” الحذر”.. السلاح الحاضر في معارك اليمن
تاريخ النشر: 14th, May 2025 GMT
أقول معارك، لأن اليمن قد فُرضت عليه في العقد الأخير جملة من المعارك وذلك بعد انتصار ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر ٢٠١٤م.. حيث خاض اليمنيون معركة الداخل مع المرتزقة أدوات الخارج، ولا تزال هذه المعركة مفتوحة لم يطو ملفها.. ومعركة مع تحالف العدوان السعودي الإماراتي ولفيفهم وهي المعركة التي وإن سكتت إلا أنها انتقلت إلى طور التآمر والتربص والكيد وإثارة الفتن…وأما معركة اليمن الثالثة، فكانت مع ثالوث الشر ( أمريكا وإسرائيل وبريطانيا) وهذه هي المعركة الأصيلة التي تحدث عنها السيد الشهيد القائد .
هذه ثلاث معارك خاضها ويخوضها اليمنيون على مدى السنوات العشر الأخيرة.. ناهيك عن المعركة الثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية.. ومعركة الحفاظ على النسيج الاجتماعي الذي تتميز به اليمن وتطهيره من لوثات النظام البائد.. وتأهيله من جديد للاستمرار في خوض معركة اليمن نحو الحرية والاستقلال والقوة.. ودفن سياسة التبعية والوصاية إلى الأبد…
إذن هي معارك متعددة كان على الثورة الشعبية اليمنية أن تخوضها وقد فعلت ذلك بكل شجاعة واقتدار متوكلة على الله وواثقة به وعاملة بحكمه وماضية بالإنسان ليكون إنساناً قرآنيا…
ونحن الأمة المسلمة التي كتب الله عليها الجهاد بمضمونه القرآني، حيث يمثل القتال شعاعا مركزيا فيه ..هي من كتب عليها إعداد العدة بقدر الاستطاعة كمقدمة ضرورية لفريضة القتال من جهة.. والتي بقدر ما يستخدم فيها السيف كذلك يستخدم الدرع.. وفوق هذا يأتي الإعداد وسيلة وأسلوبا يراه العدو، فيترك في نفسه أعمق الأثر بحيث يكون كافيا لردعه وهذا هو معنى الإرهاب القرآني.. وهو أن تجعل عدوك يرهبك فيكف عن عدوانه وحتى التلويح به.. ويحسب لذلك ألف حساب.
ومن جملة الأسلحة التي امتلكها اليمن وأدارها باقتدار سلاح ” الحذر ” .. وهو السلاح الذي أكد عليه الله سبحانه في كتابه العزيز ..وجاء هذا التأكيد بصيغة الأمر للدلالة على أهمية هذا النوع من السلاح ومكانته في معركة الحق مع الباطل.. قال تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم..” النساء ٧١، وقد فسره البعض بأنه ما يحذر به وهو آلة الحذر كالسلاح .. وهذا بعيد بلحاظ قوله تعالى في صلاة الخوف من نفس السورة : “.. وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم…” النساء ١٠٢، فجعل الحذر شيئاً آخر غير السلاح …وهو ما عبَّر عنه في اللهجة اليمنية بـ( مدري)…..
إن الحذر هو توقي المكروه بالأسباب الممكنة المشروعة.. فهو سبب شرعه الله وأوجبه لتوقي المكروه.. وهذا المعنى شبه غائب عن ساحة أحكام الشريعة المتداولة..
وأرى أن الحذر هو معركة يخوضها المرء مع نفسه لترويضها وتربيتها وتخليصها من أمراض حب الظهور والرئاسة والتفاخر والغلو في ردات الفعل، والثرثرة وشهوة الكلام، وعدم الصبر على كتم السر، واللا مبالاة، والاسترخاء، والاستهتار بقدرة العدو، واعتياد الأشياء بالروتين والركون إليها، وغيرها من الأمور التي يتخذها العدو مصادر للمعرفة والاستطلاع..
