الكتاب: دراسات في ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962)
المؤلف: مجموعة من المؤلفين
تحرير: ناصر الدين سعيدوني وفاطمة الزهراء قشي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


في لحظة تاريخية تتسم بتجدد المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وسط حرب إبادة غير مسبوقة تذكّر بفظائع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، يكتسب كتاب "دراسات في ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962)" أهمية مضاعفة، ليس فقط لكونه يعيد فتح ملفات أكبر ثورة تحررية عرفها العالم العربي في القرن العشرين، بل لأنه يربطها، بوعي أو بدونه، بنبض التاريخ الذي لا ينقطع في معارك الشعوب ضد الطغيان والهيمنة.



الكتاب، الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، هو عمل جماعي شارك فيه خمسة عشر باحثًا عربيًا من مجالات معرفية متعددة تشمل التاريخ، الفلسفة، الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع. وقد أشرف على تحريره الأكاديميان ناصر الدين سعيدوني وفاطمة الزهراء قشي، في محاولة لتقديم قراءة منهجية نقدية ومعمّقة لثورة ما زالت –رغم مرور أكثر من ستين عامًا على انتهائها– موضوعًا حيًّا في الذاكرة الوطنية الجزائرية والعربية.

ثورة أكبر من أن تُختزل

منذ الاستقلال، لطالما عانت الثورة الجزائرية من محاولات اختزالها أو تشويهها، خاصة في الأدبيات الفرنسية التي حرصت على تسميتها بـ"أحداث" أو "حرب الجزائر"، في محاولة لمحو بعدها التحرري والإنساني، ووضع الضحية والجلّاد على قدم المساواة. في مواجهة هذا التزوير التاريخي، يضع الكتاب نفسه كرافعة أكاديمية توثق الثورة كما عاشها الجزائريون، وتفكك تعقيداتها الفكرية والسياسية والاجتماعية.

أربعة محاور.. وفلسفة الثورة

ينقسم الكتاب إلى أربعة محاور رئيسية، تبدأ بـ "فلسفة الثورة الجزائرية وبعدها الأيديولوجي"، حيث تتناول الفصول الأولى الطابع الفكري والرمزي للثورة، خاصة عبر مقاربة مفهوم "التحرر" من زاوية فلسفية واجتماعية. ويتوقف أحد الفصول عند مؤتمر الصومام كمحطة مركزية جمعت بين الرؤية الاستراتيجية والتأطير الأيديولوجي للنضال المسلح.

تُعيد اللحظة السياسية الراهنة ـ في ظل المجازر الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني ـ تسليط الضوء على النموذج الجزائري، لا بوصفه ماضيًا تمجيديًا، بل كذاكرة مقاومة حيّة، ومنظومة مفاهيم قابلة للتجديد: رفض أنصاف الحلول، التنظيم الشعبي، مركزية الهدف، واعتبار الكفاح جزءًا من كرامة الإنسان لا مجرّد أداة لتحقيق استقلال جغرافي.المحور الثاني يعالج السرديات التاريخية والروايات الشفوية، مسلطًا الضوء على التوتر بين الذاكرة والتاريخ، وبين ما كُتب وما لم يُكتب بعد، حيث يتم تحليل المذكرات والشهادات التي تركها الفاعلون في الثورة، دون أن تخلو الفصول من قراءة نقدية لطريقة تأريخ هذه التجربة في المدارس الأكاديمية الجزائرية نفسها.

أما المحور الثالث، فيستعرض التفاعل الإقليمي والدولي للثورة الجزائرية، موضحًا كيف تجاوزت الثورة حدود الجزائر، لتصبح نموذجًا عالميًا لحركات التحرر، خاصة من خلال تحليل مظاهرات أكتوبر 1961 في باريس وتداعياتها على الرأي العام الفرنسي.

ويأتي المحور الرابع والأخير ليكشف العلاقة الشائكة بين السياسي والعسكري داخل الثورة، والتحديات التي ظهرت بعد الاستقلال، بما في ذلك صيف 1962 وأزمة بناء الدولة، مبرزًا الصراعات بين المؤسسات المنبثقة عن جبهة التحرير الوطني ومآلات اتفاقيات إيفيان.

