السودان.. تاريخ المسارات الخاطئة والحروب الخاسرة
تاريخ النشر: 22nd, April 2025 GMT
ليتَ القادة الأفارقة- والسودانيون جزء منهم- استمعوا بآذان التواضع للمفكّر الفرنسي رينيه دومون، حين أذن فيهم بكتابه: (أفريقيا.. البدايات الخاطئة) والذي خطّه في العام 1966، أي بعد عشر سنوات تقريبًا من نيل كثير من البلدان الأفريقية استقلالها.
ليتهم قرؤُوا كتابه الذي يسلّط الضوء على خطأ النموذج التنموي الذي اختارته النُخَبة الأفريقية لبلدانها بعد الاستعمار، بما فيه إعادة نمذجة دولة المستعمر بكل سوءاتها، وإضافة أثقال جديدة كسوء الإدارة، والفساد، والفشل في بناء النظم والمؤسسات التي تحدّ من سلطان الأفراد لصالح سيادة القانون، والتخطيط العلمي محل تسلّط القادة بفرض المشاريع الأيديولوجية المستوردة على شعوبهم، وتوطين الحرية بدلًا من الانقلابات العسكرية التي أورثت القارة واقع البؤس والحروب الأهلية، وكرّست الانقسام والتخلّف المميت.
ولربما ينهض السودان مثلًا شاخصًا على (البدايات الخاطئة)، والسير في مساراتها التي انتهت بنا إلى الحروب المستمرة منذ الاستقلال قبل سبعين عامًا ولا تزال.
بيدَ أن السودان كان يمتلك ميزة إيجابية نسبية، متفوقًا على كثير من الدول الأفريقية التي رسم حدودها المستعمر الأوروبي، إذ كانت تجربة الدولة فيه سابقة للاستعمار الإنجليزي الذي حلّ ضيفًا ثقيلًا على البلاد عام 1898 بعدما أسقط الدولة المهدية التي حكمت البلاد ستة عشر عامًا، وقبلها كانت (التركية السابقة) والتي امتدت لستين عامًا بعدما أسقطت المملكة السنارية التي حكمت أجزاء واسعة من السودان الحالي لمدة ثلاثة قرون.
إعلانإن التحالف الخلّاق الذي تم بين قبائل الفونج ذات الأصول المحلية في السودان، والقبائل العربية بقيادة عبدالله جماع، والذي تأسست بموجبه مملكة سنار في العام 1504، قد أجاب باكرًا على أسس التعايش المشترك بين المكونات القبلية المختلفة في السودان.
وكان يمكن للنخبة التي ورثت الحكم من المستعمرين استدعاء ذلك النموذج الخلّاق، والتأسيس عليه للإجابة عن سؤال الهوية المستجد بعد ستّين عامًا من الحكم الثنائي الإنجليزي- المصري.
ولكن، وبدلًا من سعي النخبة لبناء الأساس المتوافق عليه للعيش المشترك، ومن بعد ذلك التفرّغ لبحث الأنموذج الأحكم لبناء التنمية الاقتصادية الشاملة بتوظيف الموارد، وتنويع الإنتاج، مع الاهتمام بالصناعة، وإيجاد الأسواق المستقرّة للصادر السوداني عبر علاقات خارجية متوازنة قائمة على المصالح المتبادلة، غرقت النخبة السودانية -وبجميع اتجاهاتها الفكرية والسياسية- في بحر الأيديولوجيات القاتلة، والحوارات غير المنتجة، فتركت مسار التفكير الواقعي المنتج، والذي مجاله التنمية الاقتصادية، وسلكت أودية المشاريع الفكرية القائمة على (التهويم)، ومفارقة ما يطلبه الوطن في لحظته تلك.
الأيديولوجيا.. مدخل لفهم الأزماتنرى أن واحدة من أزمات السياسة السودانية المركزية، والتي ساهمت مساهمة كبيرة في هذا الواقع البائس اليوم، هي سيطرة الأيديولوجيات على مجمل المشهد الوطني، مما أنتج حالة التعصب، وعقلية خوض المعارك الصفرية (إما نحن أو لا أحد)، أو بعبارة أخرى: انتشار ثقافة الإقصاء والإقصاء المضاد. ولا يمكن استثناء فريق دون الآخر من هذه الثقافة التي صارت سمة مميزة للشأن العام في السودان.
