في كل لحظة مفصلية تعصف بالأمة العربية، يحضر اسم جمال عبد الناصر وكأنه ظل لا يفارق مشهد الأزمات، نستدعيه بكل شموخه حين نبحث عن معنى للكرامة، ثم لا نلبث، في اليوم التالي، أن نجلد صورته ونحاكمه بمعايير عصر لم يكن عصره، في ازدواجية مألوفة تكاد تختصر مأساة وعي شعوبنا.

ومع ذلك، يظل عبد الناصر، برغم تناقضات الأحكام عليه، الحاضر الغائب في كل منعطف مصيري، رمزًا لحقبة حلمت بالتحرر والكرامة رغم قسوة التحديات.

من هنا تبدأ قصة قناة السويس، ورجل آمن بأن السيادة الوطنية لا تقبل التجزئة. في 26 يوليو 1956، أعلن عبد الناصر تأميم القناة، متحديًا القوى التقليدية التي رأت في مصر مجرد رصيف آخر على طريق الإمبراطوريات. جاء الرد عنيفًا، فاندلعت نيران العدوان الثلاثي في أكتوبر من العام نفسه.

كان يمكن لمصر أن تخسر معركتها أمام آلة الحرب البريطانية الفرنسية الإسرائيلية لولا متغير لم يكن في الحسبان: موقف الولايات المتحدة الأمريكية، بقيادة دوايت أيزنهاور.

رغم أن بريطانيا وفرنسا كانتا شريكتين لأمريكا في انتصار الحرب العالمية الثانية، رفض أيزنهاور تواطؤهما في مغامرة عسكرية ضد دولة ناشئة تطالب بحقها المشروع. بإصرار أخلاقي واستراتيجي، تمسّك أيزنهاور بتطبيق قرارات الأمم المتحدة، مطالبًا بانسحاب القوات المعتدية دون قيد أو شرط.

وبالفعل، تحقق انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من منطقة قناة السويس في 23 ديسمبر 1956. ومع أن مصر احتفلت بعيد النصر، بقي استكمال التحرير ناقصًا بسبب تمسك إسرائيل باحتلال غزة وسيناء، محاولة فرض أمر واقع يخدم مصالحها المستقبلية.

هنا جاء التحرك الأمريكي الحاسم: كتب أيزنهاور إلى دافيد بن غوريون رسالة تهديد واضحة في نوفمبر 1956، لوّح فيها بوقف المعونة المالية الأمريكية - التي كانت تقدر بمئة مليون دولار - ومراجعة طبيعة التحالف الأمريكي الإسرائيلي الوليد.

قال أيزنهاور بنبرة لا تحتمل اللبس: "أحثك على الامتثال لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن تجعل قرارك بالانسحاب معروفًا فورًا. سيكون أمرًا في غاية الأسى لكل مواطني بلدي لو أن السياسة الإسرائيلية جاءت عائقًا أمام التعاون الودي بين بلدينا."لم تمضِ أسابيع حتى أجبرت إسرائيل على الانسحاب الكامل، وفتحت قناة السويس للملاحة تحت السيادة المصرية مجددًا، مع ضمان حرية المرور عبر مضيق تيران، إلى أن تبدلت المعادلة عشية نكسة يونيو 1967.حافظ عبد الناصر على تقديره لموقف أيزنهاور، واستقبل نائب الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون بحفاوة خلال زيارته للقاهرة عام 1963. كما التقى بأيزنهاور نفسه في نيويورك عام 1960، في لقاء حمل بين طياته إدراكًا عميقًا لدروس ذلك الزمن.

واليوم، حين نسمع قادة مثل دونالد ترامب يتحدثون عن "تكاليف الحماية" وضرورة "أن يدفع من تُحتمى دولهم"، ندرك كيف تحولت اللغة السياسية الأمريكية من دفاع عن الشرعية الدولية إلى تجارة بالمواقف والتحالفات.

ترامب لم يكن يستلهم موقف أيزنهاور حين أطلق تهديداته، بل كان يحسب التكاليف بالدولار، لا بمبادئ السيادة والحرية.

ومع ذلك، تبقى قصة عبد الناصر وقناة السويس درسًا خالدًا: أن للحق قوة خفية قد تفرض احترامها، حتى وسط قوى المصالح والصراعات الكبرى، وأن من حقب التاريخ ما يصعب أن يُقاس بمقاييس اللحظة، ، ، !!

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الشؤون الجيوسياسية والصراعات الدولية

[email protected]

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: قناة السویس عبد الناصر

إقرأ أيضاً:

عودة تدريجية للسفن العملاقة.. سفينة الحاويات «CMA CGM OSIRIS» تعبر قناة السويس

تشهد قناة السويس عودة تدريجية لسفن الحاويات العملاقة، حيث عبرت سفينة الحاويات «CMA CGM OSIRIS» ضمن قافلة الجنوب، وتعد أول سفينة حاويات كبيرة تعبر القناة قادمة من مضيق باب المندب منذ شهر مارس 2024، بعد توقف مؤقت لحركة هذا النوع من السفن في ظل التحديات الإقليمية.

وجاء ذلك بفضل جهود هيئة قناة السويس لتشجيع عودة الخطوط الملاحية الكبرى للعبور من القناة.

اقرأ أيضاًقناة السويس تشهد عبور أول سفينة حاويات عملاقة منذ مارس 2024

رئيس اقتصادية قناة السويس يوقع عقد مشروع شركة "أورسا" التركية للمنسوجات الصناعية

مقالات مشابهة

  • فيديو كارثي لسفينة في قناة السويس
  • جنوح سفينة عملاقة في قناة السويس
  • عاجل | كارثة في قناة السويس بسبب اصطدام سفينة بمعدية
  • قناة السويس تبدأ جني الثمار بعد هدوء الأوضاع في البحر الأحمر
  • اصطدام مروع لسفينة RED ZED 1 برصيف ركاب القنطرة في قناة السويس .. فيديو
  • قناة السويس تشهد عبور سفينة الحاويات العملاقة CMA CGM JULES VERNE
  • النهضة العلمية الإيرانية… سلاح السيادة في وجه الهيمنة ومصدر هلع للعدوان الصهيوني-الأمريكي
  • ترسانة الإسكندرية تدشن القاطرة "إسماعيلية 1" لصالح هيئة قناة السويس
  • عودة تدريجية للسفن العملاقة.. سفينة الحاويات «CMA CGM OSIRIS» تعبر قناة السويس
  • بعد توقف هجمات الحوثيين..قناة السويس تستقبل أول سفينة حاويات عملاقة منذ 15 شهرًا