في مشهد بدا عفويًا، التقى رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلال زيارته أمس لمنطقة الدندر، بالمواطن “حماد عبد الله حماد” الذي اشتهر قبل أشهر بمقطع متداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عقب ظهوره بشكل عفوي أمام كاميرا تلفزيون السودان بعد اندلاع الحرب. الرجل بدأ حديثه حينها بتمجيد الجيش السوداني، لكنه سرعان ما أطلق عبارة مباشرة، وغير محتشمة تجاه مليشيا الدعم السريع، أربكت المذيع، ومنعها لاحقًا الإعلام الرسمي من البث، لكنها انتشرت مجتزأة وأصبحت مادة واسعة التداول بين جمهور منصات التواصل الاجتماعي.

تلك الواقعة تعود إلى لحظة صادقة انفجرت من وجدان مواطن سوداني بسيط، عايش بمرارة فظائع هذه الحرب، وذاق، كما غيره من السودانيين، مرارة الانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع بحق المدنيين والبنى التحتية، في تعدٍّ لا يُمكن وصفه إلا بأنه ممنهج وبعيد عن كل قواعد القانون الدولي والإنساني.

زيارة البرهان للدندر، ولقاؤه بحماد عبد الله، وإن أثارت الكثير من التفاعل، يجب أن تُقرأ في سياقها الإنساني أكثر من كونها موقفًا سياسيًا. فالمنطقة، كغيرها من بقاع السودان، لم تكن بمعزل عن تداعيات الحرب، ومواطنوها، الذين عانوا من التهجير والانتهاكات، ربما وجدوا في ذلك اللقاء رسالة تضامن، أو اعترافًا ضمنيًا بما عاشوه من أهوال.. وكان من الطبيعي أن تكون القيادة قريبة من شعبها في هذه اللحظات الفارقة.

لكن تبقى هناك حساسية رمزية لا يمكن إغفالها، إذ إن اللقاء، دون ضبط لسياقه الإعلامي أو توضيح لمقاصده، منح صدىً متجددًا لخطاب شعبي عُرف بفجاجة مفرداته، التي حاول البعض اتخاذها تجريمًا للموقف. وهنا يبرز التحدي الحقيقي: كيف نوازن بين التعبير الشعبي المشروع، والارتقاء بخطاب الدولة، دون أن نُسقط من حسابنا الجراح التي ما زالت تنزف؟

وفي هذا السياق، تبرز دلالة الآية الكريمة من سورة النساء، حيث يقول تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ (الآية: 148).
وهي آية عظيمة تُرشد إلى أن الجهر بالسوء – وإن كان مكروهًا – فقد يُباح للمظلوم، دون أن يتجاوز. فالظلم لا يُعطي الإنسان تفويضًا مفتوحًا في القول، بل مساحة من التعبير المشروط بالعدل وضبط اللسان، لأن الله سميع لما يُقال، عليم بما تُخفي الصدور.. وإن صبر فهو خير له.

لذلك ليس من العدل تحميل رئيس مجلس السيادة وزر كل انفعال شعبي، خصوصًا في ظل الفظائع المتكررة التي ارتكبتها المليشيا بحق الوطن والمواطن، لكن من حقنا، في المقابل، أن نتساءل عن ملامح الخطاب العام الذي يُبنى في هذه المرحلة المفصلية. فالحرب ليست فقط معركة على الأرض، بل معركة في المعنى واللغة والمستقبل.

السودان اليوم لا يحتاج إلى بطولات لفظية، بل إلى خطاب رصين يُواسي المنكوبين، ويؤسس لمشروع وطني جامع. أما الذين صنعتهم الصدف الإعلامية، فمكانهم ربما في ذاكرة الطُرفة والمزاح العفوي ، لا على منابر القرار أو رمزية المشهد الوطني.

دمتم بخير وعافية..

إبراهيم شقلاوي
الوان

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

دمج وزارة الري في وزارات أخرى: قرار غير موفق!!

دمج وزارة الري في وزارات أخرى: قرار غير موفق!!

بروفيسور ياسر عباس*

يمر السودان بمرحلة حرجة نتيجة للحرب الجارية حاليًا، ما يستدعي تضافر جهود الجميع للمساهمة في ترسيخ دعائم السلام وإعادة الإعمار، لاسيما للمرافق الحيوية. وتُعد وزارة الري والموارد المائية من أهم ركائز هذه العملية، كونها تمثل العمود الفقري لحياة المواطنين في السودان.

وفي هذا السياق أرى أن قرار السيد رئيس الوزراء د. كامل إدريس بضم وزارة الري والموارد المائية إلى وزارتي الزراعة (الري)، والبيئة والاستدامة (الموارد المائية) لم يكن صائبًا، وذلك لأسباب إجرائية وفنية.