الكتاب كأفق بحثي

ما يميز هذا الإصدار ليس فقط غِنى مواده وتعدد وجهات النظر فيه، بل دعوته الصريحة إلى تجاوز الروايات الرسمية والحماسية نحو قراءة علمية نقدية للثورة الجزائرية، بوصفها تجربة تحررية معقدة ومركبة. ففي خاتمته، يشير ناصر الدين سعيدوني إلى أن الثورة ما زالت تمثل "لحظة لم تنقضِ"، إذ تشكّل الأساس الذي لا تزال الدولة الجزائرية تُبنى عليه، وهي حاضرة في المخيال الجمعي العربي، لا كرمز فقط، بل كدرس نضالي قابل للتجدد.

صدى الجزائر في فلسطين.. والعكس

تُعيد اللحظة السياسية الراهنة ـ في ظل المجازر الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني ـ تسليط الضوء على النموذج الجزائري، لا بوصفه ماضيًا تمجيديًا، بل كذاكرة مقاومة حيّة، ومنظومة مفاهيم قابلة للتجديد: رفض أنصاف الحلول، التنظيم الشعبي، مركزية الهدف، واعتبار الكفاح جزءًا من كرامة الإنسان لا مجرّد أداة لتحقيق استقلال جغرافي.

في ظل التراجع العربي العام، يبقى هذا الكتاب دعوةً ملحّة إلى الباحثين العرب لإعادة بناء سردياتهم التحررية بعيدًا عن مركزية الغرب ومقولاته، مستفيدين من ما أصبح اليوم في متناولهم من أرشيف وشهادات وأدوات بحث، ليقرأوا تاريخهم بأعينهم، ويرووا ثوراتهم بلغتهم.

يقول الناشر: "لا تقِلُّ الثورةُ الجزائرية أهميةً عن الثورات العالمية الكبرى، لكنّ إجحافًا متعمَّدًا لحقها من الكتّاب والمؤرخين الفرنسيين، تمثَّلَ في فصلها عن تاريخ الجزائر الأشمل وعَدِّها "أحداثًا"، أو "حربًا" تجري من خلالها المساواة بين الضحية والجلّاد، متجاهلين بُعدَها التحرري".

وأشار أن "الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي (1962-1954) مثلت حدثًا رئيسًا في تفكيك المشروع الاستعماري في الشرق والغرب، فتجربتها النضالية ضد الهيمنة الاستعمارية الممتدة منذ القرن التاسع عشر كرست قطيعة مع أساليب النضال السابقة؛ إذ جعلت هدفها الاستقلال التام، اعتمادًا على طلائع ثورية مصممة على إنهاء الواقع الاستعماري مهما بلغت التضحيات، مع قلة الوسائل المادية واختلال موازين القوى. وما كان لهذه الثورة أن تحقق ما حققته إلا بخصائص مطموسة، يُذكَر منها: نزعتها الإنسانية، والشدة والذكاء في التعامل مع الظاهرة الاستعمارية، ووضوح هدفها، وتنظيمها المحكم، ورفضها أنصاف الحلول، واستمرار حملها المشروع التحرريّ حتى بعد الاستقلال... وغيرها من الخصائص، التي تضع على عاتق الباحثين العرب مهمة إطلاق مشاريع بحثية نقدية لتوثيق الثورة الجزائرية، وبحثها ودراستها واستكشاف مقاربات جديدة تعيد النظر في ما نعرفه إلى غاية اليوم، خاصة في أدبيات التأريخ الفرنسي لتلك الفترة من عمر الاستعمار الفرنسي.

