اقتصاد ما بعد الحرب في السودان: بين إعادة الإعمار واستمرار النهب
تاريخ النشر: 2nd, April 2025 GMT
عمر سيد أحمد
[email protected]
مارس 2025
مقدمة
تعد الحروب من أعنف المهددات للنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي لأي دولة. ويُمثّل النزاع المسلح الذي اندلع في السودان منذ أبريل 2023 نموذجًا صارخًا لهذا الأثر المدمر. فخلال فترة زمنية قصيرة، دمّرت الحرب الأسس الاقتصادية للدولة، وشلّت القطاعات المنتجة، وأدت إلى نزوح الملايين، مما انعكس سلبًا على الناتج المحلي الإجمالي وقدرة الاقتصاد السوداني على التعافي.
تهدف هذه الورقة إلى استعراض الأثر الاقتصادي للحرب على أهم القطاعات المنتجة في السودان (الزراعة والصناعة)، وعلى البنية التحتية، وكذلك على الإنسان السوداني باعتباره العنصر الرئيسي للإنتاج، مدعومًا بأرقام وتقديرات حديثة.
بعد عامين من الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يواجه السودان كارثة إنسانية واقتصادية غير مسبوقة، مع تدمير شبه كامل للبنية التحتية وانهيار مؤسسات الدولة.
تشير التقديرات إلى أن الخسائر المباشرة وغير المباشرة للحرب تجاوزت مئات المليارات من الدولارات، بينما يعيش أكثر من 60% من السكان تحت خط الفقر، ويهدد الجوع 26 مليون سوداني وفقًا لمنظمات الإغاثة. في هذا السياق، تبرز تحديات جسيمة لإعادة الإعمار، لكن الفرص لا تزال قائمة إذا توفرت الإرادة السياسية والموارد الكافية.
التكلفة الاقتصادية والإنسانية: دمار شامل
أولًا: أثر الحرب على القطاع الزراعي :يُعتبر القطاع الزراعي العمود الفقري للاقتصاد السوداني، إذ يشغّل نحو 80% من القوة العاملة ويُسهم بحوالي 32.7% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب. غير أن الحرب أدت إلى تدمير نحو 65% من النشاط الزراعي و نزوح واسع للمزارعين من مناطق الإنتاج و تعطل سلاسل الإمداد ونقص المدخلات الزراعية (الوقود، البذور، الأسمدة) و فقدان المواسم الزراعية في معظم مناطق الإنتاج.
نتيجة لذلك، شهد السودان أزمة غذائية حادة وارتفاعًا غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية. و زيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية.
ثانيًا: أثر الحرب على القطاع الصناعي: تم تدمير 75% من البنية الصناعية، خاصة في الخرطوم ومدن الإنتاج. و توقف أغلب المصانع عن العمل بسبب المعارك أو انعدام الأمن. ونزوح وهجرة العمالة الماهرة والفنيين. مما أدي الي انقطاع سلاسل الإمداد وارتفاع تكلفة الإنتاج. أدى هذا الانهيار إلى تراجع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي وفقدان آلاف فرص العمل.
ثالثًا: أثر الحرب على البنية التحتية: أدي الي دمار واسع في الطرق والجسور الرئيسية. توقف شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات في مناطق كثيرة. تدمير 50% من الطرق والجسور وشبكات المياه والكهرباء. وخروج 40-50% من المستشفيات عن الخدمة. وتعطيل جميع المشاريع التنموية الحكومية.
تُقدّر الخسائر المباشرة في البنية التحتية بـ 60 مليار دولار حتى نهاية 2023.** ومع استمرار الحرب خلال عام 2024 وحتي الوقت الحاضر والتدمير الذي شمل جسور جديدة وبنيات تحتية ومنشات جديدة في العاصمة ومدن اخري يعتقد ان التقديرات للخساير قد تضاعفت .
