في قلب سلطنة عُمان، يبرز القطاع السياحي كدعامة أساسية تُعزز من النمو الاقتصادي، حيث يستقطب سنويًا أعدادًا كبيرةً من السياح إلى مواقعها الأثرية والطبيعية الخلابة، ومع ذلك تظهر الكثير من التحديات للسياحة التي قد تُسهم في تزعزع العادات المحلية العُمانية، حيث يمكن أن تؤثر الوفود السياحية على العادات المحلية وتقاليد المجتمع.

في هذا الاستطلاع، نستعرض آراء عدد من المختصين لنكشف النقاب عن الآثار السلبية المحتملة للسياحة، وكيف يمكن أن تؤثر على الهوية الثقافية العُمانية، بالإضافة إلى التعرّف على رؤاهم حول كيفية تحقيق التوازن بين الانفتاح السياحي والحفاظ على الموروثات الثقافية.

يقول الدكتور أمجد بن حسن الحاج، أستاذ مشارك بقسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس: تتصف الحياة الإنسانية بالتغير، حيث يمر الناس بتجارب عديدة تؤثر في رؤيتهم وتطلعاتهم وتدفعهم إلى التطور والابتكار، وانفتاح المجتمعات بلا شك يؤثر ويتأثر على عدة مستويات؛ سواء كانت اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، مشيرًا إلى أن السياحة تؤدي دورًا محوريًا في إحداث التغيرات، حيث تُسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال توفير فرص عمل وزيادة الدخل، كما أنها تُحفز الاستثمار في البنية الأساسية مثل: الفنادق والمطارات؛ وتُتيح التبادل الثقافي بين الشعوب، مما يُعزز التفاهم والتسامح، ولكن في الوقت نفسه قد تؤدي السياحة إلى تغيرات في القيم والعادات المحلية نتيجة التأثيرات الخارجية وثقافات المستثمرين والعمال الوافدين، ومن هنا كان لا بد من سنّ القوانين التي تضبط سلوكيات الأفراد المحليين والوافدين في مجال السياحة، حتى يتم الحفاظ على الموروثات الثقافية في المجتمع ونقلها إلى الجيل الذي يليه.

ويضيف: المحافظة على الثقافة تُعد عنصرًا مهمًا في ترسيخ الهوية، وهذه الهوية تُساعد الأفراد في تحديد انتمائهم الوطني والشعور بالمسؤولية تجاه وطنهم، وبشكل عام، انفتاح المحافظات على السياحة يمكن أن يؤدي إلى تغيّرات واضحة في العادات المحلية، لكنه لا يعني بالضرورة تزعزعها بالكامل، موضحًا أن التأثير يعتمد على عوامل كثيرة مثل حجم التدفق السياحي، ومدى تمسك المجتمع بتقاليده، وطبيعة التفاعل بين السكان المحليين والزوار، مشيرًا إلى أن هناك بعض التأثيرات الممكنة التي تطال بعض العادات، منها التغيير في أساليب الحياة، حيث إن بعض العادات قد تتغير مثل أساليب الضيافة، أو بعض الطقوس الاجتماعية، كما يحدث أحيانًا فقدان بعض القيم التقليدية، خاصة في حالات معينة، كأن يكون الضغط السياحي كبيرًا جدًا، مما قد يؤدي إلى فقدان بعض التقاليد، خاصة بين الأجيال الشابة وتأثرهم بعادات دخيلة على المجتمع.

الانفتاح السياحي

من جهته، يقول الدكتور علي بن سعيد عكعاك، أكاديمي وباحث في الإدارة والتنمية السياحية بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بصلالة: الانفتاح السياحي في محافظات سلطنة عُمان يُعد خطوةً مهمةً نحو تنويع الاقتصاد، وتعزيز مكانة البلاد كوجهة سياحية طبيعية وثقافية، ومع ذلك، فإن لهذا الانفتاح تأثيرات اجتماعية لا يمكن تجاهلها، خاصة فيما يتعلق بالعادات والتقاليد المحلية، ومن ناحية التأثير على العادات والتقاليد، يرى البعض أن تزايد أعداد السياح وارتفاع وتيرة الفعاليات السياحية قد أدى إلى نوع من التغيّر في نمط الحياة، خصوصًا في المناطق الريفية أو المحافظة بطبعها، حيث أصبحت بعض المظاهر الثقافية تُقدَّم بشكل تجاري أو ترفيهي، ما قد يُفقدها عمقها الرمزي أو يقلل من قُدسيتها في نظر المجتمع المحلي، كما أدى الاحتكاك المتزايد مع ثقافات مختلفة إلى تغير تدريجي في سلوكيات الشباب ونظرتهم للمجتمع، وهو ما قد يُفهم من قِبل الكبار كتزعزع في التقاليد.