والأيديولوجيا التي نعنيها في هذا المقال، هي: (الفكر غير المطابق للواقع)، كما يعرفها عبدالله العروي، وحين يسيطر التفكير المفارق للواقع على قادة الدولة، فإن النتيجة المحققة لمشاريعهم هي (الوهم)؛ لأن الأيديولوجيا، كما يقول المفكر الفرنسي بول ريكور، تمارس وظائفها من خلال ثلاث آليات:
إعلان تشويه الواقع: حيث تعمل على إنتاج صورة معكوسة عنه. تبرير الأوضاع القائمة: بإعطاء توضيحات وأسباب كامنة وراء أيديولوجيا معينة. إدماج الأفراد في هوية الجماعة: بتكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية.بهذا المفهوم، تغلغلت الأفكار غير الواقعية في السياسة السودانية، فقادت عجلة مسارها بعيدًا عن الأهداف الواقعية التي طالب السودانيون بتحقيقها بعيد خروج المستعمر الإنجليزي.
وللتدليل على هذا الزعم، دعونا نرَ كيف سيطرت بعض الأجندات والقضايا التي لا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال ذات أولوية في الهمّ الوطني، ولكن ظلّت هذه القضايا هي محل الحوار والتنافس، والتشاكس والخلاف، وسببًا للحروب والنزاعات.
وسنتناول في هذا المقال قضيتين فقط تصلحان لتجلية كيف سيطر تفكير الأزمة على خيال النخبة السودانية، وكيف أنها أضاعت وقت البلاد والعباد في مسار خاطئ. ولا شك أن فساد المقدمات سيؤدي إلى فساد النتائج، وهو بالضبط ما حدث لهذا البلد المنكوب.
أولًا: الهوية كسؤال زائفظلّت قضية الهوية وسؤالها ثابتًا جوهريًّا في كل عهود الحكم الوطني، حتى صار من المسلَّم به أن بالسودان مشكلة هوية موروثة لا يمكن حلها.
وخلال عقود من الحكم الوطني، تمَّت تغذية النعرات القبلية، وإحياء الانتماءات الضيقة، بل ونشر خطاب الكراهية في بعض الأحيان، وهو الأمر الذي وسّع الشقة بين شمال السودان وجنوبه، حتى انتهى الأمر بانفصال جنوب السودان.
ولم تكن تلك التجربة المؤلمة لتعلّم السودانيين درسًا في التعايش والتسامح، بل استمرّ الوعي الزائف بوجود مشكلة في الهوية ينتشر فيما تبقى من جغرافيا البلاد، منذرًا بمزيد من الانقسامات بين السودانيين.
وبكل اطمئنان أقول: إن سؤال الهوية سؤال زائف، ورفعه إلى أعلى الأولويات في سلّم القضايا الوطنية فخٌّ وقعت فيه النخبة الوطنية، فصرفها عن الواجب الوطني نحو (السفسطة غير المنتجة).
إعلانلقد قامت المملكة السنارية قبل خمسة قرون على وعي كامل بالشروط الموضوعية لنجاح الدولة في بلد متعدد الأعراق مختلف السحنات، ورسّخت أصول الحكم فيها على علاقة التراضي بين مكونات الدولة، أو ما يعرف بالنظام الفدرالي في الأدبيات الحديثة.
ومع أن الركيزة الأساسية التي قامت عليها كانت التحالف بين قبائل الفونج والقبائل العربية، فإنه لم تكن هناك مشكلة كبيرة اسمها الهوية، بل اعتمدت المملكة على الشخصية السودانية التي تضافرت عوامل كثيرة عبر التاريخ لصناعتها، لتكون عامل وحدة واندماج طوعي دون إكراه أو استعلاء.
وقد يجادل مجادل هنا ليقول: إنّ السودان الحديث أضيف إليه جنوب السودان بكل تنوّعه الديني والعرقي، وهو مما يتباين تباينًا جوهريًّا مع شمال السودان. فنقول: إن استيعاب شروط التعايش مع الدولة الحديثة كان يقتضي من السودانيين استيعاب التعدد والتنوع، وفقًا لمفهوم التدرّج في تخلّق الهوية الوطنية الجامعة.