ومن هنا يأتي سلاح الحذر (الأمن الوقائي) حائلا بين العدو وبين أن يسمع أو يبصر أو يحيط بأمر من الأمور التي تخص الوطن وتكون مدخلا لتوظيفها في معركته معه…
وقد وفق الله المجاهدين في اليمن لامتلاك هذا السلاح الاستراتيجي وتوظيفه أحسن توظيف في معركتهم مع الطاغوت، وكشفت سنوات الحرب الطويلة ولا سيما الأخيرة منها عن قدرة المجاهدين على ذلك بخلاف ما رأينا في ساحات جهادية أخرى كغزة ولبنان على سبيل المثال، حيث رأينا الاختراقات والنتائج الكارثية جراء إهمال هذا السلاح وعدم إعطائه حقه من الوجوب والحضور…
ولا شك أن طبيعة الإنسان اليمني الحذرة بلحاظ الحياة الاجتماعية اليمنية التي زخرت بالصراعات والخلافات القبلية والسياسية، كان لها الدور المهم في تكوين هذا الإنسان، لكن إحياء الشعور بالمسؤولية الجمعية كان الأهم في صناعة ظاهرة الأمن الجمعي في اليمن وعدم حصر هذه المسؤولية في وظيفة أجهزة الدولة، وهذا نادر الحدوث في بلداننا نظرا للعلاقة السيئة التي تجمع بين أفراد الشعب وهذه الأجهزة وخاصة الأمنية منها…
إن الحذر هو من نوع سلاح الوقاية والدفع وقد قيل : ” درهم وقاية خير من قنطار علاج “، وحين أخذ بهذه القاعدة في اليمن، رأينا كيف أن العدو صار يخبط خبطاً عشوائيا في عدوانه، ورأينا إفلاسه في تشخيص الأهداف وفي نتائج ضرباته العدوانية التي انصرفت للأعيان المدنية والبنى التحتية بعد يأسه من الوصول لأهداف عسكرية تفرضها قواعد الاشتباك في الحروب..
كذلك هو سلاح لا ينفك عن الحضور، ليس في وقت الحروب فحسب، بل لعله في وقت السلم أكثر ضرورة وحاجة، ومنه الأمن الاقتصادي والسياسي والصناعي….إلخ.
وبعبارة…فإن قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله” استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان “، وفعله وسيرته، كما في رحلة الهجرة، وكما كان يوري بالغزوة فلا يكشف عن وجهتها، وكيف أنه عد مجرد إشارة من أبي لبابة يوم بني قريظة خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، وقصة الظعينة التي حملت رسالة إلى قريش قبيل الفتح، وهذا كثير، ولست مبالغا حين أقول إنه ما كان أحد أكثر حذرا من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله في تحركه وغزوه وسراياه وخططه ونواياه….
ولقد اعترف العدو بأن معركته مع اليمن كانت هي الأعقد والأكثر ارتباكا واهتزازا في تاريخ حروبه منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، لدرجة تشبيهه لليمنيين بالأشباح وبالصندوق الأسود، رغم إمكاناته التجسسية الاستثنائية..
وهذا فضل من الله تفضل به على جبهة اليمن الداخلية، إذ جعل ثوبها من نسيج يصعب اختراقه فضلا عن تمزيقه، وزودها بالوعي والبصيرة القرآنية المستمدة من كتاب الله عز وجل ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ومن النور الذي يمشي به السيد القائد (حفظه الله) في الناس، ومن المجاهدين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وذابوا في قرآنهم ورسولهم وقائدهم، فكان اليمن بهذا نعم الشعب، ونعم القائد، ونعم المنهاج….
كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
هُويَّتنا التي نحنو عليها
د. صالح الفهدي
في ثلاث فعالياتٍ متتالية: (ملتقى الإرشاد الثاني لوزارة التربية والتعليم، وندوة الإعلام والهوية بجمعية الصحفيين، وجلسة حوارية في جامعة السلطان قابوس)، دُعيتُ للحديثِ عن الهُويَّةِ، والسَّمت العُماني، فما هي المؤشرات التي يمكن التوقُّف عندها إزاءَ هذا الحديث الطاغي عن الهوية، والاهتمام المُتزايد؟!
الهُويَّةُ أولًا هي رأسُ مال كل أُمَّة، فبها تتميَّز، وبها تُعرف، فإِن أصابتها الهشاشة فهي كالغزْل المنكوث، المشعَّث، بعد أن كانت ثوبًا متراصَّ الخيوط، زاهي النسيج، أنيقًا المظهر، وهذا ما حذَّر منه رئيس محكمة سابق التقيتُ به في مناسبة قريبة قائلًا: إن لم نتدارك ما يحدث لهويَّتنا فستنفلتُ منَّا.
