بغداد اليوم – بغداد

بعد احتلال العراق عام 2003، وجدت الحركات الإسلامية الشيعية نفسها في موقع لم تعهده منذ تأسيسها. بعد سنوات من العمل السري والمعارضة، أصبحت هذه الحركات ممسكة بزمام الحكم، تتصدر المشهد السياسي وتدير مفاصل الدولة، وتتفاوض على مستقبل البلاد مع الاحتلال الأميركي، وتؤسس لنظام سياسي جديد مبني على المشاركة الطائفية.

تحوّل مفصلي كهذا لم يكن مجرد مكافأة لتاريخ النضال، بل كان امتحانًا صعبًا بين مشروع الدولة الذي طالما نادت به، وحقيقة السلطة التي سرعان ما كشفت هشاشتها البنيوية، وسرعة تحولها من مشروع تغييري إلى منظومة سلطوية جديدة. ومنذ ذلك الحين، دخل العراق في مسار معقد يتقاطع فيه التاريخ بالمصالح، والدين بالسياسة، والمعارضة بالسلطة.


التأسيس الأول.. صعود في ظل فراغ الدولة

في السنوات الأولى لما بعد الغزو، كانت البلاد في فراغ سياسي وأمني ودستوري شامل، وقد ملأت الحركات الشيعية هذا الفراغ بسرعة مدفوعة بشرعيتين: الأولى مستمدة من الإرث المقاوم ضد النظام السابق، والثانية من غطاء المرجعية الدينية التي وفّرت دعمًا مباشرًا لتشكيل الدولة الجديدة، لا سيما من خلال فتوى المشاركة في الانتخابات وصياغة الدستور. تشكلت قوى سياسية كبرى مثل حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى والتيار الصدري ومنظمة بدر، وسيطرت هذه القوى على المشهد السياسي، وشكلت جميع الحكومات المتعاقبة، مع تعزيز مكانتها من خلال النفوذ الإقليمي، وتحديدًا الإيراني.

لكن هذه الهيمنة لم تكن ناتجة عن مشروع وطني متكامل، بل تأسست على قواعد المحاصصة الطائفية والإثنية، حيث توزعت المناصب على أساس الانتماء المذهبي لا الكفاءة. ومع مرور الوقت، تحولت الدولة إلى كيان ريعي تسيطر عليه الأحزاب، وتُدار مصالحه ضمن منطق الغنيمة، فيما تآكلت ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، وبرزت ملامح الفشل في إدارة ملفات الأمن والاقتصاد والخدمات.


الانقسامات وإعادة التشكيل.. ديناميكيات داخل البيت الشيعي

في حديث خاص لـ"بغداد اليوم" (27 آذار 2025)، أوضح المحلل السياسي عدنان التميمي أن عدد الكيانات السياسية الشيعية التي ظهرت بعد عام 2003 تجاوز العشرين، إلا أن هذا العدد تقلص إلى أقل من ثمانية حاليًا، بسبب الانقسامات الحادة بين القيادات، وصراعات النفوذ، وظهور أجنحة وتيارات منشقة، بعضها حمل شعارات إصلاحية، وبعضها أعاد تدوير التجربة القديمة بأسماء جديدة.

وقال التميمي: "لو رجعنا إلى مرحلة ما بعد 2003، ومرحلة الحكومة الأولى وإعلان الدستور، نجد أنه كان هناك ما بين 15 إلى 20 تكتلًا سياسيًا مهمًا في تلك الفترة، لكن ما تبقى منها ربما أقل من ثمانية تكتلات، وبقية التكتلات اختفت وتحولت إلى قوة سياسية أخرى بسبب الانشقاقات بين قياداتها التي أسست تيارات وأحزابًا سياسية".

وأضاف أن "الكثير من العناوين السياسية اختفت في قراءة المشهد العام لعام 2025، وبالتالي لا يمكن القول بأن البيت السياسي الشيعي وصل إلى مرحلة الاحتضار، لأن كلما اختفت قوة سياسية تظهر أخرى، وهناك إطار جامع لهذه القوى، خاصة وأن الاستحقاقات الانتخابية تفرض معادلة الأغلبية السياسية الشيعية، في البرلمان، مما ينعكس على تشكيل الحكومة".

وأشار إلى أن "تراجع دور إيران في سوريا ولبنان لن يشكل أي ارتدادات قوية على البيت السياسي الشيعي، في ظل وجود قوى لها علاقات استراتيجية مع طهران"، مؤكدًا أن "هذه القوى نجحت في بلورة دعم لها مكنها من الاستمرار والتفاعل مع المشهد بشكل عام".

كما استبعد التميمي "وجود دعم مالي مباشر لتلك القوى، موضحًا أن تلك القوى ساعدت الاقتصاد الإيراني من خلال دعمها لبعض الصفقات والمضي في العلاقات التجارية والاقتصادية التي ساعدت الاقتصاد الإيراني الذي يعاني من عقوبات شديدة".

