عيسى مخلوف في يومياته الباريسية
تاريخ النشر: 18th, June 2025 GMT
من الفرن هذه المرة أيضًا، ساخنًا ومبتهجًا، رافعًا ناره وملوّحًا بمدنه، وصلني كتاب الشاعر والمثقف اللبناني الكبير عيسى مخلوف: باريس التي عشت -دفتر يوميات، الفائز بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة- سندباد الجديد، 2025. ويشرف على هذه السلسلة المهمة الشاعر السوري نوري الجراح.
الكتاب من القطع الكبير، وجاء في نحو 300 صفحة.
التقيت عيسى قبل سنوات في رحلة ثقافية إلى المغرب، طرقتُ بابه في الفندق لأعطيه كتبا وزعترًا من فلسطين، ففتح لي ابتسامته على مصراعيها وصار صديقي. مشيتُ معه في شوارع مدينة وجدة المغربية، شربنا القهوة والشعر وفلسطين البعيدة التي يعشقها. ثم التقيته في بيروت مرة أخرى، على هامش معرض كتب، فجدد لي ثقتي به كواحد من أنبل وأصفى وألطف المثقفين والشعراء العرب؛ حيث لا استعراض شخصي ولا مباهاة (حتى في لغته الأدبية صادق، متقشف، وحقيقي)، ولا علاقات مصلحية أو عامة، ولا اتصالات شهرية بمسؤولي ومديري معارض الكتب والمؤسسات الثقافية في العالم العربي، ولا صخب حياة أو بلاغة مفتعلة.
عيسى طازج مثل شعره، وباحث جاد مثل مقالاته المدهشة، وترجماته الدقيقة، وتحليلاته الذكية، وغوصه المتفرّد في تاريخ الكتابة والفنون. وهو ابن مناخ ثقافي آخر، لا يسكنه إلا القلة ممّن يعيشون زمنا مختلفا. يكتب دون ضجة، وهو صاحب مذهب: الكتابة كفعل حب وصداقة وكنكنة ثقافية جمالية.
في هذا الكتاب، دفتر اليوميات، يدهشنا "أبو العيس" (كما أخاطبه) وهو يروي حكاياته مع باريس: حياةً وثقافةً وصداقاتٍ وكتبا، كما عاشها طيلة سنوات طويلة. ولعل هذه السطور التي نقلها مخلوف على لسان رجل بائس في إحدى الممالك، والموجهة لرجل متنفذ، تختصر فلسفة الكتاب:
قال البائس: "أنا أيضًا أستطيع أن أساعدك،"فسأله المتنفذ: "فأيّ منفعة تأتيني منك؟"فأجاب: "أنا رجل أُطَبِّبُ الكلام إذا جرح أحدا أو أفضى إلى شر، فأنا أُشفيه بأدوية ملائمة، لئلا يزداد الشر نموا".
وهذا ما يفعله مخلوف في هذه اليوميات الممتعة: هو يكتب كما يُطبّب، ويبدع صورا وكلماتٍ جميلة كما يعالج صداعا قاتلا أو مغصا رهيبا.
يكتب مخلوف عن سياق تأليفه للكتاب:
"كتبتُ باريس التي عشت في لحظة يبدو فيها العالم، أكثر من أي وقت مضى، على شفا سديم، وتُطرح علامات استفهام كبيرة حول التقدم التكنولوجي والتقني ومن يستأثر به لأغراض هي النقيض لحاجة الإنسانية إلى الخلاص. لقد عدتُ من خلال هذا الكتاب إلى العقدين الأولين من حياتي في باريس، حيث كانت المدينة تتوهج بألف لون، وكانت تتعدد فيها روافد الإبداع وتصبّ في فضائها الواسع آتية من جميع الجهات، قبل أن يخفت صوت الفكر على المستوى العالمي، ويتراجع الحس النقدي، وتتلعثم الآداب والفنون تحت ضربات المال المنتصر، الذي يُلغي كلّ ما تعذّر تسليعه وتحويله إلى أداة للمنفعة المادية".
هذه السطور تُحدّد موقع مخلوف من هذا العالم، وتضعه في أبهى موضع من الصورة الأخلاقية للمناخ الثقافي العربي والعالمي، وتؤكد هُويته الإنسانية النقية في عالم تهيمن عليه سوق الثقافة المالي النَّفعي.
