يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) صدق الله العظيم.
كما ورد في الأثر- وإن كان فيها اختلاف كبير- إلا أن البعض يرددها، وهي أن «الفتنة نائمة، لعن الله مَنْ أيقظها»، بالمقابل هناك رأي آخر من البعض يرى بأن «الفتنة لم تكن يومًا نائمة»، ومؤيدو هذا القول يؤكدون بأنها لا تنام أبدًا من منطلق أنها تعمل ضد الناس، وإذا كان لها من غفوة فهي غفوة في عقول البشر وليس في مكان آخر.
وقد اجتهد الكثير من العلماء والفقهاء وحتى بعض المفكرين في الحديث عن «الفتنة» وأثرها في حياة الناس، وشرحوا الأضرار النفسية المدمرة التي تصيب شظاياها مسافات بعيدة، واتفق عدد كبير منهم على تعريفها بأنها «كل ممارسة من شأنها إلحاق الظلم بالناس أفرادًا وجماعات»، وخص البعض «الظلم» على اعتباره هو رأس الفتنة وهو عنوانها الأبرز الذي يغذي مساحة شاسعة من النفوس بسماد الضغائن، وتحته تندرج ممارسات كثيرة تفتن الناس عن طريقها، وتقلق حياتهم وتحيلها إلى جحيم لا يُطاق، خاصة إذا تناولت بعض الأماكن الحساسة والمهمة في عمق العلاقة ما بين الإنسان ومجتمعه، أبرزها أماكن العرض والشرف والأمانة.
ومن المتعارف عليه بأن «الظلم» وإلقاء التهم بالآخرين يلحق ضررًا بعلاقات الناس بعضها ببعض، فالفتنة أشبه بالوشاية تعمل بنفس القوة والتأثير، فكم من واشٍ فرّق القلوب المجتمعة المترابطة، وهنا نذكر أمرًا مهمًا وهو «أن سليم القلب الذي يخشى الله يؤتمن حتى في عداوته، ومرضى القلوب لا يؤتمنون حتى في صداقتهم».
فالفتّان يحاول أن يحابي البعض ويفرّق الآخرين ليصفو له الجو والتقرب من أصحاب المصلحة، وهو بذلك يهضم حقوق الناس وامتيازاتهم وما يمكن أن يتمتعوا به في هذه الحياة، فبعض الناس يسخّر طاقته في أعمال الشر بحيث لا يرى الآخر نورًا في آخر النفق، بل كل الأشياء مظلمة، ولذا فإن قراراته تكون سوداء كالظلمة التي يتخيلها بعقله وقلبه لا بعينه.
يقول الكاتب والأكاديمي الفلسطيني عبد الستار قاسم في مقال نشره إلكترونيًا منذ نحو عشر سنوات، ومن إعجابي بما قال أقتبس جزءًا من حديثه: «نقول: إن الفتنة أشد من القتل. الفتنة أشد من القتل؛ لأنها تؤدي في النهاية إلى حصول مجازر ومذابح وتقضي على الأخضر واليابس في الدولة أو المجتمع». ويضيف: «الفتنة أشد من القتل؛ لأنها تؤدي إلى قتل العديد من الناس، وإذا أراد الناس أن يقوا أنفسهم شر الفتنة فإن عليهم أن يقضوا على صاحب الفتنة في مهده».
على الأرض، ما أكثر الفتّانين في هذه الحياة؟ وما أكثر الناس من يقتات من جيوب الفتنة! هم بارعون في السعي بين الناس بالباطل، يُلقي التهم جزافًا ويحرق قلوب الأبرياء بغير حق، تسمعهم تصدق أقوالهم، وعندما تزول الغمامة عن أفق السماء تجد نفسك قد أهلكت أنفسًا ما كان يجب أن تقدم على فعلتك، ليظل ذنب الخطيئة يلاحقك لسنوات طويلة وربما للأبد.