إذ إنّ الهوية، في نظرنا، هي عملية صيرورة لا تتحقق بالقوانين والأوامر. وبهذا المفهوم، فهي بحاجة للصبر والتعايش الخلّاق. وكان يمكن إعلاء روح شخصية الجماعة بدلًا من حوارات الهوية، وهو المفهوم الذي يعرفه البروفيسور بركات الحواتي عن البعض بأنه: (تلك القوى المعنوية في جماعة ما، تبرز صفاتها، وتعبّر عن مدى عزيمتها في التكاتف والتعاضد للنهوض بمجتمعها، وفي سعيها الحثيث نحو التقدم والمحافظة على تراثها في إطار اتحادها).
وهو المفهوم الذي اختصره الشاعر السوداني إبراهيم العبادي إذ يقول: (يكفي النيل أبونا والجنس سوداني).
نعم، كان يمكن – وما زال- الاكتفاء بالهوية السودانية، وتطويرها عبر مناهج التعليم ومرتكزات الثقافة والفكر، لتصل بنا إلى القومية السودانية الجامعة التي بشّر بها أحد رواد النهضة السودانية المجهضة، ورئيس الوزراء السابق محمد أحمد المحجوب: (وأول الطرق لبث الشعور القومي هو أن نعمد إلى عصبية القبائل الحالية، ونحولها إلى عصبية وطنية شاملة).
إعلانوكان المحجوب ورهطه من أبكار المثقفين السودانيين قد تميزوا في مجلة الفجر بالمناداة بالقومية السودانية نموذجًا للتعامل مع سؤال الهوية، ولكن مشروعهم ذلك دُفن تحت سنابك التيارات الحديثة المثقلة بسلاح الأيديولوجيات الإقصائية.
في سؤال الهوية، أقول: لقد اجتهد المثقفون السودانيون في صناعة الأزمة، وأوهموا أنفسهم بعد ذلك أنهم يبحثون عن حل لمشكلة حلّت على السودانيين (بما كسبت أيديهم).
وليت السودانيين استفادوا من النصيحة الغالية التي قدّمها لهم أحد الحكماء والمفكرين الأفارقة، وهو المفكر الكيني علي المزروعي، في زيارته للخرطوم في الستينيات من القرن الماضي، إذ ركّز على أهمية الوعي بالجغرافيا السياسية للسودان، واستثمارها لتكون عاملًا للقوة، بدلًا من أن تنتصر الهامشية المركبة للسودان الذي يقبع في (سافل العربان وهامش الأفارقة) على حد وصف الدكتور عبدالله علي إبراهيم.
وللأسف الشديد، لم يكن الوعي الوطني كافيًا للاستفادة من الجغرافيا السياسية للبلاد، وتوظيف ذلك لإثراء التنوع الداخلي والاستفادة منه لتقوية الجبهة الداخلية.
بدلًا من ذلك، تسلّل إلى الفكر السوداني باكرًا الدعوة لعروبة السودان، وفرض ذلك بالقوة القسرية، الأمر الذي أنتج سردية أخرى مغايرة تنادي بالأفريقانية. وحتى حين قامت مدرسة الغابة والصحراء كحل توفيقي ينادي بالتوفيق بين المدرستين، لم يكن ذلك كافيًا لاستعادة مسار الدولة الوطنية التي ابتدرتها المملكة السنارية.