وفيما يتعلق بالحديث عن ضعف البيت الشيعي السياسي، أضاف التميمي أن "الحديث عن انعكاس ذلك إيجابًا على البيت السياسي السني غير دقيق، لأن البيت السني أيضًا يعاني من انقسامات وخلافات حادة أدت إلى انشقاقات في القيادات وكثير من القوى".

وأشار إلى أن "أغلب القوى السنية التي نشأت بعد 2003 اختفت بعد سنوات، ونحن أمام مشهد سياسي مختلف مع قيادات جديدة من الجيل الثالث التي تحمل أفكارًا واستراتيجيات مختلفة، وحتى الشارع في المناطق السنية لا يتفاعل مع تلك القيادات".


مراجعة إجبارية أم نهاية مرحلة؟

إن تجربة الحركات الإسلامية الشيعية في العراق لا يمكن قراءتها من زاوية واحدة. هي تجربة صعدت من اللاشرعية إلى السلطة، لكنها لم تتحول إلى تجربة بناء دولة. سيطرت على القرار، لكنها لم تسيطر على الأزمة. أسهمت في تحرير العراق من نظام شمولي، لكنها لم تبنِ نظامًا ديمقراطيًا مستقرًا.

يبقى مستقبل هذه الحركات مرهونًا بإرادتها في مراجعة ذاتها، وقدرتها على تفكيك المنظومة الريعية التي غذّتها لعقود، وجرأتها على الانتقال من منطق الغلبة الطائفية إلى منطق الشراكة الوطنية. وإذا لم تفعل، فإن صعود قوى احتجاجية، ونخب شابة، وتغيرات إقليمية، قد يفضي إلى نهاية مرحلة تاريخية وبداية أخرى لا تشبه ما قبلها.

المصدر: وكالة بغداد اليوم

كلمات دلالية: سیاسی ا

إقرأ أيضاً:

المقاومة.. الأفق الحضاري في مواجهة القُطرية

في زمن الانقسام والارتهان، يتكرر الحديث عن جدوى المشاريع القُطرية الكبرى في العالم الإسلامي والعربي، مثل تلك التي تشهدها دول كتركيا ومصر وإيران، حيث يروج البعض لهذه المشاريع باعتبارها الأمل المتاح في ظل إكراهات الواقع، ويعللون دعمهم لها بأنها قادرة، حين تقوى، على أن تصبح رافعة للإقليم بأكمله، خاصة في ظل عجز الأقطار الصغيرة وضعفها، والتي غالبا ما تُستخدم كأدوات هدم أو توابع تخضع لهيمنة القوى الكبرى. لكن هذا التفاؤل يصطدم بجدار من الحقائق السياسية والتاريخية العميقة التي تؤكد أن هذه المشاريع، مهما بلغت من تطور، تظل أسيرة لعقلية القُطر والحدود السياسية المصطنعة، ولا تتحرر من رواسب الاستعمار الذي قسّم الأمة إلى وحدات وظيفية تقوم بأدوار محددة.

فالمشروع التركي رغم تبنيه لخطاب إسلامي ظاهري، إلا أنه في جوهره قومي يخدم المصلحة التركية أولا، وكذلك المشروع الإيراني الذي يتحرك ضمن أفق قومي شيعي واضح، أما المشروع المصري فظل رهين نزعة قُطرية تتضخم على حساب غيرها من الأقطار. ومن هنا يظهر أن منطق دعم هذه المشاريع باعتبارها الوسيلة الوحيدة المتاحة، يتجاهل أن النظام الدولي القائم لا يسمح لتلك القوى بأن تتجاوز سقفا معينا، إذ يتم دعمها مرحليا لاستخدامها في ضرب قوى أخرى، ثم تُكبح حين تحاول الخروج عن الدور المرسوم لها، وهو ما حدث مع العراق سابقا، ومع إيران وتركيا ومصر في محطات متعددة.

هذا الواقع لا ينبع فقط من طبيعة النظام الدولي، بل أيضا من ضعف حضاري داخلي، وفقدان لمشروع جامع يتجاوز القُطرية، إذ إن التيارات الإسلامية نفسها انزلقت في مستنقع التحيز لقطر على حساب قُطر آخر، وبدل أن تكون قوة توحيد وبعث حضاري، صارت أداة في لعبة المحاور الإقليمية، تُستخدم وتُستنزف وتُعاد صياغتها بحسب متطلبات النظام الذي تعمل تحته.