أعتقد أن الفتّانين هم أكثر الناس وصولًا إلى مراتب القربى من الآخرين الذين يحبون أن يصلهم كل شاردة وواردة، فكلما زادت الفتنة ارتقى البعض في مكانته، وأصبح مقربًا من الآخرين، لكن الفتنة من أشد أنواع الغدر والخسة والنذالة، فهناك من تأمنه على نفسك وعرضك ومالك وأسرارك، لكنه بالمقابل يفتن عليك ويقلب قلوب الآخرين عليك، ويشد أنظار المغرضين نحوك.
إذا كان البعض يفرّق ما بين «الفتنة والخيانة»، إلا أنهما يؤديان نفس الغرض، ويخرجان من منبع واحد، وهما أيضًا جزء لا يتجزأ من غرس السيوف في أجساد الآمنين، نبت خبيث يستشري في جسد المجتمع.
يقول ابن تيمية: «الفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها»، ومما ورد أيضًا قول حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: «إن الفتنة تُعرض على القلوب، فأيُّ قلب أُشربها نُكِتت فيه نكتة سوداء، فإن أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، فمن أحب منكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا، فلينظر، فإن كان يرى حرامًا ما كان يراه حلالًا، أو يرى حلالًا ما كان يراه حرامًا، فقد أصابته الفتنة».
في هذا الزمن كثرت فيه الفتن، وتقلبت القلوب على بعضها البعض، ودخل الناس في أورقة الباطل والظلم، لذا على الإنسان أن يحكّم عقله، وأن يتيقن مما يصله من الآخرين من فتن قد تمزق أواصر التعاون والتعاضد، فيكفي قوله تعالى خاتمة لحديثنا عندما يقول في كتابه العزيز:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الشيخ أحمد الطلحي: المدينة المنورة قُبَّة الإسلام ومَوطِن الحلال والحرام كما سماها رسول الله ﷺ
قال الشيخ أحمد الطلحي، الداعية الإسلامي، إن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وصف المدينة المنورة في حديث عظيم بأنها: "قُبَّة الإسلام، ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومَتْبَوأ الحلال والحرام"، مؤكدًا أن هذه الصفات النبوية ليست مجرد كلمات، بل هي إشارات عميقة لمعاني ومقامات عظيمة للمدينة النبوية.
وأوضح الشيخ أحمد الطلحي، خلال حلقة برنامج "مع الناس"، المذاع على قناة الناس، اليوم الخميس، أن النبي ﷺ حين قال إن المدينة قُبَّة الإسلام، كان يقصد أنها الموطن الذي اجتمع فيه المسلمون بعد هجرتهم من مكة، فصارت المدينة حاويةً لهم جميعًا، كمثل القُبَّة التي تجمع تحتها الناس، وفيها وُلد المجتمع الإسلامي الأول بكل ما يحمل من أمن وأمان، وجمال وجلال، في ظل حضور النبي الأعظم ﷺ.
وأضاف أن تسميتها بدار الإيمان لها دلالتها الواضحة، إذ في المدينة ظهر الإيمان وازدهر، وسماها الله تعالى بذلك في القرآن الكريم، في قوله: "وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ"، مشيرًا إلى أن التفسير يُجمع على أن الدار المقصودة هنا هي المدينة المنورة، فجعل الله الإيمان مقرونًا بها.
كما بيّن أن وصف المدينة بأنها "مَتْبَوأ الحلال والحرام" يعني أنها المكان الذي استقر فيه التشريع، حيث نزلت غالبية الأحكام الشرعية في المدينة، واستقر فيها العلم، وتكون فيها الفقه، وأُرسيت فيها معالم الدين، مشيرًا إلى أن كلمة "متبوأ" تعني التمكُّن والاستقرار، أي أن الحلال والحرام استقرا فيها وتحددت معالمهما في المدينة.
وتابع: "من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن زار المدينة وجد فيها من أنوار النبي ﷺ ما يملأ القلب إيمانًا وطمأنينةً وشوقًا، فهي قُبَّة الإسلام، ومَصنع الإيمان، وموطن التشريع. فصَلُّوا عليه وسلموا تسليمًا، شوقًا إلى نوره ﷺ وإلى نور مدينته المنورة".