ثانيًا: الشريعة الإسلاميةالقضية الثانية التي ثار حولها الخلاف، هي قضية الشريعة الإسلامية. وفي رأينا، أن كل ما ثار حول هذه القضية كان يمكن تجنّبه، لو تخلّت الأطراف عن تفكيرها الحزبي، ونظرت للأمر من زاوية علمية وموضوعية. وعلى كل، فإن مقالنا القادم سيتناول هذه القضية المؤثرة في السياسة السودانية.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات سؤال الهویة کان یمکن بدل ا من
إقرأ أيضاً:
سفير مصر لدى الأمم المتحدة لـ صدى البلد: مصر لديها مدرسة دبلوماسية راسخة في السلام.. ولا يمكن الحديث عن تنمية دون سلم.. ولا قضاء على الفقر دون استقرار
السفير أسامة عبد الخالق مندوب مصر لدى الأمم المتحدة لـ صدى البلد:
مصر تسعى لوقف مستدام لإطلاق النار وإقامة الدولة الفلسطينيةمصر تقاوم أي محاولة لتصفية القضية الفلسطينية داخل مجلس الأمنحق الفيتو شلّ فاعلية مجلس الأمن ومنع اتخاذ قرارات حاسمةمصر تعمل بأقصى طاقتها لحماية الأمن القومي ودعم أشقائناأولويتنا تعزيز تماسك المجموعة الأفريقية والعربية داخل الأمم المتحدةمشاركتنا في قوات حفظ السلام جزء لا يتجزأ من حماية أمننا القومي نستخدم العمق الأفريقي لتعزيز مطالب القارة بالإصلاحبوصلة الاستقرار الوحيدة هي إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيةيُعدّ السفير أسامة عبد الخالق أحد أبرز قامات الدبلوماسية المصرية، وهو المندوب الدائم لجمهورية مصر العربية لدى الأمم المتحدة في نيويورك. يمثل السفير عبد الخالق صوت مصر الثابت والمؤثر في أروقة المنظمة الدولية، حاملاً لواء الدفاع عن القضايا العربية والأفريقية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. يتمتع السفير بخبرة واسعة في ملفات الأمن والسلم الدوليين، ونزع السلاح، والتنمية المستدامة، مما يجعله شاهدًا ومشاركًا أساسيًا في صياغة المواقف الدولية تجاه التحديات الراهنة، "صدى البلد" التقى به في نيويورك لإلقاء الضوء على جهود الدبلوماسية المصرية المكثفة لتعزيز الأمن الإقليمي، ودفع مسارات السلام، وقيادة أجندة الدول النامية.
سعادة السفير، أهلاً بك.. لنبدأ بملف الساعة:
ما هو تقييمكم للدور الحالي لمجلس الأمن والجمعية العامة في التعامل مع الأزمة الإنسانية والسياسية في فلسطين؟ وما هي الخطوات التي تسعى مصر لتمريرها عبر الأمم المتحدة؟
أهلاً بكم.. بصراحة ومهنية، تقييمنا لدور مجلس الأمن لا يرتقي إلى مستوى خطورة الأزمة، إن كثرة استخدام حق النقض (الفيتو) من بعض الأطراف قد شلّ فاعلية المجلس ومنع اتخاذ قرارات حاسمة تتناسب مع حجم الكارثة الإنسانية. أما الجمعية العامة، فقد أثبتت أنها تمثل صوت الضمير العالمي من خلال القرارات التي تُمرر بأغلبية ساحقة.
مصر تسعى لتمرير خطوتين رئيسيتين في مسألة غزة: أولاً، وقف فوري ومستدام لإطلاق النار وتدفق المساعدات الإنسانية بلا قيود. ثانياً، تفعيل الأفق السياسي لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو المطلب الذي لا يمكن تجاوزه.
كيف تعمل مصر من خلال عضويتها في الأمم المتحدة على تعزيز مسارات السلام في الشرق الأوسط، خاصة في ظل التعقيدات الإقليمية الحالية وكونها أول من أرسى دعائم السلام؟
مصر لديها مدرسة دبلوماسية راسخة في السلام، وريادتنا هذه تفرض علينا دورًا محوريًا. نحن نستخدم نفوذنا لدفع مسار حل الدولتين باعتباره الحجر الزاوية للاستقرار. الدور المصري لا يقتصر على التفاوض المباشر، بل يتعداه إلى بناء التحالفات داخل الأمم المتحدة لضمان أن تبقى القضية الفلسطينية حية على جدول الأعمال، ومقاومة أي محاولة لتصفيتها تحت أي مسمى.
في سياق تحذيركم الأخير من عدم تنفيذ بنود اتفاقية شرم الشيخ للسلام، ما هي الآليات التي يمكن للأمم المتحدة تفعيلها لضمان التزام الأطراف بهذه الاتفاقيات؟
أي اتفاقيات تهدف لإرساء السلام، مثل مخرجات قمة شرم الشيخ، تتطلب آلية متابعة دولية حازمة. نحذر من أن عدم التنفيذ يهدد استقرار المنطقة بالكامل. الأمم المتحدة، عبر مجلس الأمن أو الأمين العام، يمكنها تفعيل آليات الرصد والإبلاغ الدورية، وربما إنشاء بعثة مراقبة خاصة بتفويض دولي، للتأكد من التزام جميع الأطراف بخطوات بناء الثقة التي تؤدي إلى الحل السياسي النهائي.
