د. محمد بشاري يكتب: الرجاء.. نور القلب حين يضيق العالم
تاريخ النشر: 20th, June 2025 GMT
في زحمة الحياة وتناوب مشاهد الفقد والخيبة، يطلّ الرجاء كنسمة خفيفة على قلب أثقلته الحيرة، ويأتي كالضوء في آخر النفق حين تشتدّ الظلمة ولا يبقى للمرء سوى انتظارٍ صامت لما لا يُعرف توقيته، لكنه يؤمن بوقوعه. الرجاء ليس ترفًا روحيًّا، بل هو ضرورة وجوديّة، تعيد التوازن إلى روح الإنسان كلما مالت كفة الخوف، وأثقلته الكروب، وداهمه العجز.
الرجاء في حقيقته ليس انتظارًا سلبيًّا، بل هو توق إلى الجمال الإلهي، توقٌ لا ينبع من غفلة عن عظمة الله، بل من معرفة باسمه الرحيم، ومن امتلاء القلب بإحساس عميق بأن الله لا يردّ سائلاً، ولا يُخيّب آملًا، ولا يُدير وجهه عمّن طرق بابه متذلّلًا. إنه شعور رقيق يتسرّب إلى القلب كما تتسرّب الحياة إلى البذور تحت التراب، فينمو الإيمان دون ضجيج، وتثمر النفس طمأنينة دون أن تُدرَك كيفيتها.
ليس الرجاء كما يتصوّره البعض، تحليقًا في سماء الأوهام، بل هو فعل وجدانيّ ينمو على أرض الوعي بصفات الله، ويجعل القلب معلقًا بما عنده، دون أن ينكسر إن أبطأ العطاء أو تأخر الفرج. وهو أيضًا مجاهدة، لأن الحفاظ على الرجاء وسط الألم يحتاج إلى قوة أعظم من تلك التي يملكها الإنسان حين تسير الأمور كما يشتهي.
من عرف الله بحقّ، لم ييأس، وإن ضاقت عليه السبل. بل رأى في كل انغلاق فرصة لافتتاح باب من أبواب الله، وفي كل وجع نداءً للعودة، وفي كل انكسار معنى خفيًّا يُعلِّم النفس كيف تتجرد من حولها وقوتها، وتتوكل على من بيده مفاتيح الغيب. الرجاء هو الحياة حين تتيبس الأرواح، وهو المعنى الذي يجعل من الانتظار عبادة، ومن الصبر حُسن ظن، ومن التوجّه إلى الله لحظة سكينة لا يوازيها شيء.
العجب في الرجاء أنه لا يتناقض مع الخوف، بل يكمله. فالعبد لا يُقبل على الله مغترًّا برجائه، ولا ينصرف عنه يائسًا لخوفه، بل يسير بين جناحين من رجاء وخوف، فيسمو، ويستقيم. ومتى مال القلب إلى أحدهما دون الآخر، اختلّ السير واضطرب الطريق. أما من أيقن أن الله أرحم به من نفسه، وأن رحمته تسبق غضبه، فإنه لا ييأس، ولا يختنق حين تتعاظم عليه الأمور.
وليس الرجاء مقصورًا على لحظات الشدّة، بل هو ديدن المحبّين في صفائهم، يعبدون الله لا لرهبة ولا لرغبة، بل لأنهم يحبونه، ويرجون لقاءه، ويشتاقون إلى قربه. يعيشون على وعده، ويسكنون في أملهم بما عنده، ولو فقدوا كل شيء في الدنيا، فإنهم لا يفقدون الرجاء في الله، لأنه أثمن ما في قلوبهم، ومصدر عزائهم في دنيا فانية.
ما أصدق الرجاء حين يخرج من عين باكية، أو قلب منكسر، أو روح متعبة، تقول في سرّها: “يا ربّ، لا أحد لي سواك”، وتنام على يقينٍ أن الله لن يخيّب دعاءً خرج من أعماق الألم، ولن يردّ يدًا ارتفعت إليه متطهّرة من حول البشر. هو لسان الفطرة حين تصمت الفلسفات، وصرخة القلب حين تعجز العقول، ووعد لا يخلفه الكريم إذا قال للشيء: “كن”.
