جاك روبنيك

ترجمة : أحمد شافعي

«هل أنت منشق؟» كذلك سأل أحد الصحفيين ميلان كونديرا وقد أصبح منفيا في فرنسا من وطنه تشيكوسلوفاكيا في منتصف السبعينات من القرن الماضي. فرد صاحب رواية (الوجود الذي لا تحتمل خفته) قائلا: «لا، إنما أنا كاتب». ولم تكن تلك الإجابة عدم اكتراث منه بمحنة من كانوا يعارضون النظام الحاكم في بلده من الداخل، ولكنه كان يخشى أن تلتصق لافتة سياسية برواية، وبصفة أعم بأدب ذي رسالة، وبفن في خدمة فكرة سياسية.

غير أن كونديرا، الذي توفي الشهر الماضي، كان صاحب أفكار، وكان يستكشفها بصفة خاصة في مقالاته، وأكثرها تأثيرا هي (الغرب المخطوف: مأساة أوروبا الوسطى) المنشورة في باريس سنة 1983 والمعاد نشرها بالإنجليزية في وقت سابق من العام الحالي. ذهب كونديرا إلى أن أوروبا الوسطى تنتمي «ثقافيا إلى الغرب، وسياسيا إلى الشرق، وجغرافيًّا إلى الوسط». ولقد كان مأزق البلاد الصغيرة الواقعة بين روسيا وألمانيا هو أن وجودها لم يكن «واضحا بذاته»، لكنه بقي مرتبطا بحيوية ثقافتها، ومتضافرا تاريخيًّا مع تاريخ الغرب الذي «تم اختطافه» منه في عام 1945.

تحدى كونديرا، بوضعه أوروبا الوسطى مرة أخرى على الخريطة، ما كان سائدا آنذاك من مفاهيم خاطئة عن المنطقة التي لم تكن تُرى إلا من خلال منظور سيادة الانقسام الأيديولوجي الشرقي-الغربي. أثارت تلك المقالة التأسيسية جدالا عمَّ أوروبا كلها في الثمانينات وأسهم بتغير لم يقتصر على مفهوم المنطقة لنفسها بل امتد ليشمل الخريطة الذهنية للقارة في أوروبا الغربية.

وكان من العناصر الرئيسية في هذا التغير إعادة اكتشاف التركات الثقافية المتنوعة لأوروبا الوسطى. لكن القضية الأكثر خلافية في جدال الثمانينات تعلقت بعلاقة المنطقة بروسيا التي كانت ـ وتبقى ـ بالنسبة لها «الآخر التأسيسي» (في مقابل الآخر الثاني وهو ألمانيا) الذي تتحدد بالمقابلة معه الهويات والحدود في أوروبا الوسطى.

ومن أدل ما يوضح تضافر الهويات الثقافية مع الهويات السياسية (بما له من أصداء مع النقاشات الراهنة لما بعد الكولونيالية) ما يمكننا العثور عليه في جدال لا ينسى جرى في لشبونة سنة 1988 وشارك فيه كتاب من أوروبا الوسطى (منهم تشيسلاف ميلوش وجيورجي كونراد) ومن روسيا. وبرغم غياب كونديرا فيزيقيا عن ذلك النقاش، فإن مقالته كانت جزءا كبيرا منه. انتقد جوزيف برودسكي ـ الشاعر المنفي من لينينجراد ـ مفهوم كونديرا لأوروبا الوسطى واعتبره مجتمعا متخيَّلا عديم الجوهر:

«باسم الأدب، ما من شيء اسمه ’أوروبا الوسطى’. ثمة أدب بولندي، وأدب تشيكي، وأدب سلوفاكي، وأدب صرب كرواتي، وأدب مجري، وهلم جرا. ومن المستحيل أن نتكلم عن هذا المفهوم حتى باسم الأدب. فهو منطو على تناقض لفظي».

ميلوش: Divide et impera [فرِّق تسد]. هذا مبدأ استعماري، وأنت تناصره.

برودسكي: فرِّق تسد، من أي وجه يا تشيسلاف؟ أنا لا أفهمك...هل يمكن أن تكون أكثر تحديدا؟

ميلوش: مفهوم أوروبا الوسطى ليس اختراعا من كونديرا. يسيطر عليك هاجس بأنه اختراع من كونديرا. إطلاقا. أوروبا الوسطى مفهوم مناهض للسوفييت مستلهم من احتلال هذه البلاد...وإنني أخشى أن في الأدب الروسي بلا شك تابو وذلك التابو هو الإمبراطورية.

خلال ثمانينات القرن الماضي انتقلت فكرة أوروبا الوسطى من الثقافة إلى السياسة، من «لحظة كونديرا» إلى «لحظة هافل» Havel، فمهدت الأرض بذلك إلى التحرر من الحظيرة السوفييتية.

وبعد مضي 40 سنة، فإن ترجمة مقالة كونديرا في غضون سنة إلى نحو عشرين لغة (أحدثها التايلندية والكورية) لظاهرة تشير إلى اكتساب المقالة أهمية جديدة في سياق مرتبط بحرب أوكرانيا وعودة «السؤال الروسي».

كانت حجة كونديرا في عام 1983 هي أن روسيا تمثل «حضارة أخرى» ترتكز تاريخيا على صعود الدولة الإمبريالية الأوتقراطية التي اندمجت فيها السلطة الدينية بالسلطة السياسية تاركة مجالا ضئيلا أو لا مجال بالمرة للمجتمع المدني والاستقلال الذاتي للمجال الثقافي، وهما شرطان من شروط الحرية مثلما فهمها الغرب.