وقد يقال إن غلبة إحدى القوى الكبرى في الأمة ليس بالضرورة أمرا سلبيا، بل كان في عصور ماضية مدخلا لحماية الإقليم وضمان استقراره، كما حدث في فترات الدولة العثمانية، أو حتى المماليك، حيث كانت غلبة دولة مركزية قوية تؤدي إلى نوع من الوحدة السياسية والعسكرية التي تحفظ الأمة وتحمي حدودها، وكانت تلك القوى، رغم ما فيها من خلل، تعتبر نفسها مسؤولة عن كامل الجغرافيا الإسلامية، وكان في قدرتها أن تتدخل لحماية الشعوب الضعيفة وصد العدوان عنها، لكن ذلك كان قبل الانقلاب الحضاري الكبير الذي قلب موازين القوة عالميا، وهيّأ لهيمنة الغرب الحديثة، ومعه تسرب الفكر القُطري إلى بنية الوعي العام في الأمة، بحيث باتت كل دولة ترى نفسها كيانا منفصلا، له مصالحه وهويته الخاصة، بل ويعاد تعريف الإسلام نفسه داخل هذه الأطر الضيقة.

وفي هذا السياق يبدو أن المقاومة، بوصفها مشروعا شعبيا تحرريا جامعا، هي البديل الحقيقي لكل المشاريع القومية والقُطرية، فهي وحدها القادرة على تجاوز حدود سايكس بيكو، وعلى إعادة الاعتبار للأمة كوحدة حضارية، لا كمجموعة دول متفرقة. فالمقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل منظومة متكاملة من القيم والوعي والتعبئة الشعبية، تنهض بالأفراد وتوحد الشعوب وتعيد تشكيل الانتماء على أساس جامع يتجاوز الجغرافيا والسياسة الضيقة، وهي التي تربك العدو وتُرهق المحتل، وتفتح الباب لإبداع نابع من الأرض والناس والحق، لا من الأنظمة والصفقات والتفاهمات المرحلية. بل إن المقاومة في عمقها الأصيل، كما يبيّن طه عبد الرحمن في كتابه "ثغور المرابطة، ليست موقفا سياسيا فحسب، بل مقام روحي، تُربى فيه النفس على العبودية الحقة، وتُختبر فيه الإرادة على مقام الصبر والتوكل، حيث تتحول المواجهة إلى نوع من المجاهدة، ويصبح الثغر الذي يُرابط عليه المقاوم ليس مجرد ساحة قتال، بل ساحة تزكية وتطهر، يتجدد فيها المعنى، ويُستعاد فيها الإنسان من بين أنقاض التشييء والارتهان.

فالمقاومة ليست مشروع قوة فقط، بل مشروع إحياء، ولا يمكن أن تستقيم ما لم تتصل بالغيب وتتشبّع بالأخلاق، إذ بدون هذا البعد، تتحول إلى رد فعل غريزي سرعان ما يُستهلك، بينما حين تُصبح مرابطة على الثغور بمعناها الوجودي، تصير فعلا دائما يعيد تشكيل الزمن ويُنبِت المعنى في أرضٍ جُرفت منها الروح.

والمقاومة، بخلاف المشاريع الأخرى، لا ترتبط بدولة أو نظام، بل هي وعي شعبي متجذر، لا يُخترق بسهولة، ولا يُستبدل حين تتغير التحالفات، بل يُراكم وعيه ويصنع واقعه بإرادته، ولهذا فإن القوى الكبرى تخشاه وتحاول ضربه أو تشويهه لأنه يعجزها عن السيطرة عليه.

ومن هنا فإن المقاومة هي خيار المستقبل، لأنها المشروع الوحيد الذي يجمع بين القيم والتحرر، بين الدين والكرامة، بين الوعي والقوة، في حين أن كل المشاريع القومية أو القُطرية أثبتت أنها تظل محدودة، بل وخادمة لغيرها في كثير من الأحيان، وربما تتحول إلى أدوات تُستخدم ضد الأمة نفسها.

لذا فإن الرهان الحقيقي لا يكون على حدود رسمها المستعمر، ولا على أنظمة ترعى مصالحه، بل على شعوب قادرة على قلب الطاولة حين تدرك أن المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل مشروع حياة شامل يعيد تشكيل الواقع ويعيد للأمة دورها ومكانتها بين الأمم.

مقالات مشابهة

  • الحكم الثنائي
  • في مواجهة التنمر السياسي ضد المرأة اليمنية
  • الأردن والهاشميون، ثبات الحكم ونُبل القيادة
  • استطلاع لمعاريف: المعارضة تتقدم ونتنياهو يفقد توازنه السياسي
  • قومي المرأة يستعد للاستحقاقات الانتخابية المقبلة بخطة لرفع الوعي السياسي للنساء
  • المقاومة.. الأفق الحضاري في مواجهة القُطرية
  • في ذي قار تحالفات انتخابية تريد ان تغير الواقع السياسي في المحافظة.
  • القوى الشيعية تواجه الانتخابات بلا الصدر والسنة يترقبون مكاسب برلمانية
  • حُلم العودة
  • قرادة: حل معضلة المليشيات تمر عبر المصالحة والإصلاح السياسي