رابعًا: أثر الحرب على الإنسان السوداني : أدي استمرار الحرب الي نزوح أكثر من 12 مليون شخص داخليًا وخارجيًا. و تفشي معدلات الفقر.معر تدهور الصحة النفسية والجسدية لغالبية السكان وفقدان شريحة كبيرة من القوى المنتجة.
خامسًا: أثر الحرب على الناتج المحلي الإجمالي :انكماش الاقتصاد بنسبة **-18.3% في 2023. و تراجع الناتج المحلي الإجمالي إلى 43.91 مليار دولار خلال نفس العام و خسائر اقتصادية مباشرة تقدر بـ **15 مليار دولار في 2023.
التقديرات تشير إلى تجاوز إجمالي الخسائر المباشرة الي اكثر من 100 مليار دولار بنهاية 2024.
تعقيد تقديرات الخسائر وصعوبة تقدير تكلفة إعادة الإعمار
في ظل استمرار الحرب والتدمير المتواصل للبنية التحتية والقطاعات الإنتاجية، تصبح عملية تقدير الخسائر الاقتصادية مهمة بالغة الصعوبة. فالأضرار ليست ثابتة أو منتهية، بل تتزايد يوميًا مع استمرار المعارك واتساع نطاقها، وتفاقم النزوح، وتوقف الأنشطة الاقتصادية. كما أن انهيار مؤسسات الدولة وغياب البيانات الدقيقة يعيقان الوصول إلى أرقام موثوقة.
لذلك، تظل كل التقديرات المتداولة حول حجم الخسائر وتكاليف إعادة الإعمار تقريبية ومفتوحة على الزيادة، لأن واقع الحرب لا يسمح بوضع تقدير نهائي. كما أن تكلفة الإعمار لن تقتصر على إعادة بناء ما دُمِّر، بل ستشمل أيضًا معالجة الخسائر البشرية والمؤسساتية، وهي أعباء يصعب قياسها بالأرقام وحدها.
التحديات: عقبات في طريق الإعمار
الوضع السياسي الهش :
يستغل قادة الجيش السوداني عملية الإعمار لتعزيز هيمنته عبر شراكات مع شركات صينية، مثل اتفاقيات إعادة بناء الموانئ والطاقة النووية، و ما رشح في الإعلام غير الرسمي عن اتفاقيات وتفاهمات بعض وزراء حكومة الأمر الواقع مع فاعلين ومؤسسات في دول مجاورة عن مشاريع وشراكات واتفاقات مما يهدد الشفافية. كما ان غياب حكومة مدنية شرعية مستقلة قد يعيق تنفيذ إصلاحات مؤسسية ضرورية لاستقطاب التمويل الدولي.
نقص التمويل: تُقدَّر تكلفة الإعمار مئات المليارات دولار أضعاف خساير الحرب ، لكن السودان يعاني من ديون خارجية ضخمة، تضاعفت بسبب الحرب لويعتقد انها تجاوزت ما يفوق ال60 مليار دولار .كما ان المساعدات الدولية مشروطة بإصلاحات قد تزيد الأعباء على المواطنين، مثل خفض الدعم الحكومي.
الفساد وسوء الإدارة
تاريخ من "الاقتصاد السياسي" القائم على المحسوبية وتمكين نافذي الحزب الحاكم خلال العقود الثلاثة قبل الثورة عام 2019 وما شاب تلك الحقبة من فساد لم يسبق له مثيل في تاريخ السودان يهدد بتوجيه الموارد نحو النخب بدلًا من المشاريع التنموية.
الفرص: موارد ذاتية واستراتيجيات مبتكرة
حشد الموارد الذاتية
- يمتلك السودان ثروات طبيعية هائلة، مثل الذهب (إنتاج سنوي ~40 طنًا واحتياطيات تُقدَّر بـ1,000 طن)، والتي يمكن تعظيم عائداتها عبر مكافحة التهريب.
- الزراعة: إمكانية استعادة الإنتاج عبر مشاريع ري حديثة وتنمية المناطق المهمشة.