كيف تستخدم البعثة المصرية الأدوات الدبلوماسية في الأمم المتحدة لحماية سيادة الدول العربية، خاصة في ضوء التحديات التي تواجه دول الجوار مثل لبنان وسوريا؟
مصر تستخدم دبلوماسيتها القوية لضمان أن تظل قضايا الدول العربية تُعالَج على أساس احترام سيادتها ووحدتها الوطنية. نحن نعارض أي تدخل خارجي أو محاولات لتقسيم الدول. في قضايا مثل لبنان وسوريا، نركز على دعم المؤسسات الوطنية الشرعية كركيزة أساسية للاستقرار، وندفع نحو حلول سياسية شاملة تقودها الأطراف الوطنية أنفسها.
وما هو دور مصر في تعزيز مبادئ تعددية الأطراف داخل الأمم المتحدة لمواجهة النزعات الانعزالية؟ وما هي أولوياتكم الاستراتيجية في هذا السياق؟
نحن نرى تصاعداً في النزعات الانعزالية والشعبوية. مصر، وكدولة مؤسسة للأمم المتحدة، هي في قلب الدفاع عن التعددية. أولوياتنا الاستراتيجية هي: تعزيز تماسك المجموعة الأفريقية والمجموعة العربية داخل الأمم المتحدة، والعمل على إصلاح مجلس الأمن لجعله أكثر تمثيلاً وعدلاً. نؤمن بأن الحلول العالمية تتطلب تعاوناً، وليس انسحاباً.
مصر من الدول الرائدة في المساهمة بقوات حفظ السلام الأممية. ما تقييمكم لتحديات عمليات حفظ السلام الحالية؟ وما رسالتكم للمجتمع الدولي بشأن دعم هذه القوات؟
مصر هي من أكبر الدول المساهمة بقوات في حفظ السلام، التحديات الحالية جسيمة، أبرزها تزايد المخاطر الأمنية التي تواجه القوات في مناطق النزاع، ونقص التمويل اللازم لهذه البعثات. رسالتنا للمجتمع الدولي واضحة: يجب دعم هذه القوات بالموارد اللازمة، والتفويضات الواضحة والواقعية، وتوفير التكنولوجيا الحديثة لحماية أفرادها الذين يضحون بأرواحهم لتحقيق الأمن.
كيف توازن مصر بين التزاماتها الأممية في حفظ السلام وحماية مصالحها الوطنية والإقليمية، خاصة في القارة الأفريقية؟
مصر تتبنى رؤية متكاملة، مشاركتنا في حفظ السلام، خاصة في أفريقيا (مثل الكونغو والسودان)، هي جزء لا يتجزأ من حماية أمننا القومي الإقليمي. الاستقرار في القارة الأفريقية هو استقرار لمصر، نحن نساهم في بعثات تحقق التوازن وتدعم مؤسسات الدولة الوطنية، وهذا يتوافق تماماً مع "عقيدة الدولة المصرية" في الرهان على المؤسسات.
كيف تربط البعثة المصرية قضايا الأمن والسلم الدوليين بتحديات التنمية المستدامة والأمن الغذائي والمائي في إطار أجندة 2030؟
المرتكزات الثلاثة للأمم المتحدة – السلم، الأمن، والتنمية – مترابطة لا تنفصل. لا يمكن الحديث عن تنمية دون سلم، ولا يمكن القضاء على الفقر والجوع دون استقرار. نحن نستخدم أجندة 2030 لضمان أن تُعالَج قضايا الأمن المائي والغذائي، المتأثرة بالتغيرات المناخية والنزاعات، كأولوية أمنية قصوى.
بعد استضافة مصر لمؤتمر الأطراف للمناخ (COP27)، كيف تستمر مصر في قيادة أجندة العمل المناخي في الأمم المتحدة؟ وما المطالب الرئيسية للدول النامية التي تدافعون عنها؟
قيادتنا للعمل المناخي مستمرة. نجاحنا في (COP27) بتدشين صندوق الخسائر والأضرار كان إنجازاً تاريخياً. المطالب الرئيسية التي ندافع عنها للدول النامية هي: العدالة المناخية، والتزام الدول المتقدمة بتعهداتها التمويلية، وزيادة التمويل الميسر، والتركيز على التكيف بقدر التركيز على خفض الانبعاثات.
