د. محم بشاري يكتب: استئناف العمران الإنساني من التجزيء المعرفي إلى التكامل القيمي
تاريخ النشر: 7th, April 2025 GMT
يشهد عالم اليوم حالة من التشظي في أنساق التفكير وفلسفات الفعل، حيث تزداد الفجوة اتساعًا بين ما تنتجه المعارف من أدوات، وما يفتقده الإنسان من معنى. فالعلوم الحديثة، على ما بلغت من دقة وتقدم، لم تُفلح في إنقاذ الإنسان من التيه الوجودي، ولا في حمايته من الاغتراب المتعدد الوجوه: اغتراب عن ذاته، عن مجتمعه، عن الأرض، وعن الغاية.
لقد قامت الحداثة الغربية على مشروع معرفي وضع الإنسان في مركز الكون، لكنه جرده من أبعاده الروحية، وربطه بنموذج وظيفي اختزله في حاجاته البيولوجية، وغرائزه الاقتصادية، وغروره العقلي. فكان أن نشأت علوم إنسانية تُحلل الإنسان دون أن تُنصت لندائه الداخلي، وتُشخّص المجتمع دون أن تُعنى بضميره الجمعي، وتُخطط للتنمية دون أن تضع العدالة في صلب المفهوم.
وفي المقابل، عانت كثير من النظم الإسلامية من انكماش في آليات التفاعل مع هذه العلوم، فتقوقعت بعض الخطابات الدينية داخل تراث منغلق، يُعيد إنتاج ذاته دون مساءلة، ويفصل بين النص وسياقه، وبين الفهم والتحول. وهكذا تكرّس الانفصال بين علوم الإنسان وعلوم الوحي، وتعمقت الازدواجية في الفكر والمناهج، إلى الحد الذي بات فيه العقل المسلم يتنقل بين منطقين: أحدهما روحاني بلا أدوات، والآخر تقني بلا مقصد.
لكن التحولات العالمية التي نعيشها – من أزمات المناخ، وتآكل الأسرة، وتنامي العنف، وتفكك الروابط الاجتماعية – أعادت طرح السؤال من جديد: كيف يمكن للإنسان أن يُعيد ترتيب العلاقة بين ما يعتقده وما يعقله؟ بين ما يهتدي به وما يحلله؟ بين الغايات الكلية والأدوات الجزئية؟ إنه سؤال يستدعي مشروعًا حضاريًا جديدًا، لا يكتفي بالتوفيق الظاهري بين الحقول، بل يسعى إلى بناء تكامل معرفي غائي، يجعل من القيم روحًا للمعرفة، ومن الوحي إطارًا للتوجيه، ومن الإنسان محورًا للتنمية.
ليس المقصود من هذا التكامل أن تُسْلَمَن العلوم، ولا أن تُدَجَّن النصوص لتُخضع لمنطق الواقع. بل هو فعل مزدوج: تحرير للعلم من العمى الأخلاقي، وتفعيل للوحي في الواقع من خلال مناهج تحليلية حديثة. إنها دعوة إلى تجاوز الصراع التقليدي بين النقل والعقل، والارتقاء إلى مستوى “العقل المؤيَّد بالوحي”، و”الوحي المنزَّل للعقل”.
ضمن هذا الأفق، تغدو التربية أول مجال لهذا التكامل، لأن المدرسة ليست مصنعًا للمعرفة فقط، بل فضاء لتشكيل الرؤية الإنسانية. المطلوب إذن أن يُعاد بناء المناهج على أساس إنساني قيمي، يستثمر في العقل النقدي دون إهمال التزكية، ويستدعي نظريات علم النفس المعاصر دون أن يُقصي سنن الفطرة ومقاصد الشريعة. كما أن الإعلام، وهو صانع الوعي الجمعي، يجب أن يتحرر من سطوة السوق ونماذج الاستهلاك، ويُعاد توجيهه ليصبح حاملًا لقيم الرحمة، والكرامة، والعدالة، بدلًا من أن يكون مرآة مشوهة لعالم بلا مرجعيات.