الشراكات الدولية والإقليمية
- يمكن للسودان الاستفادة من عضويته في المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي لضمان دعم مالي وفني، مع التركيز على الشراكات مع دول مثل الإمارات ومصر.
- تجربة رواندا في جذب الاستثمار الأجنبي عبر تحسين بيئة الأعمال وتقديم حوافز ضريبية.
الإصلاح المؤسسي والمصالحة
- تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان لاستعادة ثقة المجتمع.
- إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، مع إشراك المجتمع المدني في صنع القرار.
دروس من تجارب دولية: إعادة الإعمار ليست مستحيلة
- رواندا: نجحت في تحقيق "المعجزة الاقتصادية" عبر المصالحة الوطنية والاستثمار في البنية التحتية الرقمية.
- كولومبيا: اعتمدت على الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتمويل مشاريع البنية التحتية بعد انتهاء النزاع المسلح.
- العراق: حصل على مساعدات دولية ضخمة (~200 مليار دولار) لإعادة التأهيل، رغم التحديات الأمنية.
التحديات: عقبات في طريق الإعمار.
الوضع السياسي الهش
- يستغل الجيش السوداني عملية الإعمار لتعزيز هيمنته عبر شراكات مع شركات صينية، مثل اتفاقيات إعادة بناء الموانئ والطاقة النووية، وما رشح في الإعلام غير الرسمي عن تفاهمات واتفاقيات لبعض وزراء حكومة الأمر الواقع مع جهات خارجية في الدول المجاورة مما يهدد الشفافية. كما ان غياب حكومة مدنية مستقلة يعيق تنفيذ إصلاحات مؤسسية ضرورية لاستقطاب التمويل الدولي
نقص التمويل
تُقدَّر تكلفة الإعمار بمئات المليارات دولار اضعاف خسائر الحربيين الوقت الذي يعاني فيه السودان من ديون خارجية ضخمة، تضاعفت بسبب الحرب ويعتقد انها بلغت ما يفوق المأة مليار دولار .كما ان المساعدات الدولية مشروطة بإصلاحات اقتصادية قد تزيد الأعباء علي المواطنين مثل ان وجد وخاصة في خفض الدعم الحكومي وانعكاس ذلك علي المواطنين المنهكين بتوقف أعمالهم ونزوحهم وتشردهم بسب الحرب
-
الفساد وسوء الإدارة
- تاريخ من "الاقتصاد السياسي" القائم على المحسوبية والفساد المنتشر في ظل أنظمة شمولية قاهرة وغياب الشفافية يهدد بتوجيه الموارد نحو النخب بدلًا من المشاريع التنموية.
الفرص: موارد ذاتية واستراتيجيات مبتكرة
حشد الموارد الذاتية
- يمتلك السودان ثروات طبيعية هائلة، مثل الذهب (إنتاج سنوي ~40 طنًا واحتياطيات تُقدَّر بـ1,000 طن)، والتي يمكن تعظيم عائداتها عبر مكافحة التهريب..
- الزراعة: إمكانية استعادة الإنتاج عبر مشاريع ري حديثة وتنمية المناطق المهمشة
الشراكات الدولية والإقليمية
- يمكن للسودان الاستفادة من عضويته في المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي لضمان دعم مالي وفني، مع التركيز على الشراكات مع دول مثل الإمارات ومصر. والاستفادة من تجربة رواندا في جذب الاستثمار الأجنبي عبر تحسين بيئة الأعمال وتقديم حوافز ضريبية
الإصلاح المؤسسي والمصالحة
- تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان لاستعادة ثقة المجتمع.
- إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، مع إشراك المجتمع المدني في صنع القرار.
دروس من تجارب دولية: إعادة الإعمار ليست مستحيلة:
- **رواندا**: نجحت في تحقيق "المعجزة الاقتصادية" عبر المصالحة الوطنية والاستثمار في البنية التحتية الرقمية.
- **كولومبيا**: اعتمدت على الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتمويل مشاريع البنية التحتية بعد انتهاء النزاع المسلح.
