القرّاء خلف المعرض أمام المكتبة
تاريخ النشر: 10th, May 2025 GMT
تفيد إحصائيات المنظمين إلى أن زوار معرض مسقط الدولي للكتاب لهذا العام يقارب الـ٦٥٠ ألف زائر، بينما أقفلت خلال الأعوام القليلة الماضية، على حد علمي، مكتبتان عمانيتان نشطتان، مكتبة لوتس ومكتبة يوم القراءة ٢٣/ ٤، وعن الأخيرة كتبت الكاتبة أمل السعيدي مقالًا مؤثرًا، كما وسمعت أن مكتبة ثالثة في طريقها إلى الإغلاق، فأين الخلل؟
المكتبات بالعادة هي وجهة القارئ الأولى، ولكن نمطا مختلفا ساد معنا، فأصبحت المعارض السنوية هي وجهة القارئ العماني، سواء معرض مسقط أو الشارقة، وذلك له عدة مسببات قديمة رسّخت مثل هذا التقليد غير العملي حتى للقراءة نفسها، هكذا صارت عادة القارئ العماني أن يتزود من الكتب حاجته لعام كامل من المعرض، لأنه لن يجد الكتب التي يبحث عنها بقية أيام السنة، مع كل ما يحمله ذلك من نمط الاستهلاك وإرهاق الميزانية الشهرية وضعف التقديرات وخيبة التوقعات.
على الأرجح فإن من المسببات التي رسخت مثل ذلك التقليد قلة المكتبات التي يستطيع القارئ أن يقصدها وأن يقتني منها الكتاب الذي يعجبه، ويوافق ذوقه، فقد كانت الكتب مفروضة فرضا كأنها منهج قرائي، وحين يتوجه القارئ إلى المكتبات يجد نمط الكتب الكلاسيكية الدينية في أغلبها، بطريقتها المكررة ودربها المعروف سلفًا، أما الكتب الأخرى، تلك التي تفتح حدود حرية القراءة وتلبي فضول الاكتشاف لدى القارئ، وترعى لديه عادات تفكير جديدة وتقترح أسئلة حية، فكانت مفقودة من تلك المكتبات على قلتها، وقلة المكتبات له أسباب عديدة لكن لا يمكن أن نخلي دور الرقابة.
كانت الرقابة تقليدية ذات أفكار عتيقة عن القراءة، وأتمنى أنها لم تعد كذلك، وبشكل عام ساد مناخ متوجس من القراءة، وما يمكن أن تسببه القراءة الحرة في أفكار المجتمع، فكانت الكتب تصادر على المنافذ الحدودية، ويطلب من صاحبها مراجعة وزارة التراث سابقًا وهي عملية مضنية بلا جدوى، وأغلب الكتب التي وصلت للداخل إنما تمت عبر عمليات تحايل يمكن أن نطلق عليها «تهريب الكتب»، على ما في العبارة من سخرية مريرة.
في تلك الفترة انطلقت في التسعينات ظاهرة المعرض السنوي للكتاب، ولا زلت أحتفظ بذكرياتي الخاصة بمعرض الكتاب الذي أقيم بداية التسعينات في فندق الشيراتون روي، أما الكتب التي اقتنيتها فقد فقدتها؛ عبر تلك المعارض السنوية، استطاع القارئ العماني ومجتمع القراء، كل على حدة وفي جماعات صغيرة، أن يشقوا طريقهم المغلق، وأن يفتحوا نافذة في جدار الرقابة، الرسمية، والاجتماعية المتسلحة بالرقابة الدينية، وأن يشقوا طريق اكتشافاتهم الحرة في عالم الكتب، مستعينين بتلك المعارض السنوية، وبالكتب التي يقتنون في أسفارهم أو يوصون بها أصدقائهم، رغم عشوائية الاختيارات وسوئها في أحايين كثيرة، فقد كان سوق الكتب، العربية خاصة، سوقًا بها الكثير من التقليد، والكتب المسروقة، والمنهوبة بلا حقوق أصحابها، وقد اشتهرت بذلك بعض الدور حتى ما عادت تخجل من فعلها.
أما المكتبات العامة وهي وجهة رئيسية فكانت قليلة هي الأخرى وبعيدة، وفيما عدا مكتبة جامعة السلطان قابوس بطابعها الأكاديمي، كانت بقية المكتبات العامة تتبع في الغالب النمط الكلاسيكي الديني السائد، ولا تزيد غير رفع السياج على القارئ الحر، وكانت زيارة واحدة لأي مكتبة من تلك المكتبات كافية لإشعار القارئ بالخيبة، أو لمحاولة إغراقه في أكوام كتب شكلية، لا تسعف الحرقة المعرفية الداخلية التي يتوق إليها، وعلى الأرجح كان ذلك من تأثير الجو الرقابي العام، لما يمكن وما لا يمكن قراءته، وكان ذلك نجاحًا نسبيًا لأساليب الرقابة السلطوية، التي تتوق للسيطرة والتحكم، حتى بنطاق الأفكار والأساليب والفن والأدب، لكن الطبيعة تتغلب في النهاية.