أما في ميدان الاقتصاد، فإن الأزمة الأخلاقية التي تعصف بالأنظمة الرأسمالية تفتح المجال أمام اجتهاد مقاصدي يُعيد الاعتبار لمفاهيم مثل التكافل، والتوزيع العادل، والاستثمار النزيه، والإنفاق المسؤول. فالنمو في المنظور الإسلامي ليس تراكمًا كميًا، بل تحقق بركة، ومشاركة، واستدامة. وهو ما يُفسح المجال لنقد بنّاء للمنظومة الاقتصادية العالمية، دون الانغلاق على الذات.
ويبقى الإنسان في صلب هذا المشروع: لا بوصفه “فردًا اقتصاديًا” أو “مستهلكًا رقميًا”، بل ككائن كرّمه الله، وجعله مستخلفًا، ومكلفًا، ومسؤولًا. من هنا، فإن أي علم يتناول الإنسان، من علم النفس إلى الأنثروبولوجيا، ينبغي أن يُراجع أدواته ونماذجه من منظور قيمي يؤمن بأن الإنسان ليس مجرد سلوك يُقاس، بل روح تُزكّى، وضمير يُهذّب، وعقل يُسائل.
نحن اليوم أمام لحظة تاريخية تقتضي استئناف مشروع العمران الإنساني، لا بوصفه بناءً ماديًا، بل بوصفه فعلًا معرفيًا أخلاقيًا جامعًا. وهذه اللحظة تفرض على علماء الأمة، ومفكريها، ومؤسساتها، أن يرتقوا إلى مستوى التحدي، وأن يُبلوروا نموذجًا تكامليًا بين علوم الإنسان وعلوم الوحي، يكون أساسًا لرؤية تنموية شاملة، ويمنح الإنسان المعاصر أفقًا جديدًا لفهم ذاته، وصياغة مستقبله، وإعادة الوصل بين العقل والروح.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: العلوم الحديثة الحداثة الغربية المزيد دون أن
إقرأ أيضاً:
ملتقى يبحث تعزيز التكامل الأكاديمي والصناعي وتطوير مهارات المخرجات
احتضن ديوان عام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار اليوم الملتقى السنوي الأول، الذي يهدف إلى تعزيز التكامل والتعاون بين مؤسسات التعليم العالي والقطاع الصناعي، تحت رعاية معالي الأستاذة الدكتورة رحمة بنت إبراهيم المحروقية، وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، بحضور عدد من الرؤساء التنفيذيين لمؤسسات من القطاعين الحكومي والخاص، بالإضافة إلى رؤساء وعمداء مؤسسات التعليم العالي الخاصة.
وقال يحيى بن سلام المنذري القائم بأعمال وكيل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار للتعليم العالي في كلمة له إن انعقاد هذا الملتقى يأتي في ظل التوجهات الاستراتيجية لـ«رؤية عُمان 2040»، والتأكيد على أهمية تطوير منظومة تعليمية مرنة، تواكب متغيرات العصر، وقادرة على رفد سوق العمل بكفاءات وطنية ذات قدرات ومهارات ديناميكية، تنافس محليًّا وعالميًّا.
وأضاف أن المواءمة بين التعليم العالي واحتياجات سوق العمل تُعد ضرورة وطنية، تفرضها تطلعاتنا نحو اقتصاد متنوع ومستدام، يقوم على المعرفة والابتكار، وتشارك في صناعته كافة مؤسسات المجتمع، وفي طليعتها مؤسسات التعليم العالي والقطاع الصناعي.
وأشار في كلمته إلى حرص الوزارة من خلال الملتقى على تبادل الخبرات، وتطوير البرامج الأكاديمية، وتعزيز جودة التعليم، وتهيئة فرص أكبر لاكتساب المهارات والالتحاق بالتدريب، وتوفير فرص التوظيف للخريجين، بما ينسجم مع التوجهات الوطنية نحو بناء رأس مال بشري منافس على المستويين الإقليمي والدولي.