- **العراق**: حصل على مساعدات دولية ضخمة (~200 مليار دولار) لإعادة التأهيل، رغم التحديات الأمنية.
الخاتمة: طريق طويل نحو الاستقرار
لقد دمّرت الحرب في السودان كافة ركائز الاقتصاد، من الزراعة إلى الصناعة والبنية التحتية، وأحدثت نزيفًا في رأس المال البشري لا يقل خطرًا عن الدمار المادي. **تُقدّر الخسائر المباشرة بأكثر من 100 مليار دولار**، بينما الخسائر غير المباشرة (البشرية والإنتاجية) يصعب قياسها.
إن تعافي الاقتصاد السوداني لن يكون ممكنًا دون:
1. وقف الحرب بشكل كامل
2. إطلاق برامج إعادة إعمار شاملة
3. استثمارات ضخمة في الإنسان قبل البنية التحتية.
4. تعزيز الشفافية وجذب استثمارات أجنبية ذكية
5. دعم دولي غير مشروط وحكومة مدنية قادرة على الإصلاح.
رغم التحديات، فإن إعادة إعمار السودان ممكنة عبر توظيف الموارد الذاتية وبناء سلام مستدام.
**عمر سيد أحمد**
*خبير مصرفي ومالي مستقل*
*Freelance Banking, Finance & Financial Consultant*
*Email: [email protected]*
*Mob: +97150988121*
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الناتج المحلی الإجمالی الخسائر المباشرة البنیة التحتیة إعادة الإعمار مؤسسات الدولة أثر الحرب على على الشراکات ملیار دولار إعادة بناء فی السودان کما ان
إقرأ أيضاً:
غزة في قبضة اقتصاد الظل: أزمة السيولة تفتك بالمواطنين وسط حرب مالية صامتة
وصلت نسبة العمولة على عمليات السحب النقدي في الأيام الأخيرة إلى نحو 52% من إجمالي المبلغ، في ارتفاع غير مسبوق أثار موجة استياء واسعة، بحسب مصادر محلية وشهادات عدد من المستخدمين. اعلان
تتعمّق الأزمة المالية في قطاع غزة في ظل شحّ السيولة النقدية وغياب أي أفق لحلول قريبة، مع مرور أكثر من 21 شهرًا على القتال.
ومنذ الأيام الأولى للحرب، وجد سكان غزة أنفسهم أمام أزمة نقدية خانقة بعد الإغلاق الكامل للمصارف ومنع السلطات الإسرائيلية إدخال الأموال إلى القطاع. وقد تفاقمت الأزمة مع اعتماد الآلاف على التطبيقات البنكية لإجراء المعاملات المالية، التي تفرض عمولات مرتفعة تستنزف دخلهم المحدود.
وبحسب مصادر محلية وشهادات عدد من المستخدمين، وصلت نسبة العمولة على عمليات السحب النقدي في الأيام الأخيرة إلى نحو 52% من إجمالي المبلغ، في ارتفاع غير مسبوق أثار موجة استياء واسعة.
ويأتي هذا التطور في وقت تشير فيه تقارير اقتصادية إلى تراجع حاد في حركة البيع والشراء، نتيجة ضعف القدرة الشرائية للمواطنين واحتكار بعض التجار للسيولة النقدية لتحقيق مكاسب إضافية.
وتحذّر جهات اقتصادية من استمرار هذا الوضع، خاصة في ظل غياب أي تدخلات تنظيمية، ما يُنذر بتفاقم الأعباء المعيشية على السكان، في واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي شهدتها غزة في تاريخها الحديث.