في ضوء توقيع مصر مؤخراً على اتفاقيات مكافحة الجريمة السيبرانية، ما حجم التعاون المتوقع مع الأمم المتحدة لحماية الأمن القومي المصري والدولي؟
الجريمة السيبرانية أصبحت تهديدًا عابراً للحدود. توقيعنا على الاتفاقيات يعكس التزامنا بالتعاون الدولي. نتوقع تعاوناً مكثفاً مع الأمم المتحدة من خلال نقل الخبرات، والمساعدة في بناء القدرات التقنية والقانونية، وإنشاء أطر دولية ملزمة لمواجهة التهديدات السيبرانية التي تستهدف البنى التحتية الحيوية والأمن القومي.
كيف تؤثر مكانة مصر الريادية في أفريقيا والمنطقة العربية على ممارستكم لمهامكم الأممية؟ وكيف توازنون بين الأولويات الوطنية والإقليمية والدولية؟
مكانة مصر الريادية هي قوة دفع لعملنا، هذا التوازن بين الأولويات يتم من خلال مبدأ ثابت، ما يخدم الاستقرار الإقليمي هو في نهاية المطاف يخدم المصالح الوطنية المصرية، فنحن نستخدم العمق الأفريقي لتعزيز مطالب القارة بالإصلاح، ونستخدم نفوذنا العربي في ملفات السلام، مما يعطي صوتنا وزناً مضاعفاً داخل المنظمة.
بحكم خبرتكم الطويلة في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، كيف تقيمون تطور الدبلوماسية متعددة الأطراف في العقد الأخير؟
تطور الدبلوماسية متعددة الأطراف اتسم بـ تزايد الاستقطاب وصعوبة التوافق على القضايا الكبرى. لكن في المقابل، شهدنا صعودًا وتأثيراً للمجموعات الإقليمية مثل المجموعة الأفريقية ومجموعة الـ 77 والصين. هذا التطور يفرض علينا العمل بذكاء أكبر وتوحيد الأصوات الإقليمية لمواجهة تحديات العقد الجديد.
ما أبرز الصعوبات التي تواجهونها في العمل الدبلوماسي اليومي داخل أروقة الأمم المتحدة؟ وكيف تضمنون وصول المواقف المصرية بوضوح للمجتمع الدولي؟
أبرز الصعوبات هي تضارب المصالح وتسييس القضايا، واستخدام الأدوات الإجرائية، مثل حق النقض، لعرقلة الإرادة الدولية. نضمن وصول المواقف المصرية بوضوح من خلال: الشفافية، والاتساق المبدئي مع ثوابتنا الوطنية، والدبلوماسية الهادئة والمكثفة خلف الأبواب المغلقة، وتشكيل تحالفات عابرة للمجموعات الجغرافية.
في ظل التحديات العالمية الراهنة، كيف ترون مستقبل دور الأمم المتحدة كمنظمة دولية؟ وما التطويرات المطلوبة لتعزيز فعاليتها؟
الأمم المتحدة، رغم كل التحديات، تظل الإطار الشرعي الوحيد للحوار والعمل الدولي. مستقبلها مرهون بمدى قدرتها على الإصلاح والتكيف مع واقع ما بعد عام 1945. التطويرات المطلوبة هي: إصلاح جذري لمجلس الأمن ليكون أكثر ديمقراطية، ترشيد البيروقراطية الداخلية، وضمان تمويل مستدام لعملياتها الإنسانية والتنموية.
ما الرسالة التي تودون توجيهها للشعب المصري والمجتمع الدولي حول رؤية مصر لمستقبل السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط؟
رسالتنا للشعب المصري هي أن الدولة تعمل بأقصى طاقتها لحماية الأمن القومي ودعم أشقائنا. وللمجتمع الدولي، رسالتنا هي: لا يمكن تحقيق سلام مستدام في الشرق الأوسط دون العدل. يجب إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية. هذه هي البوصلة الوحيدة للاستقرار.