وشهدت أعمال الملتقى التوقيع على 18 اتفاقية لتعزيز التكافل المجتمعي في التعليم بهدف تعزيز الشراكة بين مؤسسات التعليم العالي والمجتمع، وتهدف إلى تعزيز ثقافة الوقف في دعم التعليم، من خلال نشر الوعي بين الطلبة وأعضاء الهيئات التدريسية والإدارية، والمشاركة في الفعاليات والأنشطة التي تنظمها المؤسسات التعليمية، حيث وقعت المؤسسة الوقفية لدعم التعليم «سراج»، التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، اتفاقيات تعاون مع شركة صحار ألمنيوم وسبعة عشر مؤسسة تعليمية خاصة لتعزيز ثقافة الوقف ودوره في دعم العملية التعليمية، من خلال نشر الوعي بين الطلاب وأعضاء الهيئات التدريسية والإدارية، والمشاركة في الفعاليات والأنشطة التعليمية المختلفة.
وأعرب المهندس محمود بن خلفان الحديدي الرئيس التنفيذي لمؤسسة سراج، عن اعتزازه بتوسيع شبكة الشراكات مع مؤسسات التعليم العالي الخاصة، مؤكدًا أن هذه الخطوة تتماشى مع استراتيجية المؤسسة الرامية إلى تعزيز التكافل المجتمعي ودعم الطلاب المحتاجين داخل السلطنة.
وأضاف الحديدي أن المؤسسة تواصل تنفيذ عدة مبادرات وبرامج هادفة، من بينها مبادرة «كفالة طالب جامعي»، ومنصة «مزايا سراج» الإلكترونية التي تسهل جمع التبرعات وتقديم الدعم المالي للطلاب المستحقين، ما يعزز من فرص حصولهم على تعليم جامعي متميز.
وشهد جدول أعمال الملتقى عدد من العروض المرئية قدمتها مؤسسات التعليم العالي الخاصة، إلى جانب مؤسسات من القطاعين الحكومي والخاص والمؤسسة الوقفية «سراج». كما تضمنت الفعاليات عرضًا مقدمًا من وزارة التعليم العالي حول منصة «إيجاد»، حيث تركزت كافة العروض على أوجه التعاون الفعّال بين القطاع الأكاديمي والقطاع الصناعي، مع إبراز المبادرات والمشاريع المشتركة التي تسهم في تحقيق تعليم شامل ومستدام، وتعزيز البحث العلمي بما يدعم بناء مجتمع معرفي يمتلك قدرات وطنية منافسة.
وقال الدكتور عوض بن علي المعمري مساعد رئيس جامعة صحار لشؤون الطلبة: إن التقاء القطاعين الصناعي والأكاديمي في هذا الملتقى يمثل فرصة حيوية لتذليل التحديات التي تواجه مخرجات مؤسسات التعليم العالي، خاصة فيما يتعلق بمواءمة المهارات المكتسبة مع متطلبات سوق العمل، مشيرا إلى أن جلوس الطرفين على طاولة واحدة لمناقشة هذه التحديات يسهم بشكل مباشر في تطوير الحلول المناسبة، إضافة إلى مراجعة برامج التعليم العالي وزيادة حصص التدريب العملي للطلبة قبل دخولهم سوق العمل، بهدف تعزيز مهاراتهم وتأهيلهم بصورة أفضل.
وأضاف المعمري: إن احتياجات سوق العمل في سلطنة عمان تشهد تغيرًا سريعًا، ما يستوجب تحديث البرامج الأكاديمية في مؤسسات التعليم العالي لتواكب هذا التغير، حتى يتمكن الخريجون من أداء المهام المطلوبة سواء على المستوى المحلي أو الدولي.
