المعنى في الصورة– مشهد ما قبل، وبعد الرصاصة الأولى

وجدي كامل

24 أبريل 2025

عندما تُقرأ الحربُ لا من فُوَّهةِ البندقيّة، بل من تعبيرات الوجه، ووَضْعِيّات الجسد، ونظرات الازدراء والتحدّي، فإنّنا نكون في صُلبِ معركةٍ أعمقَ للحرب الثقافيّة الرمزيّة، التي تُمهِّدُ لما بعدها من عنفٍ ودمار. فالتحليلُ للحربِ الدائرةِ بأنّها حربٌ تستمدُّ تغذيتها من تاريخٍ مهولٍ من العنصريّةِ والكراهيّةِ وشَتّى علاماتِ الانقسامِ الاجتماعيّ والثقافيّ، قد يستغرق وقتًا وعملًا معلوماتيًّا مُجهِدًا، قد يحتاج إلى عشرات المؤلّفات، كما هي مبذولةٌ لمن أراد التثبّت من الوقائع والإقناع بها.

ولكن، صورة فوتوغرافيّة واحدة، في أقل من ثانية، مُقْتطَعة من تصوير فيديو جرى بكاميرا الهاتف أو بكاميرا احترافيّة، في هذا التوقيت من الزمان، تُصبح قادرةً على إيصال المعنى والتأكيد على الحُجّة. هكذا، انتشر في الأيام الماضية مقطعٌ لفيديو يُظهِرُ شخصًا بدينًا، ضخمَ الجثة، شماليَّ أو وَسَطيَّ الملامح، في لحظة تصوير وهو يتهجّم على صبيّ، تقول هيئتُه إنّه قادمٌ من إحدى مناطق الغرب، أو جبال النوبة، أو جنوب النيل الأزرق، فأبطَلَ من تدفُّقِ الرجل، الذي كان – وفيما ثبت لاحقًا – يُسجّل مقطعًا عن عودة الحياة لطبيعتها في منطقةٍ من مناطق الجزيرة، لصالح قناة الجزيرة مباشر. تحرُّشُ البدين بالصبيّ في وسط سوق الخضار لم يكن لخطأٍ مقصودٍ أو إساءةٍ مُفتعلةٍ قام بها الصبي، عندما قاطع التصويرَ بمروره ما بين البدين والكاميرا، بل لسوء تقدير، أو عدم معرفة أصلًا بما يجري من تصوير، وما يتطلّبه من سلوكٍ حركيّ ما بين المتحدّث والكاميرا. لاحقًا، ذُكرت المعلومات أنّه “الشيخ” عبد الباسط الشُّكري، والذي وصفه المحلّلُ المعلوماتيّ والصحفيّ الاستقصائيّ بُشرى علي بأنّ آخر وظيفةٍ تسنَّمها كانت مشرفًا على خلوة مجمّع إبراهيم مالك، وما عُرِف عنه حينها باهتمامه بركوب عربته الـ”برادو” الجديدة أكثر من اهتمامه بوظيفة الإشراف على الخلوة. وأنّ المصوّر هو شقيقه المراسل، الذي -فيما يبدو- أراد أن يخصّ شقيقه الأكبر سنا بالإكراميّة الماليّة التي تُقدّمها القناة في مثل هذه الإفادات. أظهر الفيديو المُتداوَل عبد الباسط متحرّشًا بالصبي، بينما أبدى الأخيرُ ردًّا دفاعيًّا استثنائيًّا عن كرامته بعدم الانصياع لأوامر عبد الباسط بالابتعاد من دائرة التصوير، الأمر الذي سجّل إعجابًا شعبيًّا منقطع النظير، منحازًا للحظة دفاع الصبي عن نفسه. الصورة، بالتفاصيل التي أوردتها لغةُ الكلام والجسد، عبّرت عن السلوك العنيف، غير الإنسانيّ، للشيخ عبد الباسط، بحيث انطوت على توبيخٍ لم يكن يجد تبريرًا إلّا في سياقٍ يُذكّرُ بتعامل التّجار التاريخيّين في الرقّ، أو سادة الحملات الاسترقاقيّة باحتقارهم لرعاياهم من المُستَرَقّين. غير أنّ ردّة فعل الصبيّ المُستنكرة ألغت كلّ “ملكيّة” مزعومة لعبد الباسط في الأمر والنهي. لقد كشفت الصورةُ بجلاءٍ عن انتفاض كرامة “المُستَعبَد المفترَض”، التي رفضت الانصياع، وتمرّدت على التوبيخ، فواجهت النظرة الفوقيّة بندّيّةٍ مذهلة، ما جعل المشهد ليس مجرّد شجار، بل احتكاك هُويّتين: هُويّة “السّيّد”، المرتكزة على الجسد المترهّل، والملبس التقليدي، والميكروفون المثبَّت بعناية، والذي يحمل صورة “الشرعيّة” الإعلاميّة والدينيّة؛ وهويّة الصبيّ، الباحث عن ردّ اعتبار لكرامته التي جُرِحت. القراءة السيمائيّة البصريّة لزاوية التصوير تُظهر عبد الباسط وهو يطأ بظلّه الجسديّ والنفسيّ على مساحة الطفل، فتعكس نظامًا تراتبيًّا مُكرّسًا، كأنّه يقول: “أنا الأعلى، أنت الأدنى”. فلغةُ الجسد، التي تعتمد على القُرب لدرجة الالتحام المُهدِّد بالضرب واستعمال العنف، تصنع خطابًا بصريًّا مُنتِجًا للمعنى، من صراع الاحتقار والمقاومة في دلالته العامّة. أمّا زاوية التصوير، أو الصورة فلسفيًّا، فتقول أكثر مما يُقال. ففي نظريّة ميشيل فوكو عن السلطة، يُفهم الجسد كمساحةٍ تُمارَس عليها أنظمة الضبط والانضباط. وفي هذه الصورة، يحاول “الشيخ” أن يضبطَ الجسد الخارج عن الطاعة – جسد الصبي – لكن الردّ المقاوم يفضح آليّات السلطة كلّها، بالتحدّي، إلى عكسه: شدّ الصبي لجسده، وإرساله نظرةَ تحدٍّ استثنائيّة للشُّكري. أمّا في سيمياء رولان بارت، فهذه الصورة تُمثّل لحظةَ انفجارٍ للمعنى، الذي أعاد تعريفها كونها ليست مجرّد صورة، بل خطابًا اجتماعيًّا كاملًا، مشحونًا بالعنصريّة، والتاريخ، والمقاومة، مما يجعلها ليست فقط توثيقًا للحظةٍ عابرة، بل شهادةً بصريّة تعبّر عن أنّ الانقسام الاجتماعيّ في السودان ليس مزروعًا فقط في المظالم السياسيّة والاقتصاديّة، بل في النظرات، والأجساد، وردود الأفعال المتباينة في لحظات الصدام. المفارقة الساخرة، أنّ هذا التهجُّم وقع أثناء تصوير مشهدٍ إعلاميّ يُفترَض أنّه “يطمئن” الناس على عودة الحياة إلى طبيعتها، بينما “اللاطبيعيّ” تجلّى في عنف الشُّكري ذاته. وهكذا، نخلصُ من الفيديو، أو الصورة بوصفها وثيقةً وشهادة، إلى أنّ الحرب لم تبدأ مع البنادق، بل بدأت حين تمّ ترسيخ طبقيّاتٍ وإثنيّاتٍ تُهين الإنسان وتُجزِّئه حسب لون بشرته، أو لهجته، أو لباسه. وتُكرِّس لكلّ ذلك حربًا بداخلها قانونٌ غير مكتوب، يحمل اسم: الوجوه الغريبة، في أرجاءٍ ومناطقَ بعينها، من بلدٍ من المفترض أن يكون واحدًا، موحّدًا، انسانه متساوي في الحقوق والواجبات.