وفي ختام هذا البوح، لا نملك إلا أن نرفع أكفّ الرجاء بالدعاء:
اللهم إنّا نسألك رجاءً لا يخيب، وأملًا لا يخفت، وقلبًا إذا اشتدّ عليه البلاء، لم يزد إلا تعلقًا بك. اجعلنا من الذين لا يرجون غيرك، ولا يسألون سواك، ولا يطمئنون إلا إليك. اللهم إن ضاقت بنا الدنيا، فافتح لنا أبواب رحمتك، وإن قست علينا الأيام، فالِن قلوبنا بحبك، وإن اشتدّ الظلام، فكن أنت النور الذي لا ينطفئ. آمين.
ايامكم رجاء لا ينقطع، وأمل لا يُخذل، وسكينة لا تفارق أرواحكم أبدًا.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: الحزب الشيوعي يقرأ كتاب الترابي !
ظلّ الحزب الشيوعي السوداني حزبًا مثيرًا للجدل، رغم تكتيكاته المدروسة وسعيه الدائم للتموضع خارج ثنائيات السلطة والمعارضة التقليدية. وفي ظل المشهد السوداني الذي أفرزته الحرب، من انهيار في البنية التحتية والخدمية ، تأتي مبادرة الحزب في عطبرة كعلامة سياسية لافتة ، تتجاوز الفعل الخدمي إلى الدور السياسي، عبر بوابة المجتمع.
فالحزب، المعروف بتاريخه العريق ومواقفه الراديكالية، يبدو وكأنه يعيد قراءة اللحظة بوعي جديد، يزاوج فيه بين خطابه الأيديولوجي التقليدي والاستجابة العملية لتحديات الواقع.
ويُحسب له في سياق الحرب الراهنة، تمسكه بخط واضح ومتسق في إدانة الانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، سواء في الخرطوم أو في ولايات دارفور والجزيرة. وعلى عكس بعض القوى السياسية التي تورطت في الصمت أو التبرير، تبنى الحزب موقفًا حاسمًا حمّل فيه المليشيا المسؤولية المباشرة عن المجازر ضد المدنيين.
فعلى سبيل المثال، وصف الحزب الهجوم على معسكر زمزم بالفاشر في أبريل 2025 بأنه “مجزرة بربرية” تستوجب تدخلًا دوليًا عاجلًا لحماية النازحين ومحاسبة الجناة. وفي مارس 2024، أدان الجرائم التي ارتُكبت في قرى الجزيرة، واعتبرها امتدادًا لنهج التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
لكن موقف الحزب لم يكن أحاديًا؛ فقد حمّل المؤسسة العسكرية جزءًا من مسؤولية اندلاع الحرب، وتغذية مناخ الاستقطاب، ودعا إلى حل شامل لا يقتصر على إدانة الدعم السريع، بل يمتد إلى تفكيك جميع البُنى العسكرية الموازية، وإنهاء تغوّل الجيش على السياسة، وتأسيس سلطة مدنية.
هذا الموقف المزدوج – الحاسم في إدانة المليشيا والناقد للجيش – يضع الحزب في منطقة رمادية غير مريحة للسلطة، لكنه يعزز صدقيته لدى قطاعات واسعة من الشارع.
أما مبادرة عطبرة، التي تقدم بها الحزب مطلع الاسبوع ورحبت بها حكومة الولاية، فقد تمثلت في تمويل شبكة طاقة شمسية لتشغيل المحطة الرئيسية الجديدة والقديمة، بهدف حل مشكلات انقطاع التيار الكهربائي، وخفض تكلفة تشغيل المولدات العاملة بالجازولين. يعكس هذا التحرك تحولًا براغماتيًا داخل الحزب؛ إذ لم تعد السياسة بالنسبة له مجرد مناكفة أيديولوجية أو بيانات صاخبة، بل باتت تنخرط في تفاصيل الحياة اليومية: الكهرباء، المياه ، وانهيار البنية التحتية.