إسرائيل تمنع إدخال النقد: الأسباب الجذرية لأزمة السيولة في غزة
يشير خبراء اقتصاديون إلى أن السبب الرئيسي لأزمة السيولة المتفاقمة في قطاع غزة يعود إلى الرفض الإسرائيلي المستمر منذ نحو عامين لإدخال كميات جديدة من النقد، ما أدى إلى تآكل الكتلة النقدية المتداولة محليًا، وزيادة الاعتماد على السوق السوداء بعد الإغلاق شبه الكامل للبنوك نتيجة الحرب المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي ظل غياب أي إجراءات تنظيمية من الجهات المالية الرسمية، تتصاعد شكاوى المواطنين من صعوبة إجراء المعاملات اليومية، لا سيما مع رفض الباعة لبعض الفئات النقدية الورقية، مثل ورقة العشرين شيكل، حتى وإن كانت سليمة وغير تالفة.
Related بارقة أمل للعائلات المكتظة بالخيام.. شاحنة مياه تصل غزة وسط تحذيرات من تفاقم الكارثة الإنسانيةنتنياهو ينكر مجددًا وجود مجاعة في غزة.. وحماس تدعو إلى "مسيرات غضب"التحويلات الخارجية في غزة: خسائر تتجاوز ثلثي القيمة وسط غياب القنوات الرسمية
مع صعوبة استقبال الأموال من الخارج عبر القنوات الرسمية، يضطر كثيرون إلى اللجوء لطرق غير مباشرة تتسبب لهم في خسائر كبيرة. فعند إرسال مبلغ 1000 دولار عبر التطبيقات البنكية، يمر المال بمراحل متعددة من الخصم والتحويل غير الرسمي، حتى يصل للمستلم جزء ضئيل فقط.
تبدأ الرحلة بخصم وسيط التحويل، الذي يتقاضى عمولة لا تقل عن 10%، ليصل المبلغ إلى الحساب البنكي بمقدار 900 دولار فقط. لكن المعاناة لا تنتهي هنا، فإذا أراد المستلم صرف المبلغ نقدًا، يواجه عقبة السوق السوداء، حيث يخسر نصف المبلغ تقريبًا ليصل إلى 450 دولارًا. ثم تأتي الضربة الأخيرة عند تحويل الدولار إلى الشيكل، إذ يُصرف المبلغ بأسعار مجحفة (100 دولار = 200 شيقل)، في حين أن قيمته الحقيقية تبلغ 350 شيقل. النتيجة النهائية؟ مبلغ 1000 دولار الأصلي يتحول إلى 900 شيقل فقط، أي أن المستلم خسر أكثر من 70% من قيمته الحقيقية قبل أن تصل الأموال إلى يده.
تكشف هذه الحسابات حجم المعاناة التي يعيشها المواطنون في ظل غياب قنوات تحويل آمنة وعادلة، مما يجعلهم عرضة لاستنزاف مدخراتهم عبر وسطاء يتقاضون عمولات باهظة.
كيف يتحوّل العجز النقدي إلى مكسب للسوق السوداء؟
كانت الأزمة النقدية في القطاع بيئة خصبة لظهور ما يُعرف محليًا بـ"تجار العمولة"، الذين يحوّلون الحاجة إلى تجارة مربحة على حساب حقوق المواطنين. ومع غياب الرقابة واحتكار فئة محددة للسيولة، ارتفعت عمولات التحويل والسحب النقدي إلى مستويات غير مسبوقة، تجاوزت في بعض الحالات حاجز 53%.
محمد أبو الروس، من مدينة دير البلح، يصف بدايات الأزمة مع اندلاع الحرب بقوله: "مع إغلاق البنوك، بدأت السيولة تتلاشى، وظهر تجار العمولة الذين صاروا يقتسمون معنا رواتبنا ومساعداتنا المالية. العمولة بدأت بـ15% ثم ارتفعت تدريجيًا حتى بلغت 53% اليوم، وهذا يعني أنني أخسر أكثر من نصف ما أملك قبل أن يصلني".
أما محمود عليوة، من مدينة غزة، فيربط الأزمة بسلسلة الأزمات المتراكمة التي يعاني منها السكان: "نحن نعيش تحت القصف، والنزوح، والمجاعة، والآن نواجه أزمة جديدة هي نقص السيولة. إذا كان راتبي 300 دولار، فأنا مجبر على دفع نصفه فقط لأتمكن من سحب النصف الآخر. هذه كارثة، فالتاجر يشاركني تعب أيامي وقوت أطفالي دون أي حق".