الوسومالانقسام الاجتماعي في السودان البنادق الحرب المعنى في الصورة مشهد ما قبل وبعد الرصاصة الأولى وجدي كامل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: البنادق الحرب مشهد ما قبل

إقرأ أيضاً:

خطاب كامل إدريس وخيبة جديدة في مشهد مضطرب

حسب الرسول العوض ابراهيم

في وقت كان ينتظر فيه السودانيون أي بادرة أمل للخروج من نفق الحرب والدمار ، جاء خطاب رئيس الوزراء المعيَّن كامل إدريس باهتاً خالياً من أي إشارة إلى النزاع الدامي الذي يفتك بالبلاد ،،، تجاهله الإشارة الي الحرب وهي الملف الأهم في تاريخ السودان المعاصر ليس فقط صادماً بل يعكس استهتار بالواقع الذي يعيشه الملايين من الشعب السوداني بين القصف والنزوح والجوع.
التعيين المريب … محاولة التفاف لا أكثر

التساؤلات حول كامل إدريس لا تتعلق فقط بمحتوى خطابه بل تبدأ منذ لحظة تعيينه ، فقبله أعلن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان تعيين السفير دفع الله الحاج علي رئيساً للوزراء دون أن يصدر من الأخير أي موقف رسمي بل سرت تسريبات عن رفضه العودة إلى السودان ،، وهو ما أضعف موقفه وفتح الباب لبدائل وتكهنات كثيرة
لكن المعطيات تكشف أن قرار تعيين دفع الله لم يكن وليد اجتهاد فردي من البرهان بل جاء من رحم التنظيم الإسلاموي المسيطر على مفاصل الدولة العميقة .ومع ادراك اقتراب العقوبات الأمريكية الجديدة أدرك هذا التنظيم أن الإصرار على تعيين شخصية ذات مرجعية أيديولوجية واضحة مثل دفع الله الحاج علي ، قد يعزلهم خارجياً أكثر مما هم عليه داخلياً.
وهكذا لجأوا إلى “عملية تمويه سياسي” باختيار شخصية ذات خلفية دولية في محاولة لتسويقها خارجيًا. فوقع الاختيار على كامل إدريس ظناً أن عمله السابق في المنظمات الدولية سيمنحه شيئًا من القبول الغربي كما كان الحال مع عبد الله حمدوك ،،الا أن الفارق بين الرجلين شاسع ، فحمدوك جاء بثقل شعبي وشرعية ثورية بينما كامل إدريس جاء بترشيح داخلي دون غطاء جماهيري أو سياسي .
منصب بلا صلاحيات ورجل بلا مشروع ،،،

العارفون بخفايا المشهد يعلمون أن كامل إدريس الذي سعى طويلاً لمنصب رئاسة الوزراء ولم يوفق وجد هذه المرة ضالته و فرصته الذهبية لنظام فاقد للشرعية ،فقبل المنصب دون تردد رغم إدراكه أنه سيكون مجرد “محلل ” لواقع تهيمن عليه المؤسسة العسكرية ودولة الكيزان العميقة.

ولم يمض وقت طويل حتى بدأت أولى مظاهر التمرد على صلاحياته إذ رفضت حركة العدل والمساواة أحد أطراف اتفاق جوبا ذات الصلاحية المنتهية التخلي عن وزارة المالية ما يؤكد أن القوى المتحالفة مع النظام العسكري ليست في وارد احترام شكل الدولة الجديدة ولا تعترف بسلطة رئيس وزراء منزوع الدسم.
خطاب مهادن ومغازلة مفضوحة للكيزان ،،
الخطاب الأول لكامل إدريس لم يكن فقط خالياً من موقف واضح تجاه الحرب بل حمل إشارات واضحة إلى مهادنة الإسلامويين، عبر الإشادة بالقوات والمليشيات التي تقاتل إلى جانب الجيش ، وكأنه يقول لهم “أنا منكم وفيكم فاعتمدوا عليّ” تجاهل الحرب و التغاضي عن المأساة الإنسانية والانشغال بالرسائل السياسية ، كل ذلك يعكس أن الرجل لا يرى نفسه صاحب مشروع بل مجرد واجهة مطلوبة لتمرير أجندات أوسع ،،
في الختام … لا بشريات ولا موقف من خطاب كامل إدريس ،،

ما كان ينتظر من أول خطاب لرئيس وزراء جديد هو أن يطرح رؤية للخروج من الأزمة أو على الأقل موقفاً واضحاً من الحرب أو الدعوة لوقف القتال، أو عرض مبادرة وطنية جامعة. لكن ما سمعناه كان خطاباً فاترا باهتا، وظيفياً يفتقر لأي مضمون حقيقي ولا يُطمئن أي سوداني يتوق للسلام أو التغيير.

بهذا الخطاب، يُمكن القول إن كامل إدريس بدأ مشواره السياسي الأخير برصيد سلبي وضع نفسه فيه طواعية، ولم يترك سوى خيبة أمل جديدة تضاف إلى رصيد طويل من الإخفاقات في المشهد السوداني،،،

كاتب ومحلل سياسي

الوسومحسب الرسول العوض ابراهيم

مقالات مشابهة

  • رسميًا وبعد طول انتظار.. صرف المعاشات بالزيادة الجديدة بدءًا من 1 يوليو
  • خطاب كامل إدريس وخيبة جديدة في مشهد مضطرب
  • أهالي حمص يحيون ذكرى رحيل حارس الثورة السورية عبد الباسط الساروت في مدينة حمص لأول مرة بعد تحرير المدينة
  • حمص تُعيد اسم الساروت إلى الواجهة.. ملعب باسمه ووفاء لا يموت لـحارس الثورة
  • صوفان: وجود شخصيات على غرار فادي صقر ضمن هذا المسار له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.. نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة
  • في ذكرى استشهاد عبد الباسط الساروت.. إرث لا يموت وأغان لا تنسى
  • رجال الأمن يودّعون الحجاج في مشهد مهيب بعد نهاية موسم الحج.. فيديو
  • فيديو طريف لخروف نعيمي يرافق مالكه لشراء قدر ضغط يشعل مواقع التواصل
  • رونالدو يدعو على الطريقة الإسلامية قبل الفوز تتوج البرتغال
  • عاجل.. الزمالك يقترب من إبرام صفقة ثلاثية مع فاركو بقيمة 100 مليون جنيه لتعزيز صفوف الفريق