هذا الكتاب دعوةً ملحّة إلى الباحثين العرب لإعادة بناء سردياتهم التحررية بعيدًا عن مركزية الغرب ومقولاته، مستفيدين من ما أصبح اليوم في متناولهم من أرشيف وشهادات وأدوات بحث، ليقرأوا تاريخهم بأعينهم، ويرووا ثوراتهم بلغتهم.وتقدم خاتمة الكتاب جملة من التأملات بشأن آفاق البحث التاريخي، العابر لاختصاصات العلوم الاجتماعية، في الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستين. ويبرز فيها ناصر الدين سعيدوني أن موضوعات الكتاب، في مجملها، تظهر تنوع الإشكاليات المتعلقة بهذه الثورة وتشعبها، وغنى المقاربات والمنهجيات. فدراسة أحداث الثورة تمثل فضاءً بحثيًّا واسعًا لا يزال في حاجة إلى جهود المؤرخين خصوصًا والباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية عمومًا، خاصة بعد مرور أكثر من ستين عامًا على انتهائها وتوافر المدى الزمني الكافي الذي يتيح للباحثين من الأجيال التي لم تعش أحداثها تناول مواضيعها بمنهجية علمية مجدّدة بعيدًا عن الخطاب الحماسي والتسييس، لتقدم وجهة النظر الجزائرية الوطنية الأصيلة، وتخلق نوعًا من التوازن بين الإنتاج الأكاديمي في ضفتَي المتوسط كمًّا ونوعًا؛ إذ لا تزال الكفّة حتى الآن لفائدة الضفة الشمالية.

ويشير سعيدوني إلى أن الأمل معقود على ظهور جيل من المؤرخين الجزائريين والعرب يضطلع بهذه المهمة، ويستفيد من الكمّ الهائل من وثائق الأرشيف والكتابات والشهادات المتعلقة بهذه الثورة، والتي أصبحت في متناول الباحثين لسهولة الوصول إليها وتطور تقنيات جمعها والاستفادة منها، ليُقرأ تاريخ الثورة الجزائرية قراءةً علمية متزنة لا تتوقف عند البطولات الفردية والحساسيات الشخصية، بل تتناولها بصفتها تجربة إنسانية تحررية فريدة، تجاوز صداها حدود الجزائر والعالم العربي والإسلامي إلى العالم كلّه، وباعتبارها لحظة تاريخية لم تنقضِ بعد لأنها ما زالت الأساس الصلب الذي تشيّد فوقه الدولة الجزائرية الحديثة، وحاضرة في المخيّلة الجماعية للشعب الجزائري والشعوب العربية، على الرغم من الانتكاسات التي تلت انتصارها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الثورة الجزائریة

إقرأ أيضاً:

عن خطر الذاكرة المثقوبة

يتغير حال الأمم بين القوة والضعف، وبين الغنى والفقر؛ لذلك فإن قوتها الآنية والتراكمية لا تقاس بعتادها العسكري وحده، ولكن بما تستطيع أن تحتفظ به من رصيد في ذاكرتها الجمعية. وذاكرة أي أمة من الأمم تملك قوة تجعلها تصل الحاضر بالماضي، وترسم خطوات المستقبل. وكان هذا الفهم راسخا في وجدان الأمم والشعوب؛ فلا تفرط فيه أبدا.

غير أن عصرنا هذا المتخم بالضجيج والتسارع جعل الذاكرة مثقوبة تتسرب منها الحكايات الكبرى قبل أن تترسخ في وجداننا، وقبل أن نستطيع مراكمتها لتشكل ذواتنا وواقعنا. ما إن يقع حدث حتى يُزاحمه آخر، فيختفي الأول وكأنه لم يكن، ويظل الوعي العام أسير اللحظة يتغذى على مشاهد عابرة تبدو وكأنها بلا سياق، أو أنها منزوعة منه.

