قيام إمبراطورية روسيا الإفريقية
تاريخ النشر: 26th, April 2025 GMT
في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس دونالد ترامب إلى تحقيق فتح مع بوتين في ما يتعلق بأوكرانيا، نرى الكرملين لا يتحرك، مكتفيا بتحقيق مكاسب على أصعدة أخرى. وفي حين تبقى واشنطن مستنزفة في أوروبا الشرقية، توسع موسكو نطاق نفوذها في إفريقيا متقدمة باطراد إلى ساحل الأطلنطي. وفيما تعمل في الخفاء، تقيم روسيا مواقع عسكرية، وتؤمِّن اتفاقيات دفاع، وتحول توازن القوى الإقليمي من البحر الأحمر إلى غرب إفريقيا.
وفي حال عجز إدارة ترامب عن الاستجابة، فإن الكرملين سوف يقيم معقلا استراتيجيا آخر على حد الناتو الجنوبي. ولن يكون وحده في ذلك: فروسيا تعمق التنسيق مع الصين وإيران، مشكلة محورا معاديا عازما على تحدي السيادة الغربية في مسارح عديدة: أرضية وبحرية وجوية، وأثيرية.
يمثل انسحاب الولايات المتحدة من النيجر ـ في أعقاب طرد فرنسا من السنغال ومالي وبوركينا فاسو ـ انهيارا للمعاقل الغربية في منطقة الساحل. ومع انسحاب الغرب، تسارع روسيا إلى ملء الفراغ، غارسة نفسها في البنى الأمنية وموسِّعة نفوذها خارج حدودها. وما هو بالنفوذ السياسي وحسب، فروسيا هي مورِّد الأسلحة الأكبر لإفريقيا، حيث تمثل نحو 40 % من واردات القارة من الأسلحة.
وليست هذه انتهازية محضة، إنما هي تفعيل لنهج الحرب غير المتكافئة الذي يتبعه بوتين. فبتسليح مجالس الحكم العسكرية، واستغلال الفوضى، تستولي موسكو على فراغات السلطة الناجمة بسبب الغرب. وفي قمة سوتشي في نوفمبرالماضي تعهد بوتين قائلا «إن بلدنا سوف يستمر في توفير الدعم الكامل لأصدقائنا الأفارقة».
يشير تنامي نفوذ موسكو في بوركينا فاسو ومالي والنيجر ـ أي تحالف دول الساحل (AES) حديث التكوين ـ إلى مسار واضح. ففي ما بين عامي 2020 و2023، استولت مجالس عسكرية على الحكم في تلك البلاد من خلال انقلابات مدعومة من روسيا، وأنهت العلاقات العسكرية والدبلوماسية مع حلفاء إقليميين ومع فرنسا والولايات المتحدة. وهي الآن تعمق التعاون الأمني بإرشاد من موسكو. فسوف تنتشر قوة أمنية مشتركة قوامها خمسة آلاف فرد من النيجر وبوركينا فاسو ومالي في وسط الساحل، مرسخة النفوذ الروسي مع تهميش البنى الأمنية المدعومة من الغرب.
ولكن روسيا لا تكتفي بدعم هذه الأنظمة الحاكمة، وإنما تعيد تشكيل بنية الأمن في إفريقيا من خلال شركة المرتزقة الغامضة التابعة لها أي شركة فاجنر [Wagner PMC]. وشركة فاجنر أكبر من محض جماعة شبه عسكرية، فهي سلاح استراتيجي للاندماج في قوات الأمن وإعادة صياغة توازن القوى في المنطقة. وبتوفير الدعم العسكري والغطاء الدبلوماسي، تجعل موسكو من نفسها العمود الفقري لبقاء هذه الأنظمة الحاكمة ضامنة السيطرة بعيدة المدى على مستقبل المنطقة.
توسع موسكو حاليا استراتيجيتها متجاوزة منطقة الساحل إلى الساحل الأطلنطي. ففي موريتانيا كانت زيارة وزير الخارجية سيرجي لافروف في عام 2023 جزءا من توجه دبلوماسي روسي أعم. وفي الوقت الذي جددت فيه حكومة موريتانيا التزامها بالقانون الدولي، عبرت أيضا عن «تفهمها» لمخاوف روسيا الأمنية، في دليل على أن السردية الموسكوفية تكتسب زخما.
وفي غينيا الاستوائية، تبنت روسيا نهجا أكثر مباشرة. إذ أشارت تقارير ترجع إلى نوفمبر 2024 إلى قيام موسكو بنشر قوة من مائتي فرد من أجل حماية نظام الرئيس تيودورو أوبيانج نجيما مباسوجو. ويستقيم هذا مع أسلوب روسيا المعتاد: وهو توفير الحماية لنظام حاكم في مقابل الحصول على نفوذ في المدى البعيد. وتوفر غينيا الاستوائية بما لديها من ثروة نفطية وموقع استراتيجي على خليج غينيا لروسيا معقلا في منطقة خضعت تاريخيا للقوة الغربية.
تستفيد روسيا من هذه التحولات في ثلاثة أوجه. أولا، أنها ترغم الدول المجاورة من قبيل تشاد وبنين وغانا وكوتدفوار ـ التي كانت ذات يوم من شركاء الغرب المضمونين ـ على التعاون مع موسكو، شاءت ذلك أم أبت. وفي ضوء أن مالي وبوركينا فاسو والنيجر تشكل منطقة عازلة متحالفة مع روسيا، تقوم القوات المدعومة من روسيا بالعمل في دول الساحل، فتواجه حكومات المنطقة أحد خيارين، إما تغيير شراكاتها الأمنية أو المخاطرة باللجوء إلى المناورة في بيئة خاضعة لهيمنة موسكو.
ثانيا، يتجاوز تحالف دول الساحل (AES) كلا من الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا [ECOWAS] بما يضعف من المؤسستين اللتين كانتا ذات يوم تنسقان الأمن الإقليمي. وبتآكل هذه الأطر تضمن موسكو أن تصاغ أي استجابة لعدم الاستقرار بحسب شروطها. وليس من قبيل المصادفة أن تسعى توجو ـ وقد رأت هذا التحول في ديناميات القوة ـ إلى الانضمام لتحالف دول الساحل (AES).
ثالثا، تعوق هذه الاستراتيجية العمليات الأمنية المدعومة من الولايات المتحدة والناتو. فمع انقطاع الصلة بين القوات الغربية والمراكز الأساسية في منطقة الساحل، تنزاح جهود مكافحة الإرهاب بعيدا في الجنوب إلى الدول الساحلية الهشة. ويؤدي هذا التمزق إلى تعطيل تبادل المعلومات ويرغم القوى الغربية على اتخاذ وضع رد الفعل على نحو متزايد. ويكون هذا هو الميدان الحربي الذي تزدهر فيه روسيا، حيث تتسم التدخلات الغربية بالبطء، بينما تطرح موسكو نفسها بوصفها الضامن الجديد للأمن.
لكن طموحات موسكو في إفريقيا تتجاوز القارة كثيرا، فهي تنظر إليها بوصفها خطوة حاسمة في بنية نفوذ عالمية جديدة. وبحلول عام 2026، تخطط موسكو لافتتاح سفارات في جامبيا وليبريا وجزر القمر والنيجر وسيراليون وتوجو وجنوب السودان مرسخة نفوذها في مناطق يتلاشى فيها النفوذ الغربي.
يعزز هذا التحول كتلة روسيا الاستراتيجية، إذ حصلت إيران على اليورانيوم من النيجر بعد انقلاب مدعوم من الكرملين، في حين توسع الصين سيطرتها في الوقت الذي تنال فيه موسكو من النفوذ الغربي. وتصوغ موسكو وطهران وبكين معا محورا يتحدى مصالح الولايات المتحدة في العالم كله تحديا مباشرا.والآن، تتركز أنظار موسكو على الأطلنطي. ففي حين لم يتم الإعلان عن قاعدة بحرية في ساحل غرب إفريقيا، فليس ذلك إلا مسألة وقت في ضوء تعميق الروابط مع غينيا وموريتانيا وغينيا الاستوائية. وما يبدأ في حدود مركز لوجيستي اليوم قد يصبح في غد موقعا عسكريا، يتيح لموسكو موطئ قدم استراتيجيا لتحدي هيمنة الناتو وربما لقطع خطوط الإمداد الغربية.
وقبل أن تستجيب واشنطن، لا بد أن تدرك نطاق الطموحات الروسية. فإفريقيا لم تعد منطقة هامشية، إنما هي تتحول إلى منصة مركزية بالنسبة لاستراتيجية موسكو العالمية. وفي حال استمراركم في التغافل عنها، فإن روسيا وإيران والصين سوف تصوغ المنطقة دونما أن تصادف أي صعوبات. ومع تأمين موسكو ممرات أساسية وصياغتها ترتيبات أمنية جديدة، قد تتصدع سلاسل التوريد الغربية، وقد يتفكك الردع، وقد تجد أوروبا نفسها مكشوفة. وبحلول الوقت الذي يتخذ فيه الغرب رد فعل، سيكون توازن القوى قد تشكل وانتهى الأمر.
زينب ريبوا زميلة باحثة ومديرة برامج في مركز السلام والأمن في الشرق الأوسط بمعهد هدسون. وهي متخصصة في التدخل الصيني والروسي بالشرق الأوسط، ومنطقة الساحل، وشمال إفريقيا، وتنافس القوى العظمى في المنطقة، والعلاقات العربية الإسرائيلية. قبل انضمامها إلى معهد هدسون، عملت مساعدة باحثة في مركز الحضارة اليهودية بجامعة جورج تاون. نشرت مقالاتها وتعليقاتها في صحف وول ستريت جورنال، وفورين بوليسي، وناشيونال إنترست، وجيروزاليم بوست، وتابلت، وغيرها.