ويوضح الدكتور علي قائلًا: أما بالنسبة لدور المستثمرين والعمالة الأجنبية، فلا شك أنهم أسهموا في هذا التغير أيضًا، لا سيما في المناطق السياحية التي باتت تعتمد بشكل كبير على خبراتهم وخدماتهم، فبعض المشاريع السياحية التي يقودها مستثمرون أجانب قد لا تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الثقافة المحلية أو قيم المجتمع، مما يولد نوعًا من التباعد الثقافي أو حتى الرفض المجتمعي، مضيفًا: إن كثافة العمالة الأجنبية في القطاعين الفندقي والخدماتي تؤدي أحيانًا إلى تهميش الدور المحلي، مما قد يعمّق الإحساس بفقدان السيطرة على المشهدين السياحي والثقافي في بعض المناطق، مضيفًا إنه مع ذلك، يمكن القول إن التحدي لا يكمن في الانفتاح بحد ذاته، بل في كيفية تنظيمه وتوجيهه بما يحفظ الهوية ويعزز الانتماء، مع ضمان تحقيق الفوائد الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.

التنمية السياحية

وفي السياق ذاته، يقول هلال بن سعيد السبتي، مؤسس مركز الاستشارات السياحية: شهدت سلطنة عُمان خلال السنوات الأخيرة نموًا متسارعًا في قطاع السياحة، مدفوعًا برؤية حكومية واضحة تسعى إلى تنويع مصادر الدخل الوطني وتوظيف الإمكانات الطبيعية والثقافية الفريدة التي تتمتع بها البلاد، ومع اتساع رقعة التنمية السياحية في مختلف المحافظات، تبرز تساؤلات جوهرية حول مدى تأثير هذا الانفتاح السياحي على العادات والتقاليد العُمانية الأصيلة، ومدى قدرة المجتمع المحلي على التكيّف مع التحولات الثقافية التي قد تُصاحب النشاط السياحي، مشيرًا إلى أنه وفقًا لإحصائيات وزارة التراث والسياحة، استقبلت سلطنة عُمان في عام 2019 أكثر من 3.5 مليون سائح، مع توقعات بارتفاع هذا الرقم إلى 5.2 مليون سائح في 2025، وهذه الزيادة تعكس نجاح السياسات السياحية في جذب الزوار، لكنها تضع في الوقت نفسه تحديًا أمام المجتمعات المحلية التي تحرص على الحفاظ على هويتها الثقافية والدينية والاجتماعية، وقد انعكس هذا النمو في السياحة على بعض المحافظات مثل: مسقط، وظفار، ومسندم، حيث شهدت هذه المناطق تغيّرات ملموسة في نمط الحياة اليومية، بما في ذلك الملبس، والعلاقات الاجتماعية، والأنشطة الاقتصادية.

ويوضح أن هناك عددًا من التحديات الثقافية التي ظهرت، ومن أبرزها تغير نمط اللباس المحلي، ففي بعض المناطق السياحية بدأ اللباس التقليدي العُماني يُستبدل تدريجيًا بملابس أكثر عصرية، خصوصًا بين فئة الشباب، إلى جانب تأثر اللغة واللهجة، فمع تنامي التعامل مع السياح والوافدين، بدأت بعض الكلمات الأجنبية تدخل في الاستخدام اليومي، ما يهدد بضعف استخدام اللهجات العُمانية، وتراجع بعض العادات الاجتماعية مثل: المجالس الجماعية والاحتفالات المحلية، نتيجة لانشغال الأفراد بالأنشطة التجارية والسياحية.

كما تُظهر البيانات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أن نسبة مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي بلغت 5.2% في عام 2022، مع توقعات بارتفاعها إلى 7.8% في 2025، ويُلاحظ أن النمو السياحي يتمركز بشكل أساسي في المحافظات الساحلية والجبلية ذات الطابع التراثي والجغرافي الفريد، مما يُعزز من فرص التأثر الثقافي في تلك المناطق، موضحًا أن في محافظة ظفار، على سبيل المثال، يقدر عدد الزوار خلال موسم الخريف بأكثر من 800 ألف زائر سنويًا، ومع هذا التدفق الكبير، تظهر تغيرات تدريجية في سلوكيات السكان المحليين، من حيث أنماط الاستهلاك، والعادات الغذائية، وأساليب الترفيه.