ويضيف عليوة أن الحل الوحيد يتمثل في إنهاء الحرب وعودة البنوك للعمل، بما ينهي هيمنة السوق السوداء على حركة الأموال.
من جهته، يصف الصحافي يحيى خضر هذه الظاهرة بأنها إحدى أخطر تداعيات الأزمة الاقتصادية، قائلاً: "لو أردت سحب 1000 شيكل من أحد التطبيقات البنكية، فلن أحصل فعليًا سوى على أقل من 450 شيكل. هذه النسبة الربوية غير المعلنة كانت قبل الحرب لا تتجاوز 2%، والآن صارت أكثر من 50% في ظل غياب الرقابة وتحوّل السيولة إلى سلعة نادرة في يد بعض التجار". ويؤكد خضر أن هذه الظاهرة أدت إلى انهيار القدرة الشرائية وزيادة الأعباء على المواطنين، ما يدفع كثيرين إلى العجز عن تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وعن تبعات الأزمة على الجانب الإنساني، تقول مريم سلامة، وهي من سكان غزة، إنها تواجه صعوبة في شراء أدوية وحقن وريدية: "كنت بحاجة إلى 300 شيكل لشراء العلاج، لكن بعد الخصومات لم يصلني سوى 150 شيكل. وفوق ذلك، رفض الصيدلي التعامل مع العملة الورقية التي لديّ لأنها ممزقة، فاضطررت إلى سحب مبلغ إضافي للحصول على عملة بحالة أفضل".
Related إصلاح العملات" مهنةٌ طارئة في غزة لمواجهة شحّ السيولةنقص السيولة يجبر سكان غزة على دفع أثمان باهظة للحصول على أموالهموتتابع مريم بمرارة: "حتى عندما حاولت شراء القليل من السكر بعد حصولي على الدواء، قدمت للبائع ورقة نقدية من فئة 20 شيكل، فرفضها بحجة أنها تالفة. وإن أردت الشراء عبر التطبيقات، فأنا أدفع أضعاف سعر السلعة، وكل ذلك نتيجة الحرب وانهيار النظام المالي في القطاع".
تجار العمولة "ينهبون" نصف مدخرات المواطنين وسط غياب الرقابة
من جهته، يصف الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر الوضع بأنه "قرصنة مالية ممنهجة"، مشيرًا إلى أن الأزمة تجاوزت مرحلة الغلاء ونقص السلع لتصبح "استنزافًا منظمًا للقوة الشرائية". ويوضح أن "100 شيكل فقدت نصف قيمتها الفعلية بسبب هذه الممارسات، حيث لا يحصل المواطن إلا على 50 شيكلاً فعليًا بعد الخصم".
وتكشف المعطيات الميدانية عن مشهد مأساوي يعيشه المواطنون، الذين يضطرون لدفع نصف رواتبهم أو تحويلاتهم كعمولة لمجرد الحصول على سيولة نقدية. هذه الأزمة تتفاقم يوميًا مع استمرار غياب الحلول المؤسسية، مما يهدد بانهيار اقتصادي واجتماعي في القطاع المحاصر.
ويطالب خبراء اقتصاديون بتحرك عاجل من سلطة النقد الفلسطينية لضخ سيولة نقدية، ووضع ضوابط صارمة لعمليات الصرف، وإنهاء احتكار تجار العمولة للسوق. كما يحذرون من أن استمرار هذا الوضع ينذر بموجة جديدة من التدهور المعيشي قد تكون أكثر خطورة من تداعيات الحرب ذاتها.
في ظل هذا الواقع، يبقى المواطن الغزي الضحية الأكبر، حيث تحولت أبسط حقوقه في الوصول إلى أمواله إلى معاناة يومية تزيد من أعباء الحياة في القطاع، الذي يعاني أصلاً من ويلات الحرب والحصار.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة