د. محمد بن عوض المشيخي **

 

يسود قانون الغاب النظام العالمي الذي تسيطر عليه حكومات مارقة تتمثل في العصابة الصهيونية التي تحكم إسرائيل، بينما العم سام الذي يوسم براضع الدم منذ قدوم المستعمرين من أوروبا إلى العالم الجديد، والذي اقام دولته المعروفة بأمريكا على أنقاض السكان الاصليين من الهنود الحُمر، يقف خلف الكيان الصهيوني المجرم بلا خجل، موفرًا له السلاح والمال والمرتزقة؛ بل وحتى الغطاء القانوني في المحافل الدولية.

أثبتت الأيام أن الذي يوجه حكام البيت الأبيض ليس مصالح المجتمع الأمريكي، بل هو اللوبي الصهيوني الذي له الكلمة الاولى في القرارات السيادية التي تتخذها اقوى امبراطورية في العالم؛ حيث تعبث تلك السياسات- التي تفتقد إلى الحكمة- بأمن واستقرار العالم وخاصة الدول الإسلامية، فقد تعهد الرئيس الأمريكي ترامب وقبله كل الرؤساء السابقين بحماية إسرائيل وتشجيعها على استباحة أمن دول وشعوب المنطقة في أي وقت يشاء هذا النظام العنصري غير المتحضر. ولكن هذه المرة ينقلب السحر على الساحر؛ إذ اتت الرياح الإيرانية بما لا تشتهي سفن الكيان الغاصب. وبالفعل كان الرد الإيراني استثنائيًا بكل المقاييس، فقد اذاق الصهاينة ليلة الجمعة وأمس السبت واحدة من أصعب الأوقات في تاريخهم؛ حيث تساقطت الصواريخ البالستية شهاب والفاروق واخواتها الإيرانية كالمطر على رؤوس المحتلين في مختلف مدن فلسطين المحتلة، وذلك ردا على العدوان الواسع الذي نفذته إسرائيل، لتحقيق جملة أهداف من بينها تقويض الجولة السادسة من المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.

ويحلو للبعض أن يتذكر ما يعرف بالسَبي البابلي باستحضار القاعدة التي تقول "التاريخ يعيد نفسه" والذي يعبر عن ما حصل لليهود على يد البابليين الذين قدموا من بلاد ما بين النهرين قبل الميلاد ببضع قرون، فقد أجمعت التنبؤات والتفسيرات العلمية والدينية ليس فقط من منظور إسلامي بل وحتى علماء التلمود والتوراة انفسهم عن قرب نهاية أو زوال دولة إسرائيل، لكونها الآن قد دخلت مشارف العقد الثامن الذي يعد النهاية المحتومة لأي دولة يهودية: كما حصل مع مملكة سليمان عليه السلام وهي الدولة اليهودية الأولى، بينما تمثل مملكة الحشمونائيم الدولة الثانية. وهناك مؤشرات قوية على اندحار الجيش الإسرائيلي في قادم الوقت، خاصةً إذا ما توحَّدت الجبهات المختلفة ضد هذه الدولة العنصرية الخارجة عن القانون.

لقد كنتُ منذ البداية أُشكِّك بالنوايا السيئة للرئيس الأمريكي، والمتعلقة بمفاوضات الملف النووي الإيراني، وكنت أتوقع- ومعي الكثيرين- بأن تلك المفاوضات سوف تصل إلى طريق مسدود في يوم ما، والسبب معروف مُسبقًا، وهو المطالب الأمريكية التعجيزية المتمثلة في منع إيران من تخصيب اليورانيوم في المجال السلمي، والتي تذكرنا بشخصية الرئيس المزاجية والمتقلبة والتي لا تثبت على أي مبدأ. ولعل  انسحابه من اتفاقية الملف النووي الإيراني المعروفة بـ"5 + 1" عام 2018 دون مبرر، خير مثال على ذلك. ومن المفارقات العجيبة قيام رئيس الوفد الأمريكي إلى مفاوضات مسقط ستيف ويتكوف اليهودي الصهيوني بالاجتماع برئيس جهاز الموساد الإسرائيلي بهدف التخريب وتقويض المفاوضات مرات عديدة.

لا شك أن مفاوضات الملف النووي الإيراني كانت واحدة من اصعب المفاوضات على الاطلاق؛ إذ توقَّع الخبراء فشلها من الجولة الأولى، لكن حضور حكمة القيادة العُمانية بقوة في جَمْعِ الخصوم وتفكيك جذور المشاكل والتحديات الصعبة واحتواء الوفود المُفاوِضة وإقناعهم للوصول إلى الحلول العقلانية، كل ذلك جعلنا نصل بنجاح إلى عقد خمس جولات تفاوضية، على الرغم من محاولة البعض في العادة الانطلاق من أعلى سقف في تحقيق المطالب، والتي قد توصل في كثير من الأحيان إلى مستوى من التصادم والرغبة الجامحة في إطلاق العنان للأطماع والسيطرة على الغير بالتهديد والوعيد. ولكن على الدوام، يتدخل الوسيط العُماني في مثل تلك الظروف؛ لكونه يملك الخبرة والمرونة في حل النزاعات بين الدول، مهما كانت تلك الخلافات واسبابها ومُبرِّراتها وتصلُّب الأطراف التي تطمح لتحقيق الأهداف الاستراتيجية عبر الحوار الجاد الرصين القائم على العقلانية والمنطق، وليس بإطلاق المدافع وتحريك الجيوش من قواعدها لاحتلال البلدان وصب الزيت على النار.

الجميع يُدرك تداعيات المواجهات العسكرية بين الجيوش ونتائجها الكارثية على الشعوب، لا سيما شعوب منطقتنا التي شهدت عدة حروب مدمرة أكلت الأخضر واليابس، خاصة حروب الخليج الثلاثة التي امتدت عبر 3 عقود؛ بدايةً من عقد الثمانينيات في القرن الماضي والتي استمرت 8 سنوات بين العراق وجارتها ايران، ثم حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت، وأخيرًا الحرب الانجلو- الامريكية لتدمير العراق وإرجاعه إلى القرون الوسطى؛ إذ سعت الولايات المتحدة الأمريكية للقضاء على نظام الرئيس العراقي صدام حسين، الذي كان يمثل صمام الأمان للأمن القومي العربي، وخط الدفاع الأول للقومية العربية ضد الكيان الصهيوني.

وأخيرًا.. من المؤسف تداعيات مثل هذه الحروب لا تتمثل وحسب في أن الشعوب العربية تدفع فاتورة الخسائر المالية الكبيرة والباهظة؛ بل وأيضًا يُسيطر أعداء الأمة على السيادة العربية وقرارتها المصيرية، وتُمنَح إسرائيل وبعض القوى الإقليمية في المنطقة السُلطة المُطلقة لإدارة زمام أمور الأمة، في غيابٍ كامل للدول العربية المركزية التي تراجع دورها وربما انطفأ إلى الأبد.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ضربة قاصمة لإيران.. معلومات عن القائد العام للحرس الإيراني الذي اغتالته إسرائيل في قلب طهران؟

في الساعات الأولى من صباح اليوم الجمعة، كانت طهران على موعد مع لحظة غير مسبوقة، ضربة جوية إسرائيلية تخترق العمق الإيراني وتقتل اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري، الرجل الذي لطالما هدد بـ”فتح أبواب جهنم” على أعداء طهران.

لم يكن اغتيال سلامي مجرد نهاية لمسؤول عسكري، بل ضربة قاسية لمؤسسة الحرس الثوري، التي يُعد من أبرز قادتها وأكثرهم نفوذا وأشدهم حدة في الخطاب. رجل جمع بين العقيدة والقيادة، وكان لسنوات وجه النظام الإيراني في ساحات الحرب والإعلام.

من قرية صغيرة في أصفهان، إلى قيادة أهم جهاز عسكري في إيران، قطع سلامي طريقا طويلا بدأ من الجبهات وانتهى في قمة الهرم، واليوم، مع مقتله، تُفتح صفحة جديدة من التوتر، وتُغلق أخرى كان هو أحد أبرز أبطالها.

ولد حسين سلامي عام 1960 في قرية “وانشان” بمحافظة أصفهان وسط إيران. التحق بالحرس الثوري فور اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، بعد أن ترك دراسته في قسم الهندسة الميكانيكية بجامعة “علم وصنعت” في طهران، لينخرط مباشرة في القتال، أولا على الجبهة الغربية، ثم في الجنوب حيث المواجهة مع القوات العراقية.

طول سنوات الحرب، تنقّل سلامي بين قيادات الفرق الجوية والبحرية، وكان حاضرا في ساحات القتال وقريبا من مركز القرار العسكري، وهو ما مهّد له الصعود سريعا في صفوف الحرس الثوري.

ينتمي سلامي إلى الجيل الأول الذي أسّس الحرس الثوري بعيد الثورة الإسلامية، وقد عرف بنزعته العقدية وخطابه الأيديولوجي. حفظ القرآن في سن مبكرة، وكان يستشهد كثيرا بآياته في خطاباته. عُرف أيضا بانضباطه العسكري، وصوته الجهوري وخطابه الحاد الذي لا يخلو من التحريض، خصوصا ضد إسرائيل والولايات المتحدة.

في مرحلة ما بعد حرب الثماني سنوات مع العراق، عاد سلامي إلى مقاعد الدراسة وأكمل تعليمه، ليتخرج مهندسا. ثم حصل على ماجستير في “الإدارة الدفاعية”. وبين عامي 1992 و1996، أسّس وترأس “جامعة القيادة والأركان” في طهران، وهي مؤسسة استراتيجية لتأهيل قيادات الحرس الثوري العليا.

تولى سلامي قيادة سلاح الجو التابع للحرس الثوري بين 2005 و2009، ثم عُيّن نائبا للقائد العام للحرس لمدة 10 سنوات، في فترة شهدت تناميا لنفوذ الحرس داخل إيران وخارجها، وتوسعا في عملياته الإقليمية، وخصوصا في العراق وسوريا ولبنان.

وفي إبريل/نيسان 2019، قرر المرشد الأعلى علي خامنئي تعيينه قائدا عاما للحرس الثوري، بعد منحه رتبة لواء، خلفا لمحمد علي جعفري. وجاء في قرار التعيين أن سلامي يتمتع بـ”خبرات قيادية عالية وكفاءة في إدارة مؤسسات الحرس الثوري والجهادية”. وأوكلت إليه مهمة “رفع مستوى الجاهزية والقدرات الشاملة”.

كان سلامي وجها مألوفا في الإعلام الرسمي الإيراني، يتحدث من غرف العمليات، أو يخطب في المناسبات الثورية والعسكرية، ويرفع سقف التهديدات لإسرائيل والغرب، ففي إبريل 2024، ظهر وهو يصدر التعليمات لقواته بشن أول هجوم جوي مباشر على إسرائيل، مستخدما طائرات مسيّرة وصواريخ، في رد على استهداف إسرائيلي سابق.

وعُرف سلامي أيضا بتصريحاته النارية، مثل قوله عام 2018 لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “تدرّب على السباحة في البحر الأبيض المتوسط.. فقد تُجبر على الفرار منه قريبا”.

خضع سلامي لعقوبات أمريكية في 2019، مع إدراج الحرس الثوري على لائحة “المنظمات الإرهابية”. كما فرض عليه الاتحاد الأوروبي حظرا بالسفر وتجميدا لأصوله عام 2021، بعد تحميله مسؤولية إصدار أوامر باستخدام القوة ضد احتجاجات نوفمبر/تشرين الثاني 2019 في إيران، التي سقط خلالها مئات القتلى.

ومع أن سلامي كان هدفا دائمًا للمخابرات الغربية والإسرائيلية، فإن استهدافه في قلب طهران شكّل تصعيدا نوعيا في الصراع بين إيران وإسرائيل، وأحد أخطر الاختراقات العسكرية في تاريخ الجمهورية الإسلامية.

باغتياله، تفقد إيران واحدا من أقوى رجالها في هرم السلطة الأمنية والعسكرية، وتفقد مؤسسة الحرس الثوري قائدا لطالما اعتُبر لسان حالها وصوتها العالي، ومع بقاء التوتر على أشده بين طهران وتل أبيب، فإن هذا الاغتيال يحمل شرارة لتصعيد إقليمي أشد فتكا، لا سيما في ظل تهديد الحرس الثوري بـ”رد استراتيجي طويل المدى”.

مقالات مشابهة

  • الرئيس الإيراني: لن نفاوض بشأن الملف النووي إذا استمرت الهجمات الإسرائيلية
  • الرئيس الروسي يبحث مع نظيره الأمريكي الصراع الإسرائيلي الإيراني
  • ضربة قاصمة لإيران.. معلومات عن القائد العام للحرس الإيراني الذي اغتالته إسرائيل في قلب طهران؟
  • من هو محمد حسين باقري رئيس الأركان الإيراني الذي اغتالته إسرائيل؟
  • ما الذي حققه هجوم إسرائيل على قلب إيران النووي؟
  • الملف النووي الإيراني.. ما مساراته بعد قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟
  • الرئيس الإيراني: لن نستسلم للظلم والاستبداد والقوة التي تمارس ضدنا
  • بين التهديد والتفاوض.. تفاصيل موقف واشنطن من النووي الإيراني
  • العقارب الصفراء.. كيف اخترق الإيرانيون الملف النووي الإسرائيلي؟