مضت أربعة عقود من الزمن، على انتصار شعبنا في انتفاضته، على الدكتاتورية العسكرية الثانية. تشكل انتفاضة ابريل 1995 معلم هام في تاريخ بلادنا، وتستحق الاهتمام بالدراسة والتحليل، واستيعاب الدروس. للقيمة الهائلة لتجربة انتصار الشعب، سلميا على نظام عسكري، والطريقة التي انجز بها ذلك. هذه المقالات تحاول وتجتهد ان تقدم قراءة للتجربة وربطها ببعض التحديات التي تواجهنا الان، حتى لا يصبح تعاملنا معها نشاطا اكاديميا معزولا على الصراعات والمشاكل الراهنة.


تعرضت في المقال الأول، لنقد المحاولات الحثيثة، التي تبرر لاستمرار الحكم العسكري. الحكم الذي نتج عن انقلاب 25 أكتوبر ضد السلطة المدنية الانتقالية. وأوضحت ان كل الحجج، التي تقدم لتسويغ لذلك النمط من الدكتاتورية، هي حجج لا تستقيم امام المنطق العقلي، ولا التجربة التاريخية لشعبنا. وعرضت لبعض، فقط بعض، الالام والخسائر التي سببها العسكر لبلادنا. وختمت بأن الجيش مؤسسة مهمة وضرورية، مثيل غيرها من مؤسسات الدولة الحديثة، ولكن ليس فوقها.
هذا المقال يناقش قضية أخري، من دروس الانتفاضة العظيمة. هذا الدرس المركزي والهام هو ضرورة وحدة القوي الشعبية في أوقات الأزمات الكبيرة، أو التحولات الحاسمة لبلدنا. والمنطق وراء ذلك هو ان توحد الشعب هو أداة مهمة، ومنهج أساسي وجوهري لتحقيق تلك الغايات الأساسية. الأهداف الكبرى للشعوب، لا يمكن تحقيقها في ظل الصراعات الجانبية، واعلاء المصلحة الذاتية الضيقة على حساب المصالح العامة العليا. وذلك لا يعني الغاء الفوارق النظرية او اختلاف الرؤى، بل يعني الوحدة في التنوع، بمعنى ان يكون التنوع أداة لبث الحيوية في التفكير الجمعي، واداة في تقوية النشاط العملي.
خلال الانتفاضة توحد الشعب حول اسقاط حكم الفرد المطلق، وإقامة نظام ديمقراطي، مبني على التعددية وحكم القانون. أدى ذلك الهدف السامي لتوحيد الملايين، في معركة سلمية، قوية، ومتواصلة حتى إزاحة الحاكم الفرد. وقادت تلك الوحدة القوية لإنجاز فترة الانتقال، رغم محاولات التخريب من قبل القلة من سدنة النظام القديم، مدنيين وعسكريين. تم الانتقال، رغم نواقصه، وأجريت الانتخابات، وكونت حكومة حسب تفويض الشعب. وكانت بداية لاستقرار النظام الديمقراطي، ولكن قوى النظام من السدنة، تآمرت علية بانقلاب مشؤوم، بعد ثلاث سنوات من الانتخابات، وقبل اكمال الدورة البرلمانية.
تمسكت قوى الانتفاضة بوحدتها، رغم محاولات ودعوات الفركشة والانقسام. فأنجزت معركة تصفية النقابات من رموز النظام السابق، التي خانت جماهير العاملين، وجعلت النقابات ترسا في ماكينة النظام العسكري. وصارت تدار من مكتب في الاتحاد الاشتراكي، التنظيم الأخطبوط الواحد. ونجحت بفضل وحدتها في انجاز ذلك، رغم الإمكانات المالية والفنية، التي قدمتها الحركة الإسلامية، لحلفائها من سدنة النقابات.
كان وعي قادة القوى السياسية، وتمسكهم بالوحدة، من اجل استتباب النظام الديمقراطي، وتوطيد اركانه، عاملا أساسيا في الاستقرار النسبي الذي تحقق. وكمثال في ديسمبر 1988، عندما زادت الحكومة أسعار سلعة السكر، ثار الشارع وأضربت النقابات. ادي ذلك الضغط الجماهيري لتراجع الحكومة. ولكن بعد العناصر اليسارية من النقابيين، ووسط الشارع، رفعت شعار استمرار الاضراب والتظاهر، حتى اسقاط النظام. وكان للحزب الشيوعي موقفا معلنا وواضحا وحازما، ضد ذلك الشعار المتطرف. وكان تحليله ان النقابات اضربت رفضا لزيادة سعر سلعة السكر، وتم لها ذلك المطلب، فلا يوجد سبب لخلق معركة جديدة لم تفوض لجان النقابات القيادات لتخل فيها. كما أشار لان اسقاط النظام الديمقراطي هي دعوة مباشرة لمغامر عسكري ليستولي على السلطة في البلاد. وكان المنطق وراء ذلك اننا كقوى انتفاضة توحدنا لإقامة نظام ديمقراطي، وعلينا الاستمرار في الوحدة للحفاظ عليه.
أهمية قضية الوحدة، ذات أهمية كبرى، لنا الآن، في ظل كارثة الحرب، والدمار الشامل، غير المسبوق، الذي يتهدد بلادنا. فانقسامات القوى المدنية، وتشتتها، وعدم تعبيرها بصوت واحد، هو أحد أسباب استمرار الحرب، وتمادي طرفي الحرب، في السعي للانتصار العسكري الحاسم، حتى على حساب التدمير الشامل للبلاد. الصوت المدني الموحد ضد الحرب، كان، ولا زال ضروريا لإيقاف الدمار، ولتحديد مستقبل السودان، وضرورة التمسك بأهداف ومبادئ ثورة ديسمبر المجيدة.
تجربة الانقسامات التي أعقبت إزاحة البشير من السلطة، واختلافات القوي المدنية، في ظل تربص اللجنة الأمنية بالثورة. ورغم كل التحذيرات، ومحاولات العرقلة والتخريب، استهلكت القوي السياسية نفسها في اعلاء المصلحة الحزبية فوق اهداف الثورة، وفوق ضرورة التوحد، لإكمال الانتقال الديمقراطي. وهو عملية شاقة ومعقدة، تكتنفها الصعوبات، وتآمر النظام القديم، ودولته العميقة. وهكذا أضعفنا السلطة الانتقالية، ولم نهتم بمعالجة ضعفها وقصورها، بمنطق ومبادئ الثورة. وبذلك سهلنا نجاح التآمر الذي توج بانقلاب 25 أكتوبر 2025. هنا لا استثنى أحدا، من القوي السياسية والنقابية وحركات الكفاح المسلح.
هناك اتهام، كثيرا ما يتكرر، امام دعاة العمل الجماعي، بكيف توحد أصحاب مشاريع سياسية مختلفة، وايديوجيات متنافرة. خطل هذا الرأي اننا لا ندعي لتوحد كل تلك القوي في كل واحد، يلغي كل الخلافات. وانما ندعو للعمل الموحد، في إطار البرنامج الذي يجمع تلك القوى، ويتعلق بالأولويات الكبرى لشعبنا. وهي نفس الدعوة لإقامة مشروع قومي واحد يوحد حوله الشعب، مشروع مبني على إقامة نظام ديمقراطي تعددي، مبني على حكم القانون والمساواة في الحقوق الأساسية، وعلى المواطنة. نظام مبني على الشراكة، بين كل أبناء الشعب، في السلطة السياسية والثروة القومية.