أولًا – من الناحية الإجرائية:

في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد نتيجة الحرب، يجب أن يكون الهدف الأول هو استعادة مؤسسات الدولة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، لا إدخال تغييرات هيكلية كبيرة تزيد من تعقيد الوضع و تقود الى الفشل فى تقديم الخدمات المطلوبة.

وزارة الري ليست وزارة صغيرة، بل مؤسسة ضخمة تضم آلاف العاملين موزعين من دلتا طوكر شرقًا إلى ولايات دارفور غربًا، ومن محطة الديم جنوبًا إلى دنقلا شمالًا. وتشمل مهامها إدارة ستة خزانات كبرى، وأربعة مشاريع ري استراتيجية (الجزيرة، الرهد، حلفا الجديدة، السوكي)، إلى جانب عشرات الإدارات والهيئات الفنية المتخصصة، فضلًا عن الملفات الحيوية المرتبطة بمياه النيل، ومفاوضات سد النهضة، والسد العالي. إعادة توزيع هذه المهام والكوادر بين وزارات مختلفة هو عبء تنظيمي كبير لا يمكن احتماله في ظل الحرب، ويتطلب دراسات مستفيضة وظروفًا طبيعية يمكن فيها تنفيذ مثل هذا التغيير بهدوء وتخطيط.

ثانيًا – من الناحية الفنية:

عملية توفير مياه الري مترابطة ومعقدة، تبدأ من قياس المياه عند محطة الديم على الحدود الإثيوبية – وهي مرحلة تسبقها مفاوضات حساسة مع دول الحوض – ثم تخزين المياه في خزان الروصيرص، وتمرير هذه المياه عبر التوربينات لتوليد الكهرباء، قبل أن تُوزَّع من خزان سنار عبر شبكة الري إلى مشروع الجزيرة. فصل هذه المراحل بين وزارات متعددة قد يؤدي إلى خلل في التنسيق ونتائج كارثية، كما أثبتت التجارب السابقة، مثل تجربة الوزير وديع حبشي في عهد النميري، وتجربة الوزير عبد الحليم المتعافي في عهد الإنقاذ , و اخيرا تجربة تحويل الخزانات لوزارة الكهرباء فى نهايات عهد الانقاذ.

كما أن التجارب الإقليمية والدولية توضح أهمية الحفاظ على وحدة وزارة مستقلة للري والموارد المائية. فمصر، إثيوبيا، وبقية دول حوض النيل تحتفظ بهذه الوزارة ككيان واحد، لما يتطلبه من انسجام بين الجوانب الفنية والتنظيمية.

ويُحسب لوزارة الري السودانية خلال سنتي الحرب أنها استطاعت الحفاظ على سلامة منظومة الخزانات الخمسة، رغم تعقيدات الوضع الميداني، وتشغيل سد النهضة. وشهدنا كيف أن عبث المليشيا بخزان جبل أولياء تسبب في فيضان قرى النيل الأبيض في أواخر عام 2024. و لا ابالغ ان وصفت الخزانات الستة كاهم منشات فى دولة السودان حاليا – لما لها من دورمحورى فى توفير مياه الرى لما يزيد عن 4 مليون فدان و توليد نحو 60% من الكهرباء، فضلًا عن إمداد محطات الشرب النيلية بالمياه.

لذلك، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية، أرى أن الإبقاء على وزارة الري والموارد المائية كوزارة مستقلة هو الخيار الصائب.

والله ولي التوفيق،

* وزير الرى و الموارد المائية السابق

20 يونيو 2025

#السودان

الوسومالجزيرة الرهد السودان السوكي حلفا الجديدة دلتا طوكر دنقلا رئيس الوزراء كامل إدريس محطة الديم وزارة البيئة والاستدامة وزارة الري والموارد المائية وزارة الزراعة ياسر عباس

مقالات مشابهة

  • رأي.. إردام أوزان يكتب: الشرق الأوسط في عصر الصراع المفتوح.. من سيرسم الخطوط؟
  • صمود .. الخارجية السودانية وقفت عقبة أمام لقاء البرهان وحميدتي
  • د.حماد عبدالله يكتب: عصر "الكتاتيب"،"والتكايا!!"
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ترجمة على شريط النفس)
  • إبراهيم شعبان يكتب: الحرب الإيرانية - الإسرائيلية.. الأسوأ لم يأتِ بعد
  • د. هشام فريد يكتب: هل اتفقت أمريكا مع إيران على نتنياهو بعد أن أصبح عبئًا عليها !؟
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود و حكومة الأمل
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (باب الخروج من القمقم… أين)
  • د.حماد عبدالله يكتب: السينما المصرية!!
  • دمج وزارة الري في وزارات أخرى: قرار غير موفق!!