والنسيان في ذاته ليس ظاهرة جديدة؛ فقد عرفته كل المجتمعات عبر التاريخ، لكنه اليوم يتخذ شكلا مختلفا؛ فهو لم يعد نتاج الزمن، ولكنه صار نتاج التدفق المستمر والمتسارع للمعلومات المبتورة والمشوهة التي يبتلع بعضها بعضًا، ويناقض بعضها بعضًا. وبهذا المعنى فإن هذا النوع من المعلومات المتسارعة والمتناقضة إذا لم تجد إطارا يحدها في سياق منظومة قيم، أو سردية وطنية، أو مشروع ثقافي؛ فإنها تتبدد سريعا في هذا الفضاء الرقمي الذي لا يبدو أن له ذاكرة قادرة على الرسوخ في الوعي البشري. وهذا في حد ذاته مشكلة كبيرة؛ حيث لا يمكن أن تكون المآسي صالحة لأن تعطينا دروسا وعبرا، ولا تصبح الإنجازات نماذج ملهمة، ولا الأخطاء قادرة على أن تحذرنا، ويتحول كل شيء إلى مجرد ومضات تضيء لحظة، وسرعان ما تنطفئ. وفقدان الذاكرة الجمعية يُفقد المجتمعات قدرتها على فهم ذاتها؛ فأمة لا تستطيع تذكر كيف تجاوزت الأزمات، ولا كيف شيدت منجزاتها لن تعرف كيف تحمي ما تملكه، أو تصنع ما تحتاجه! ومن دون ذاكرة حية وحاضرة في الوعي وفي السلوك يسهل إعادة إنتاج الأخطاء، وكأن التاريخ مجرد دائرة مفرغة تدور في الفراغ، وتتلاشى القدرة على استخلاص العبرة، ويصبح الحاضر كثير الهشاشة، أما المستقبل فإنه يغدو مفتوحا على احتمالات يقررها الآخرون لا نحن.

والحديث عن استعادة الذاكرة، وأهميتها في سياق البناء لا يفهم على أنه حنين إلى ماض ذهب وانتهى، ولكن من المهم أن يكون فهم الأمر على نحو مختلف يتمثل في أن الأمر هو وعي حقيقي بأن كل حاضر بلا جذور معرض للانهيار. إنها عملية وعي مستمرة تبدأ بالتعليم الذي يربط الوقائع بمنظومة القيم، وتستمر بالإعلام الذي لا يكتفي بتسجيل الأحداث، بل يضعها في سياقها الأخلاقي والتاريخي، وتزدهر في الفنون والآداب التي تحول الماضي إلى قوة روحية. فالذاكرة الحية إذن ليست صندوقا مغلقا نحتفظ فيه بالذكريات، ولكن يمكن أن نشبهه بالنهر المتجدد الذي يحمل إلينا منبع الهوية، ويجدد قدرتنا على الفعل.

إذن -والحال كذلك-لا يكفي أن نأسف لما يتبدد ويضيع، ولكن علينا أن نصنع لأنفسنا أدوات الحفظ والمراجعة. والأمر يبدأ من الفرد حين يتوقف أمام الأحداث؛ ليقرأ جذورها لا سطحها، ويسجلها في ذاكرته الخاصة قبل أن تصبح في سياق النسيان، ويمتد الأمر إلى الأسرة التي تروي تاريخها لأبنائها، وإلى المدرسة التي تعلّم وقائع التاريخ بوصفها دروسًا، وليست صفحات امتحان تنفر الطالب منها. ولا بد أن نعي أن الإمساك بالذاكرة هو أحد أهم شرط البقاء، ومقاومة صامتة ضد التلاشي، وبناء لجسر ممتد بين من كنّا، ومن نحن، ومن نريد أن نكون.

مقالات مشابهة

  • ما هي العادات التي تسبب فقدان الذاكرة؟
  • عن خطر الذاكرة المثقوبة
  • علي جمعة: التصوف في عصرنا الحاضر تاه بين الأعداء والأدعياء
  • رسميا.. مبولحي يلتحق بالبطولة الجزائرية
  • الحماية المدنية تُبرز التجربة الجزائرية في إدارة الكوارث بمعرض أوساكا
  • حضور واسع لدور النشر السورية في معرض الكتاب العربي بإسطنبول
  • الجزائر تدين المخططات الصهيونية التي تستهدف مستقبل غزة
  • نقل ملكية شركة طيران الطاسيلي إلى الجوية الجزائرية
  • جمعية الكتاب والأدباء بظفار تختتم مسابقة الحكواتي المتحدث
  • المالكي:لن نسمح للرافضين لإيران ولمشروعها المقاوم بالمشاركة في العملية السياسية