في الكتاب، فصول ممتعة عن لقاءات مخلوف مع أدباء وفنانين، وتأملاته في إبداعاتهم التي كتب عنها بلغة أنيقة، شعرية وعالية الثقافة. ها هو يكتب في فصل "آدم حنين - نحت في الزمن":
"في رحلتي الأخيرة إلى مكتبة الإسكندرية وجدتُ نفسي أمام أعمال النحات والفنان المصري آدم حنين (1929-2022) في الطابق الأرضي، حيث معرضه الدائم. شعرتُ أني في محترفه الباريسي، نتابع حديثًا لا ينتهي برفقة زوجته عفاف الديب، ملاكه الحارس، وحولنا الرسوم والمنحوتات، المكتمل منها وغير المكتمل، كأننا داخل متحف لا يفصل بيننا وبين محتوياته شيء. وكأن لوحاته ومنحوتاته هي وجهه الآخر، على غرار الأقنعة الذهبية التي رافقت الفراعنة في رحلاتهم الأخيرة، ومثلت وجوههم التي لا تفنى".
وفي فصول أخرى، يكتب مخلوف بلغته الحميمية عن يومياته ولقاءاته مع: جان جينيه، إدوار سعيد، إيف بونفوا، صلاح ستيتية، آسيا جبار، سعد الله ونوس، مارسيل بروست، أمجد ناصر، فاروق مردم بك، بورخيس، رولان بارت، سيمون فتال، أندريه ميكيل، إدمون عمران المليح، وغيرهم.
يكتب عيسى ويذهب إلى النوم في آخر الشعر، سعيدًا منهكًا. هل تراه يعرف أنه تركنا، في يومياته، دون نوم، دون عودة إلى بيت، ودون ليل؟ شكرا، أبا العيس.
عيسى مخلوف: كاتب وشاعر لبناني مقيم في باريس، درس في جامعة "السوربون" وحاز منها على شهادة الدكتوراه في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية. له مؤلفات في الأدب والبحث، ونقل إلى اللغة العربية كتبا ونصوصا أدبية وفكرية من الفرنسية والإسبانية، منها مسرحية مهاجر بريسبان لجورج شحادة (قُدمت في مهرجانات بعلبك الدولية، صيف 2004). عمل مديرًا للأخبار في "إذاعة الشرق" في باريس، كما عمل في "النهار العربي والدولي" ومجلة "اليوم السابع" (أشرف على القسم الثقافي فيها في سنواتها الأولى). حاضر في "المعهد العالي للترجمة" التابع لجامعة السوربون، وكان مستشارًا خاصًا للشؤون الثقافية في منظمة الأمم المتحدة ضمن الدورة الحادية والستين للجمعية العامة (2006-2007).
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
في مرايا الشعر.. جديد هيئة الكتاب للشاعر جمال القصاص
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب إصدارًا جديدًا يحمل عنوان «في مرايا الشعر» للشاعر والناقد جمال القصاص، وهو عمل يقدّم رؤية متفردة لعلاقة الشاعر بالكتابة، وللجدل الداخلي الذي يصاحب فعل الإبداع منذ لحظة تشكّل الفكرة حتى اكتمال النص، يأتي الكتاب بمثابة شهادة شخصية وفكرية تعكس تجربة القصاص الممتدة مع الشعر، وقراءاته النقدية التي راكمها عبر سنوات طويلة من التأمل والمتابعة.
في مقدمة الكتاب، يكشف القصاص عن حالة الانفعال التي تلازمه أثناء الكتابة، تلك التي تجمع بين الفرح والغضب والحيرة، وتضعه أحيانًا في «ورطة» شعرية تكاد تبتلعه، يصف اللحظة الإبداعية وكأنها فخ يتربص بالشاعر، يجعله بين دورين متناقضين: الذئب الذي يقتنص فريسته، والفريسة التي تهرب من مصيرها، هذا التوتر الخلّاق بين اللذة والمأزق يشكّل أساس رؤية القصاص للكتابة، فهو يرى أن النجاة من مأزق نص لا تكون إلا بمأزق جديد يخلقه الشاعر بإرادته ودهشته، تمامًا كطفل يراقب ولادة لحظته الشعرية على الصفحة.