ويقول: لا تقتصر التغيرات على السياح فقط، بل تشمل أيضًا الأثر الثقافي والاجتماعي للوافدين العاملين في قطاع السياحة، والمستثمرين الأجانب الذين يجلبون معهم ثقافات وأنماطًا إدارية وتجارية جديدة، ففي بعض القرى التي شهدت تطورًا سياحيًا متسارعًا، باتت العمالة الوافدة تُشكّل جزءًا كبيرًا من التكوين الديمغرافي، مما أحدث تغيرات في أنماط التواصل، والمظاهر الاجتماعية اليومية، ورغم ذلك، فإن التحدي ليس في وجود هؤلاء، بل في مدى قدرة المجتمع على تنظيم هذه العلاقة، بما يحفظ الهوية دون إقصاء الآخر.

ويضيف: يمكن تحويل هذه التحديات إلى فرص عبر تمكين المجتمع المحلي ليقود عملية تطوير السياحة في مناطقه، من خلال إدماج الحرفيين، والمزارعين، والمرشدين المحليين في التجارب السياحية، وتبني مفهوم السياحة المستدامة، التي تضع في أولوياتها حماية البيئة الثقافية والاجتماعية، إلى جانب سن تشريعات سياحية واضحة تنظم العلاقة بين السياح والمجتمعات، وتشترط احترام الخصوصيات الثقافية، وإطلاق حملات توعية وطنية موجهة للسياح لتعريفهم بقيم المجتمع العُماني وأسلوب الحياة المحلي.

واختتم حديثه بقوله: نحو نموذج عُماني أصيل، فالسياحة ليست نقيضًا للهوية، بل وسيلة لتعزيزها ونشرها عالميًا، فالتحدي الحقيقي يكمن في إدارة هذا القطاع بوعي، ووضع الإنسان العُماني في قلب العملية السياحية، فإذا ما تمكنا من تحقيق هذا التوازن، فإن سلطنة عُمان ستكون نموذجًا فريدًا في الجمع بين الأصالة والانفتاح، وبين التنمية والحفاظ على الجذور.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الع مانیة الع مانی ما قد ی ع مانی

إقرأ أيضاً:

هنو يبحث مع وزير الخارجية سبل تعزيز الأنشطة الثقافية بالخارج

كتب- محمد شاكر:

استقبل الدكتور بدر عبدالعاطي وزير الخارجية والهجرة، اليوم الإثنين، الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، حيث أكد خلال اللقاء على الأهمية التي توليها وزارة الخارجية للدبلوماسية الثقافية كونها أحد أدوات القوة الناعمة لمصر وإسهامها في التقارب بين الدول والشعوب، مشيداً بالتعاون القائم مع وزارة الثقافة والهيئات والمؤسسات الثقافية المختلفة لبناء الجسور بين مصر والعالم.

ودار نقاش بين الوزيرين حول سبل تعزيز الأنشطة الثقافية المصرية المختلفة بالخارج والترويج لها من خلال السفارات والقنصليات المصرية في الخارج، وتكثيف المشاركة المصرية فى الفعاليات الثقافية الدولية لتعزيز مكانة مصر دولياً وابراز الحضارة والثقافة المصرية الفريدة.

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

الدكتور بدر عبدالعاطي وزير الخارجية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة الأنشطة الثقافية بالخارج

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة

مقالات مشابهة

  • خالد بن محمد بن زايد يزور القرية الثقافية والتراثية في أستانا
  • هنو يبحث مع وزير الخارجية سبل تعزيز الأنشطة الثقافية بالخارج
  • وزير الخارجية يؤكد على الأهمية التي توليها الوزارة للدبلوماسية الثقافية
  • محافظ بني سويف يتفقد مشروع المرسى السياحي على الساحل الشرق لنهر النيل
  • كتابات وقصائد وأعمال تشكيلية:صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية
  • «عالم ديزني - أبوظبي» يضاعف الطلب السياحي في الإمارات
  • حملة نظافة عين كليوباترا بمشاركة عدد من العاملين في مجال السياحة بسيوة
  • بالفيديو.. خطوة خطيرة قد تنسف الموسم السياحي
  • انفتاح اقتصادي محتمل بين سوريا وأوروبا بعد زيارة الشرع باريس
  • «رؤية عُمان 2040» ... الهوية الثقافية والإبداعية