siddigelzailaee@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: مبنی على

إقرأ أيضاً:

صناعة الموت الممنهج.. المتحري يكشف لمشارق أبشع جرائم نظام الأسد

 

وعاين المليكي على الأرض مشاهد الرعب الممنهج الذي مارسه النظام على مدى سنوات، ووثق جرائم وصفت بأنها الأشد فظاعة في تاريخ الدولة الحديثة، واستعرض جانبا من ذلك في حلقة جديدة من برنامج "بودكاست مشارق" التي بثت عبر منصتي أثير والجزيرة 360 (رابط الحلقة كاملة).

وقال الصحفي الاستقصائي إن القصص في سوريا لا تحتاج إلى من يطاردها، بل هي التي تطارد الصحفي في كل زاوية، من صور المفقودين على الجدران إلى نظرات الأطفال في مراكز الرعاية.

اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4"المُتحرّي" يكشف بالأدلة تورط آل الأسد في تجارة الكبتاغونlist 2 of 4"قيصر" يكشف هويته ويروي تفاصيل مروعة عن جرائم الأسدlist 3 of 4"النجاة من سجون سوريا" فيلم وثائقي يكشف فظائع سجون الأسدlist 4 of 4"المتحري" وخفايا تجارة المخدرات في سوريا.. آل الأسد على رأس الهرمend of list

وأوضح أن كل حكاية تروي حقيقة واحدة: كان هناك نظام لا يمكن تصور مدى شرّه إلا عند معاينة نتاجه الفعلي.

وأكد المليكي أن دخوله إلى سوريا لم يكن بحثا عن بطولة، بل باعتبارها بيئة خصبة لأي صحفي استقصائي، واصفا لحظة وصوله إلى دمشق بعد شهر من سقوط النظام بأنها أكبر من توقعاته وأكثر قسوة مما قرأه عن الشمولية.

واعتبر أن ما فعله نظام الأسد لا يمكن اختزاله في مصطلحات مثل "الاستبداد" أو "الدكتاتورية"، واصفا تلك المفردات بأنها "رومانسية" مقارنة بواقع الجرائم المنهجية.

سلسلة الموت

ورأى المليكي أن ما يميز بشاعة النظام السوري هو أنه لم يقتل فقط، بل "أسّس نظاما إداريا دقيقا لإنتاج الموت"، مشيرا إلى أن كل مؤسسة رسمية تحولت إلى حلقة في سلسلة الموت، وأبرز مثال على ذلك -بحسبه- هو تحويل المستشفيات إلى مكاتب أمنية تشرعن الموت ولا تسعى إلى إنقاذه.

وذكر أنه حصل خلال عمله على الفيلم الاستقصائي المرتقب بعنوان "صناعة الموت" على وثائق رسمية تُظهر كيف كان الأطباء يُملون أسباب الوفاة من قبل ضباط الفروع الأمنية، وتُسجل أسماء القتلى بأرقام مجهولة، في حين يمنع على الضحايا النطق حتى في لحظاتهم الأخيرة داخل المستشفى.

وكشف المليكي عن وجود أكثر من 5900 صورة لجثث معتقلين جرى توثيقها بأدلة طبية دقيقة، وظهر فيها الضحايا وقد قضوا إما خنقا بأدوات بلاستيكية أو بطلقات مباشرة في الرأس.

إعلان

وقال إن هذه الصور تخضع لتحليل دقيق ضمن الفيلم، مؤكدا أن توثيق الجريمة كان جزءا من سلوك النظام، لا بدافع الخوف من المحاسبة، بل لتأكيد سطوته.

وأفاد بأن فريق "المتحري" حصل أيضا على قاعدة بيانات أمنية تضم معلومات عن أكثر من مليون معتقل تشمل محاضر التحقيق وبصمات المعتقلين، مما يمكّن عائلات المفقودين من تتبع مصير أبنائها بدقة، واصفا هذه البيانات بأنها "كنز إنساني" سيجري توظيفه، ليس فقط للكشف، بل أيضا لإنصاف الضحايا.

لحظات صادمة

وفي واحدة من أكثر اللحظات صدمة تحدّث المليكي عن زيارته لمراكز رعاية الأطفال الرضع الذين نقلتهم الفروع الأمنية إلى دور الدولة.

وقال إنه دخل غرفة تضم نحو 20 رضيعا لا يُعرف لهم نسب، بعضهم أبناء معارضين سياسيين اعتُقلوا، والبعض الآخر نتاج اغتصاب داخل المعتقلات، وجميعهم سُجّلوا مجهولي الهوية.

وأضاف أن المشهد داخل الغرفة كان كافيا لـ"إسقاط كوكب"، على حد تعبيره، إذ تكدس الأطفال على الأرض وفي الأسرّة، بعضهم يضحكون، وآخرون يبكون، في حين كانت عيونهم تلاحق الداخلين في صمت محمّل بالتساؤلات، وقال "كنت عاجزا عن التصوير، فجلست في السيارة لنصف ساعة أحاول استيعاب ما رأيت".