وأضاف: إن توقيع 18 اتفاقية تعاون بين القطاعين الصناعي والأكاديمي مع المؤسسة الوقفية «سراج» سيساهم بشكل كبير في فتح المزيد من الفرص التعليمية والعملية أمام الطلبة.
من جهته، قال الدكتور عمار بن محمد العجيلي، نائب الرئيس التنفيذي لشركة أوكيو للبحث والتطوير والابتكار: إن الملتقى شهد نقاشات موسعة حول ضرورة تعزيز التعاون بين القطاعين الأكاديمي والصناعي، خاصة في مجالات مسرعات الأعمال، والشركات الناشئة والصغيرة. وبيّن أن العمل المشترك يهدف إلى إيجاد حلول للتحديات القائمة، واستثمار الفرص المتاحة، مع تعزيز تعاون طويل الأمد يخدم التنمية الوطنية.
وشدد العجيلي على أهمية المواءمة بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل، مؤكدًا ضرورة تطوير المهارات باستمرار لمواكبة سرعة التغير في سوق العمل بسلطنة عمان. وأضاف: إن التطور المستمر للكفاءات البشرية ضرورة ملحة، ويجب على الأفراد تطوير مهاراتهم بما يتناسب مع متطلبات السوق المتجددة.
ووقعت شركة صحار ألمنيوم والمؤسسة الوقفية لدعم التعليم «سراج» اتفاقية تعاون تهدف إلى تمويل شراء أجهزة التبرع الإلكترونية، وبموجب الاتفاقية، ستقدم شركة صحار ألمنيوم دعمًا ماليًا لشراء أجهزة التبرع الإلكترونية، التي تسهم في تسهيل جمع التبرعات لدعم الطلبة المحتاجين في مؤسسات التعليم العالي، خاصة من يعانون من ظروف مادية صعبة أو من ذوي الأسر ذات الدخل المحدود. ويهدف هذا الدعم إلى تشجيع هؤلاء الطلبة على مواصلة مسيرتهم الأكاديمية بكل يسر وسهولة، وفق آليات تنفيذ منظمة تضمن الشفافية وحسن توظيف الموارد المالية.
من جانبها، ستتولى المؤسسة الوقفية لدعم التعليم «سراج» مسؤولية تشغيل وإدارة أجهزة التبرع الإلكترونية، بالإضافة إلى متابعة أعمال الصيانة الدورية لضمان استمرارية عملها بكفاءة.
وقال أحمد بن محمد الخروصي مدير عام الموارد البشرية وشؤون الشركة في شركة صحار ألمنيوم: إن هذه الاتفاقية تأتي ضمن جهود الشركة لتعزيز شراكاتها ودعم مبادرات مختلف المؤسسات الحكومية. وأكد أن دعم المؤسسة الوقفية لدعم التعليم «سراج» يعكس إيمان الشركة العميق بأهمية الوقف الخيري كأداة تنموية تسهم في بناء مجتمع قائم على المعرفة.
وأضاف الخروصي: «نسعى من خلال هذه الاتفاقية إلى تمويل شراء أجهزة التبرع الوقفي الذكية التي تسهّل على الأفراد المشاركة في دعم قطاع التعليم، مما يساهم في الحد من حرمان الطلبة المستفيدين من فرص إكمال دراستهم الجامعية».
وأوضح أن قطاع التعليم يُعد من أهم القطاعات المستهدفة ضمن استراتيجية المسؤولية الاجتماعية لشركة صحار ألمنيوم، حيث قامت الشركة بتمويل عدة مشاريع ومبادرات تعليمية مستدامة في عدد من المدارس والجامعات والكليات بمختلف محافظات السلطنة.
وفي ختام فعاليات الملتقى، تم تكريم عدد من مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص، إلى جانب مؤسسات التعليم العالي الخاصة، التي أسهمت في تقديم منح دراسية للطلبة.