن التي غدت ألقاب عائلات؟! هل لديك سلف أو جد قام بإحدى هذه المهن؟ّ».

إن ارتباط العائلات بالمهن التي توارثتها عن أجدادها قديمٌ قِدَمَ اكتشاف الإنسان للصناعة والحِرَف. لذا، نجد العديد من العائلات تحمل أسماء مهنها وصناعاتها، فتُعرف بها كُنى مثل: الحلاق، والسباك، والخباز، والفلاح، والطحّان. ورغم أن كثيرًا من هذه العائلات قد هجرت تلك المهن، فإن الكُنية بقيت بمثابة هُوية تُميزها، وتنتقل عبر أجيالها المتعاقبة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هؤلاء الأطفال المهن التی هذا الکتاب التی کانت من خلال فی تلک من هذا

إقرأ أيضاً:

حقيقة شطب هند صبري وسحب الجنسية منها

كشف شعبان سعيد المحامي بالنقض، المستشار القانوني لنقابة المهن التمثيلية حقيقة الأخبار المتداولة بشأن شطب الفنانة هند صبري من نقابة المهن التمثيلية، مؤكداً أن هذه الأخبار عارية تماماً من الصحة.

وقال سعيد في بيان: “خلال الساعات الماضية، تم تداول أخبار تفيد بشطب النقابة للفنانة هند صبري، لكن هذه الأخبار كاذبة ولا تمتّ الى الواقع بصلة”.

وقرر سعيد في بيانه، أن النقابة تعمل في ضوء قانون نقابة المهن التمثيلية الرقم (35) لسنة 78، وأن شطب أي عضو أو توقيع جزاءات ضده تسبقه تحقيقات، ولا يتم إلا في حال وجود مخالفة تستوجب الجزاء، أو فقدان شرط من شروط العضوية المنصوص عليها في القانون سالف الذكر.

وأكد أن هند صبري ما زالت عضوة في نقابة المهن التمثيلية، ولا صحة للمعلومات المتداولة حول شطب عضويتها من النقابة، مطالباً المروّجين لتلك الأخبار بتحرّي الدقة في ما يتم نشره والرجوع الى المصادر ذات الصلة.

وعن سحب الجنسية المصرية من هند صبري، وذلك بعد مطالب بترحيلها من مصر، نتيجة دعمها لقافلة الصمود، أكد المحامي شعبان سعيد أن الفنانة لا تزال تحمل الجنسية المصرية، وأخبار سحب الجنسية منها بسبب موقفها من قافلة الصمود عارية تماماً عن الصحة، وحتى الآن لم يُنشر أي بيان أو تفاصيل رسمية حول هذا الأمر.

مجلة لها

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • رئيس المجلس الوطني للإعلام يتلقى كتاب شكر من رئاسة الجمهورية
  • هبوط حاد.. أسوأ يوم لأسعار النفط منذ 3 سنوات
  • حقيقة شطب هند صبري وسحب الجنسية منها
  • زرداري: كانت لدينا بضع ثوان فقط لنقرر ما إذا كان الصاروخ الذي نشرته الهند نوويا
  • ‏الطائرات الإسرائيلية تقصف "ساعة فلسطين" التي كانت تؤشر إلى "العد العكسي لتدمير إسرائيل" عام 2040 وفقا للسلطات الإيرانية
  • في ذكرى رحيل ملك الصبا.. أبو العينين شعيشع.. صوت من نور خدم كتاب الله 80 عامًا
  • كتاب حدث في زمن الإخوان «الطريق إلى ثورة 30 يونيو».. يجسد الأحداث السياسية في فترة حكم الإخوان
  • ندوة لمناقشة كتاب “داسم” لـ عمرو طارق في شمس آرت سبيس
  • كتاب "توثيق المطبخ العُماني" يفوز بجوائز "جورماند العالمية"
  • إذا كانت الملابس لا تناسب جسمك.. انتبه لهذه الأعراض الخطيرة التي تظهر دون ألم وراجع الطبيب فوراً