وأشار المليكي إلى أن هناك وثائق تؤكد أن هؤلاء الرضّع سُجّلوا عمدا بدون ذكر اسم الأب أو الأم رغم معرفتهما، واصفا ذلك بأنه "جريمة هوية" قد تُستخدم لاحقا لتجنيدهم أو تبرير سلوك النظام القمعي في المستقبل.

وقال إن هذه السياسات تكشف أن النظام لم يكن يقتل فقط، بل كان يخطط لمستقبل قائم على الطمس والإنكار، وأوضح أن هناك حالات موثقة لسيدات تم سجنهن مع أحفادهن، فقط لأن أحد أبنائهن كان معارضا سياسيا.

وذكر قصة امرأة سجنت مع أحفادها، في حين كان الطفل الأكبر منهم يسمع صوت أمه وجدته تحت التعذيب، فيحاول رفع صوته ليمنع أشقاءه من سماع ما يحدث، وهي حادثة تبرز عمق التدمير النفسي الذي مارسه النظام.

المقابر الجماعية

وفي حديثه عن المقابر الجماعية، أشار المليكي إلى زيارته موقع دفن جماعي، حيث عثر على مستطيل بطول عشرات الأمتار دُفن فيه المئات من الضحايا، في حين لم يُكمل الجزء الباقي بسبب سقوط النظام.

وقال إن "الموت كان عملا جاريا حتى آخر لحظة، والمقابر كانت تنتظر المزيد من الجثث لولا التغيير السياسي".

وأبرز أن العاملين في المقابر العامة كانوا يدركون أن مشاهدة عملية الدفن تضعهم في خطر، إذ اختفى اثنان من زملاء القيّم على المقبرة بعدما حاولا التلصص على عملية دفن ليلية.

واعتبر أن كل موظف سوري في ظل هذا النظام تحوّل -شاء أم أبى- إلى شريك في الجريمة أو ضحية محتملة لها.

وحين سُئل عن كيفية التوازن بين الدوافع الإنسانية والعمل المهني، قال المليكي إن الاستقصاء لا يطلب من الصحفي أن يكون بلا ضمير، بل أن يجمع الوثائق ببرود منهجي، حتى وإن كان الدافع عاطفيا، مضيفا "العاطفة تمنح الفيلم روحه، أما الوثيقة فهي ما يبقيه حيا في أرشيف الحقيقة".

وكشف أن الفيلم الجديد سيكون باكورة سلسلة من الأفلام التي تحقق في الكيماوي والأموال المنهوبة وملفات الاغتيالات، إضافة إلى مشاريع توثيق واسعة تسعى إلى فضح النظام من خلال العمل الميداني والمقارنة بين المصادر.

إعلان

وشدد المليكي على أن توثيق هذه الجرائم ليس ترفا صحفيا، بل واجب أخلاقي وتاريخي، وقال إن من مصلحة السوريين توثيق ما حدث حتى لا يعود القتلة ولا يفسدوا المستقبل، مشيرا إلى أن الصحافة الحقيقية توسّع هامش الحرية وتحاصر الاستبداد، حتى لو كانت بالوثيقة لا بالبندقية.

21/6/2025

مقالات مشابهة

  • ضربة إسرائيل القوية التي وحّدت إيران
  • صناعة الموت الممنهج.. المتحري يكشف لمشارق أبشع جرائم نظام الأسد
  • وسيم الأسد تاجر المخدرات الذي ساهم بقمع معارضي النظام السوري المخلوع
  • العدالة الانتقالية وعلاقتها بالسلم الأهلي… في حوار مفتوح بحلب
  • الحرب مع إسرائيل والداخل الإيراني: هل تكرّس سيطرة النظام أم تسرّع بنهايته؟
  • من هو رضا بهلوي؟.. الإسم القادم لحكم إيران اذا سقط نظام الملالي
  • معراج أورال.. مُعارض تركي حارب إلى جانب نظام الأسد
  • الشعب الثائر لا يُقهر!
  • رسمياً.. تعيين بنشعبون مديراً عاماً لاتصالات المغرب والشركة تطوي مرحلة التدبير السيئ لأحيزون
  • نظام "زالي".. تقنية وطنية لحفظ الأمن على الحدود