هكذا رغم تلك الصعوبات كلها والحصار استطاع القراء أن يشكلوا ذائقة قرائية مختلفة، غير متوقعة من أنماط الكتب السائدة، وكان في ذلك الكثير من حماسة الشباب، ومن رغبة الإنسان الفطرية في الخروج من الإطار المغلق، وبالمحصلة نستطيع القول اليوم، استنادا إلى نتاج الكتاب الذين خرجوا من مجموعة القراء تلك، أن أولئك القراء كانوا الجنود المجهولين في معركة المعرفة، وأنهم انتصروا لصالح القراءة الحرة، ولصالح الثقة بقدرة القارئ على تمييز الكتاب الرديء من الكتاب الجيد، والكاتب الحقيقي من الكاتب المتوهم، كما واستطاعوا الخروج من حظيرة المجتمع الأبوي وسلطاته، لصالح اكتشاف طرقهم الخاصة، عبر اتباع التجربة العملية، إلى الوصول إلى ما يدعوه زهير بن أبي سلمى مطمئن البر.
لكن رغم أن القراء نجحوا في شق طريقهم فإن المكتبات لم تتمكن من مواكبة خطاهم، ولا مسايرتهم بشكل يخلق نمطًا آخر غير نمط الشراء السنوي للكتب، فكانت مشاريع المكتبات تتعثر، ولعل ذلك يعود إلى أن الرقابة عليها، بوصفها أنشطة تجارية، كانت أكثر من الرقابة على الأشخاص، فكانت لا تجد غير المضايقات ومنع الكتب، والخسائر المستمرة، أو لعل لذلك أسبابًا أخرى يعرفها أصحاب تلك المكتبات أكثر منا كقراء.
مع ذلك فإن أولئك القراء أنفسهم التحموا بكل مكتبة قامت، وحاولوا، كل بطريقته، أن يدعموها ماليًا ومعنويًا بشكل تطوعي، فقد كان صاحب كل مكتبة من تلك المكتبات واحدًا منهم في النهاية، وتصرف هؤلاء القراء بعفوية ودون تنظيمات لا وجود لها، فلا جمعية تجمعهم، وما من إطار أو هيئة تضمهم، لكنه كان يتبع الحس الإنساني المشترك، فكان يدعم تلك الأحلام الصغيرة في محيطه ويتمنى أن يراها تكبر، وكان كل واحد منهم ينكسر من كل عثرة تصيب تلك المشاريع، ويتألم مع كل انهيار، فمعارض الكتب السنوية لا تستطيع أن تشكل ديمومة نهر قرائي مستمر، بل هي بطبيعتها موسمية، والكتب أقرب للماء، يحتاج الإنسان القارئ وجودها جارية باستمرار، في حديقة المعرفة، وبشكل عام كان إنشاء المكتبات لا يتبع صيرورة اقتصادية فاعلة بقدر ما يتبع رغبة داخلية لدى صاحب المكتبة نفسه، وحلمًا يظل يقاتل من أجله، ومن جهة أخرى استطاعت مكتبات أخرى أن تصمد، مع أن ذلك الصمود كان له علاقة بتوجهات أصحابها القرائية، وتحولت مكتبات منها إلى النشاط الرائج لدينا للمكتبات وهو القرطاسيات ولوازمها.
ظل الوضع على ما هو عليه حتى تمكنت بعض مشاريع المكتبات في العقد الثاني من هذا القرن أن تفك عقدة المكتبة العمانية، مثل مكتبة روازن، في محاولة لإعادة المياه لمجراها الطبيعي، رغم أن هذا تزامن مع دخول التقنية إلى قطاع الكتب، ومحاولة بعض الشركات العالمية الدخول بأفرع مكتباتها، وما زالت المكتبات الجديدة تشق طريقها، بجهود أصحابها وجديتهم، ومجموعة القراء، خاصة الجدد منهم، الذين يعيدون العلاقة إلى نصابها الصحيح، وهو المفترض لتغيير نمط الشراء السنوي نحو شراء مستمر وتوفر الكتب المرغوبة فور صدورها من دور النشر، وعلاقة صحية أوثق بين القارئ والمكتبة، لا بين القارئ ودور النشر.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: تلک المکتبات الکتب التی المکتبات ا
إقرأ أيضاً:
من أصول أفريقية .. ترامب يقيل مديرة مكتبة الكونجرس
أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارا بإقالة كارلا هايدن مديرة مكتبة الكونجرس، أول امرأة وأول أمريكية من أصل إفريقي تتولى هذا المنصب الرفيع.
ويُشار الي ان هايدن إشعارا تلقت رسميا من البيت الأبيض في الساعة 6:56 مساء يبلغها بإنهاء خدماتها الفوري.
وجاءت الرسالة التي وقعها نائب مدير شؤون الموظفين الرئاسيين ترينت مورس: "نيابة عن الرئيس ترامب، نعلمك بإنهاء خدماتك كمديرة لمكتبة الكونجرس فورا، مع الشكر على خدمتك".
وكانت هايدن، التي عينها الرئيس السابق باراك أوباما عام 2016، قد حصلت على تأييد ساحق من مجلس الشيوخ بأغلبية 74 صوتا مقابل 18 فقط. وكان من المقرر أن تنتهي ولايتها التي تستمر عشر سنوات في 2024.
وتعد مكتبة الكونجرس أكبر مكتبة في العالم من حيث المساحة وعدد الكتب، وتلعب دورا محوريا في حفظ التراث الفكري الأمريكي.
ويأتي قرار الإقالة في وقت تشهد فيه الولايات المتحدة جدلا واسعا حول حرية التعبير وحقوق الأقليات.