وكأن الحزب بهذه الخطوة، يعيد قراءة مقولة الدكتور حسن الترابي في كتابه “قضايا التجديد”، حين أشار إلى أن التغيير الجذري لا ينبع من المركز، بل من الأطراف المهمشة، حيث يُولد الوعي من رحم المعاناة، ويأتي الفعل من الذين لا يملكون أدوات السلطة، لكنهم يمتلكون البصيرة.
غير أن هذه المبادرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الوطني الأشمل. فالحرب غيّرت المزاج العام للسودانيين؛ والناس باتوا ينشدون الاستقرار، ويتطلعون إلى توافق وطني يجنّب البلاد مزيدًا من الانقسام. وفي هذا السياق، فإن على الحزب، إذا ما أراد العودة إلى الخرطوم كفاعل سياسي وطني، أن يراجع أدواته التقليدية، لا سيما تلك التي تراهن على الشارع كوسيلة ضغط. فالمطلوب اليوم ليس تحريك الجماهير، بل الجلوس معها، الاستماع إليها، والبناء على تطلعاتها.
هذه المقاربة تفتح الباب لسؤال مشروع: هل يمكن أن تؤسس هذه المبادرة لنوع من التقارب بين الحزب والحكومة؟ على السطح، قد يبدو أن مواقف الطرفين من الدعم السريع تتقاطع في رفض المليشيا وإدانة انتهاكاتها، لكن تحت هذا الالتقاء التكتيكي، تتبدى اختلافات جوهرية: فالحزب لا يرى في الحكومة الحالية سلطة شرعية، بل يعتبرها امتدادًا لانقلاب عسكري، ويطرح مشروعًا بديلًا يقوم على تفكيك مؤسسات العنف، وإعادة تأسيس الدولة على أسس ديمقراطية.
كما أن الحزب، بخلاف احزاب اخري ، لا يتردد في المطالبة بمحاسبة قادة الجيش والدعم السريع على حد سواء، ويرفض مقايضة العدالة بالاستقرار. لذلك، فإن ما يبدو من تقارب لا يعدو كونه تقاطعًا مؤقتًا على أرضية رفض مشترك للدعم السريع، لكنه لا يؤسس لتحالف استراتيجي.
بل قد يتحول إلى لحظة تناقض لاحقة، إذا حاولت الحكومة استثمار هذه المواقف لتعزيز شرعيتها أو لإقصاء خصومها تحت لافتة “مكافحة التمرد”. وفي المقابل، فإن على الحزب، إذا أراد فعليًا العودة إلى الخرطوم وإلى واجهة الفعل السياسي، أن يقرأ تغير المزاج الشعبي الذي بات يميل إلى التوافق وينبذ الصدام، وأن يتجاوز الخطاب التعبوي نحو مقترحات عملية تدعم السلام وتُرمم النسيج الوطني والاجتماعي .
وبهذا المعنى، بحسب وجه الحقيقة فإن الحزب الشيوعي لا يقرأ فقط كتاب الترابي، بل يعيد تأويله بلغة الواقع السوداني الراهن، مستفيدًا من فلسفة “التغيير من الأطراف”، دون أن يتخلى عن مركزية مشروعه. وربما يكون، وهو يعيد تموضعه من خلال مبادرات من هذا النوع، قد بدأ فعليًا في “قراءة كتاب الترابي” كوثيقة فكرية تقدم مقاربة عميقة لفهم التحولات والفرص الإصلاحية الممكنة. فالفعل السياسي في السودان، بعد الحرب، لم يعد حكرًا على من يرفع صوته الأعلى، بل على من يقدّم الحلول الأكثر واقعية، والأعمق ارتباطًا بجذور المجتمع وتعزيز استقراره.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الخميس 7 أغسطس 2025م [email protected]