ويؤكد القصاص رفضه للوصفات الجاهزة ونماذج الكتابة المكررة، مفضّلًا أن يترك نافذة النص مفتوحة دائمًا، لاستقبال ومضة أو خاطر أو إشارة لم يبح بها بعد، فالكتابة، في نظره، فعلُ اكتشاف دائم لا يتوقف عند حدّ، وبحث مستمر عن ما لم يُقل، وعن الدهشة التي تختبئ في مفارقة ساخرة أو طرقة درامية أو سؤال مشحون بالوجود وأزماته.
ويذهب القصاص في صفحات كتابه إلى جوهر العلاقة بين الوعي والفكرة الشعرية، معتبرًا أن الوعي وحده لا يصنع شعرًا، وأن الإلهام الحقيقي يحتاج إلى قدرة على نسيان الفكرة بقدر القدرة على التقاطها، فهو يعيش الشعر كطقس داخلي، وكتمرين يومي على الحرية، يكتب من أجل أن يحب نفسه أكثر، ويلتصق بجوهره الإنساني عبر لحظات تضج بالنشوة، حتى لو كانت من مشهد رتيب أو حكاية معادة.
يمتد الكتاب ليضم مجموعة من قراءات القصاص النقدية لتجارب شعرية عربية، وهي نصوص كتبها عبر سنوات بدافع الفرح بالشعر ذاته، وبما يقدمه الشعراء والشاعرات من مغامرات جمالية، يقول إن خبرته كشاعر كانت البوصلة الأولى التي توجه نظرته النقدية، إذ تجمع بين عين القارئ الشغوف وحساسية المبدع الممسوس بالتجربة.
ويرصد الكتاب تحولات الشعر العربي منذ الستينيات، وهي المرحلة التي شهدت ـ بحسب القصاص ـ بدايات التمرد على الأشكال القديمة، ومحاولات التجديد في الإيقاع والرؤية واللغة، وعلى الرغم من هذا الحراك، يرى أن الشعر العربي ظل مرتبطًا لفترة طويلة بإطار البلاغة التقليدية، وبموضوعات سياسية واجتماعية تشكّل مركز النص وتطغى على الشكل الجمالي.
كما يتوقف القصاص عند المأزق النقدي الذي يواجه الشعر العربي المعاصر، والمتمثل في اعتماد كثير من تجارب الحداثة على المنجز الغربي في النظر والتطبيق. وبرغم أهمية هذا المنجز في التاريخ الإنساني، يرى القصاص أنه لم يستطع تجاوز رؤيته العقلانية للشعر، في حين أن الشعر ـ في جوهره ـ ليس نتاجًا عقليًا صرفًا، بل هو ابنة الروح وومضتها المفاجِئة، تلك التي تفلت من قبضة المنطق والأطر الجاهزة.
ويخلص القصاص إلى أن الحداثة الشعرية ليست قالبًا خارجيًا، بل هي قيمة داخلية في الإنسان، تحتاج فقط إلى من يوقظها من أسر العادة وما تراكم حولها من قيود، فالشعر، كما يراه، يمنحنا إحساسًا بالحرية، ويعيد تشكيل علاقتنا بالعالم من جديد، عبر حساسية لا تستسلم للسائد ولا للمألوف.
وفي ختام الكتاب، يقدم القصاص اعترافًا إنسانيًا مؤثرًا، إذ يقول إنه لا يدّعي الصواب في ما يكتب، بل ما زال يبحث عنه في رحلته الطويلة مع الشعر، مؤمنًا بأن الخطأ ليس سوى صواب مؤجل لم يحن أوانه، ويوجه تحية لكل الشعراء الذين أسهموا ـ عبر تجاربهم وأعمالهم ـ في توسيع مساحة الضوء والمحبة في حياته الشعرية.
بهذا الإصدار، تضيف الهيئة العامة للكتاب عملًا مهمًا إلى المكتبة النقدية العربية، يجمع بين حرارة التجربة وعمق التأمل، ويقدّم رؤية شاعر خبر دروب القصيدة ووقف طويلًا أمام مراياها المتعددة.