عن ذي ناشونال إنتريست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: منطقة الساحل الوقت الذی دول الساحل
إقرأ أيضاً:
بعد انسحاب رواندا.. ماذا تعرف عن التجمع الاقتصادي لدول وسط إفريقيا؟
يشهد التجمع الاقتصادي لدول وسط إفريقيا (CEEAC) مرحلة دقيقة من تاريخه، بعد إعلان رواندا انسحابها رسميًا من المنظمة، في خطوة تعكس عمق التوترات السياسية داخل التكتل الإقليمي الذي يضم 11 دولة. جاء هذا القرار عقب القمة السادسة والعشرين للمنظمة، التي استضافتها مدينة مالابو في غينيا الاستوائية، يوم السبت 7 يونيو 2025.
التجمع الاقتصادي لدول وسط إفريقيا
أُسس التجمع الاقتصادي لدول وسط إفريقيا عام 1983، بهدف تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي بين دول المنطقة، وتعزيز الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة. يضم التكتل كلًا من: أنغولا، بوروندي، الكاميرون، جمهورية إفريقيا الوسطى، تشاد، جمهورية الكونغو، جمهورية الكونغو الديمقراطية، غينيا الاستوائية، الغابون، رواندا، وساو تومي وبرينسيب.
من بين أبرز أهداف التجمع:
تعزيز التجارة البينية والاندماج الاقتصادي.
تنسيق السياسات الاقتصادية.
دعم جهود السلم والأمن في المنطقة.
تنفيذ مشاريع بنية تحتية مشتركة.
انسحاب رواندا: أزمة سياسية تعصف بالتكتل
في تطور غير مسبوق، أعلنت رواندا انسحابها من التجمع، معللة ذلك بما وصفته بـ "الإقصاء السياسي" من رئاسة المنظمة، و"استغلال بعض الدول الأعضاء، وعلى رأسها جمهورية الكونغو الديمقراطية، للمنظمة لأغراض سياسية".
وأشارت كيغالي إلى أن حقها في تولي الرئاسة الدورية للتجمع تم تجاهله عمدًا، بعد أن قررت القمة تمديد فترة رئاسة رئيس غينيا الاستوائية تيودورو أوبيانغ لعام إضافي، خلافًا لترتيبات التداول المنصوص عليها في ميثاق المنظمة.
خلفيات التوتر بين كيغالي وكينشاسايعود التوتر بين رواندا والكونغو الديمقراطية إلى اتهامات متبادلة تتعلق بدعم الحركات المسلحة، لا سيما حركة M23، التي تتهم كينشاسا كيغالي بدعمها عسكريًا في إقليم شمال كيفو شرقي الكونغو.
وكانت المنظمة قد أدانت مرارًا "الانتهاكات" التي تقوم بها حركة M23، داعية في فبراير الماضي إلى "انسحاب فوري للقوات الرواندية من الأراضي الكونغولية"، ما فاقم الخلافات بين البلدين داخل أروقة التجمع.
مستقبل CEEAC في ظل الانقسامانسحاب رواندا يطرح تساؤلات جدية حول قدرة التجمع على الحفاظ على وحدته، خاصةً في ظل صراعات إقليمية متصاعدة، وتأثيرها المباشر على آليات العمل المشترك داخل المنظمة.
رغم هذه الأزمات، أعلنت القمة الأخيرة في مالابو إطلاق منطقة التجارة الحرة الخاصة بالتجمع، على أن تدخل حيز التنفيذ في 30 أغسطس 2025، في محاولة لتعزيز البعد الاقتصادي للتكتل.
محاولات لاحتواء الأزمةتزامنًا مع انسحاب رواندا، تستعد العاصمة التنزانية دار السلام لاستضافة قمة مشتركة بين التجمع الإنمائي للجنوب الأفريقي (SADC) والمجموعة الاقتصادية لدول شرق إفريقيا (EAC)، في 8 يونيو، لبحث سبل التهدئة في منطقة شرق الكونغو واحتواء الانقسامات الإقليمية.
في النهاية يعكس انسحاب رواندا من التجمع الاقتصادي لدول وسط إفريقيا عمق الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء، ويضع المنظمة أمام تحديات مصيرية تتطلب إعادة تقييم شاملة لآليات عملها، وضمان احترام المبادئ التأسيسية التي أنشئت على أساسها. وفي ظل النزاعات الإقليمية المستمرة، يبقى مستقبل التكامل في وسط إفريقيا رهينًا بقدرة القادة على تغليب منطق الحوار على صراع المصالح.