هذا هو سرُّ الاهتمام المتزايد بالهويَّة لأنَّ الرشداء من قامات ورموز المجتمع باتوا يُدركون أنَّ المؤشرات الاجتماعية في أصعدةٍ مختلفةٍ تشي بمهدِّدات جسيمة؛ فالأفكار الغَازِيَة تُعيدُ بصمتٍ تشكيل الهويات بعد أن تقوم بتفريغ أوعيتها الثقافية رويدًا رويدًا وذلك من خلال تغيير المبادئ والقيم والقناعات ثم- وبصورة تلقائية- تتغيَّر الأخلاقيات والسلوكيات فيصبحُ الإنسان غريبًا في موطنِ آبائه وأجداده؛ أوليس الذي يتحدَّثُ اليوم باللغة الإنجليزية مفضلًا إيَّاها عن لغته العربية الأم غريبًا في موطن آبائه وأجداده الذين لهج لسانهم بالعربية طوال أدهرٍ مديدة؟!
في إحدى الفعاليات التي أقامتها إحدى الجامعات قالت لي مشاركةٌ: إنَّ أعظم خطر نواجهه هو العولمة، قلتُ لها؛ بل الخطر الأعظم الذي نواجهه هو نحنُ؛ فالعولمة في محصلتها سلَّة ثقافية محشوَّه بمجموعة أفكار إن استطاعت هذه الأفكار أن تخترق عقولنا وتؤثِّر عليها فليس ذلك لقوة نفوذها، وإنما لضعفنا، وهذا ينسجم مع مقولة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال ذات يوم لقائدٍ من قادة جيش المُسلمين: إِن هُزمتَ فليس لقوةٍ في عدوك، وإنَّما لضعفٍ فيك!
إننا حين نتخلَّى عن القواعد الأساسية في بناء شخصياتنا، فإنَّ هذه الشخصيات سترضى بكلِّ ما هو هزيل ورخيص، وهذا مؤشِّرٌ على الذلَّة والاستكانة والدنيَّة، أمَّا حين نتمسَّك بكل قيمةٍ عليَّة، وكلَّ خُلقٍ رفيعٍ فإننا سنحصِّن أنفسنا من أي اختراقٍ يريد أن يفرغ عقولنا من محتواه، ليعيد شحنها بما يراه موافقًا لغاياته ومقاصده، وهذا لبُّ الهوية التي يقول عنها المفكر عبدالوهاب المسيري: "الهويَّة الحقيقية لا تقوم على الشعارات؛ بل على إدراك الإنسان لموقعه في التاريخ، ولرسالته في الوجود".
كما أننا حين نسمح للتافهين بأن يُهيمنوا على المشهد الاجتماعي ويقودوا المجتمع إلى بعض المفاهيم التي تتجانس مع مقتضيات الاستهلاك، والسخافة -وهذه وسائل الفكر المُعَوْلَم- فإننا نساعدُ على طمس القدوات الصالحة في المجتمع من جانبٍ آخر دون أن نشعر بذلك، لكن هذا ما يحدث؛ لأننا نمنح المساحة الواسعة من الاهتمام لتافهين في الوقت الذي نسهم فيه على وَأْدِ المُصلحين في المجتمع، والذين لا يقوم أي مجتمع سليم ولا يستمر إلّا بفضل فكرهم، وجهودهم.
مسألة انتباه المجتمع لما يهدِّدُ هويته هي مسألة مهمة جدًا، ومؤشِّر إيجابي على وعيه، ولكن في المقابل لا يجب أن يكون هذا الانتباه متوقفًا عند حدود التذمُّر والشكوى؛ بل يجب التحرُّك عمليًا ببرامج ما فتأنا ندعو لها منذ سنوات؛ لأن العمل الثقافي يحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ مصاحبٍ بصبرٍ، ونفاذِ بصيرة.
علينا أن نبقى مُنتبهين، كانتباهةِ حُرَّاس الثغور، في الوقتِ الذي نعمل بلا كللٍ أو مللٍ من أجل تحصين هويَّاتنا بما يُبقيها قوية أمام كل ريحٍ عاتيةٍ تريد اقتلاعها من الجذور.
رابط مختصر