لقد ارتبطت «أَوْرَبَة» روسيا بتوسعها غربا في أوروبا. ومن هذا المنظور كانت روسيا السوفييتية استمرارا لروسيا الإمبريالية عبر طرق أخرى (وإن تكن في بعض الأحيان طرقا مماثلة). ونسخة بوتين تقدم مركَّبا من الاثنتين.

تتعلق حرب روسيا على أوكرانيا بما لم يكتمل من الأعمال ومجالات النفوذ ما بعد الامبريالية. وتتعلق أيضا بحدود أوروبا الثقافية والسياسية الحقيقية والمتخيَّلة، ومنها النادرة القديمة عما يشكل أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية.

السبب الثاني لتجدد الاهتمام بمقالة كونديرا هو أوكرانيا ذاتها. فلقد أصبحت روسيا ـ بشنها الحرب ـ هي الآخر التأسيسي للأمة الأوكرانية التي تعيش الآن قدر «الأمم الصغيرة في أوروبا الوسطى» ـ على حد وصف كونديرا ـ التي لا يمكن اعتبار محض بقائها أمرا مسلَّما به. وهذا القلق الوجودي ليس مسألة أرقام. فلأسباب تاريخية اشترك في هذا المأزق مليونان من لاتفيا، و10 ملايين من التشيك، و40 مليونا من الأوكرانيين، بما بينهم بطبيعة الحال من اختلافات. وكانت حرب بوتين بمثابة حافز، وأوكرانيا اليوم ترى نفسها جزءا من «الغرب المخطوف».

وفيما تعيد الحرب تعيين الحدود والهويات السياسية، فإن ثمة من يذكرنا بأن لفيف كانت لفوف قبل الحرب العالمية الثانية وليمبرج قبل الحرب العالمية الأولى وأن جزءا من أوكرانيا كان جزءا من أوروبا الوسطى حسبما فهمها كونديرا. واليوم لا تنحو لفيف وحدها إلى الغرب وإنما أوكرانيا كلها، والغرب الأقرب إليها هو أوروبا الوسطى. ومن مفارقات التاريخ أن أوروبا الوسطى ـ التي وصفها كونديرا يوما بالغرب المخطوف ـ تعيد تعريف نفسها إذ تتسع لأوكرانيا، أي إذ تتوسع باتجاه الشرق.

جاك روبنيك أستاذ البحوث بمعهد العلوم السياسية في باريس.

عن صحيفة الجارديان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی أوروبا

إقرأ أيضاً:

رسائل قوية من قمة الناتو.. دعوات لحماية السلام وإنهاء الحرب في أوكرانيا

أفادت قناة القاهرة الإخبارية بأن رئيس وزراء هولندا شدد خلال مشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، على أن السلام لم يعد أمرًا بديهيًا في العالم المعاصر، مؤكدًا ضرورة العمل المشترك بين الدول الأعضاء لحمايته وضمان استمراره.

وزير الخارجية الأمريكي: إيران تراجعت كثيرًا عن حيازة السلاح النوويجروسي: إيران أبلغتني باتخاذ إجراءات وقائية بشأن مخزون اليورانيوم المخصبالطاقة الذرية: عودة مفتشينا إلى إيران "أولوية قصوى"

وقال رئيس الوزراء إن المخاطر الأمنية المتزايدة تتطلب من الجميع اليقظة والتعاون، مشيرًا إلى أن التحديات الجيوسياسية الحالية تُظهر هشاشة الاستقرار الدولي.

أمين عام الناتو: على روسيا إنهاء الحرب في أوكرانيا فورًا

من جانبه، دعا الأمين العام لحلف الناتو روسيا إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، مؤكدًا أن استمرار العمليات العسكرية يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الأوروبي والعالمي.

وأضاف في تصريحاته خلال الجلسات الرسمية للقمة أن "الناتو لا يسعى إلى التصعيد، لكن مسؤولية إنهاء الحرب تقع على موسكو التي بدأت هذا الصراع".

كما أكد الأمين العام أن الحلف يعمل بشكل مكثف على دعم أوكرانيا عسكريًا وسياسيًا، في سبيل تحقيق "سلام عادل ومستدام"، مشددًا على أن الدعم لا يقتصر على الجوانب العسكرية فقط، بل يشمل أيضًا إعادة الإعمار وتعزيز المؤسسات الأوكرانية.

وأكد الأمين العام للناتو أن "أي هجوم على دولة عضو في الحلف يُعتبر هجومًا على الناتو بأكمله"، في إشارة إلى تطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تنص على الدفاع الجماعي في حال تعرض أي دولة عضو لهجوم خارجي.

طباعة شارك قناة القاهرة الإخبارية رئيس وزراء هولندا التحديات الجيوسياسية الأمين العام لحلف الناتو

مقالات مشابهة

  • روسيا: إسطنبول لا تزال المنصة الرئيسية للمفاوضات مع أوكرانيا
  • قمة أوروبية في بروكسل تبحث دعم أوكرانيا واتفاق الشراكة مع إسرائيل
  • العدوان على إيران.. ترجمة لهلع الغرب من جبهة لا تركع
  • ترامب يدعو بوتين لإنهاء الحرب ويتحدث عن تزويد أوكرانيا بمنظومات باتريوت
  • أوكرانيا.. قمة الناتو تناقش كيفية إجبار ‎روسيا على إنهاء الحرب
  • رئيس فنلندا يعترف: زمن هيمنة الغرب انتهى
  • رسائل قوية من قمة الناتو.. دعوات لحماية السلام وإنهاء الحرب في أوكرانيا
  • الرئيس الروسي يتواصل هاتفيا مع نظيره البيلاروسي
  • رماة بوتين السود في أتون حرب أوكرانيا
  • الفيتو الأبدي للغرب على الطاقة النووية العربية والإسلامية