لجريدة عمان:
2025-06-19@03:49:31 GMT

عيسى مخلوف في يومياته الباريسية

تاريخ النشر: 18th, June 2025 GMT

عيسى مخلوف في يومياته الباريسية

من الفرن هذه المرة أيضًا، ساخنًا ومبتهجًا، رافعًا ناره وملوّحًا بمدنه، وصلني كتاب الشاعر والمثقف اللبناني الكبير عيسى مخلوف: باريس التي عشت -دفتر يوميات، الفائز بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة- سندباد الجديد، 2025. ويشرف على هذه السلسلة المهمة الشاعر السوري نوري الجراح.

الكتاب من القطع الكبير، وجاء في نحو 300 صفحة.

التقيت عيسى قبل سنوات في رحلة ثقافية إلى المغرب، طرقتُ بابه في الفندق لأعطيه كتبا وزعترًا من فلسطين، ففتح لي ابتسامته على مصراعيها وصار صديقي. مشيتُ معه في شوارع مدينة وجدة المغربية، شربنا القهوة والشعر وفلسطين البعيدة التي يعشقها. ثم التقيته في بيروت مرة أخرى، على هامش معرض كتب، فجدد لي ثقتي به كواحد من أنبل وأصفى وألطف المثقفين والشعراء العرب؛ حيث لا استعراض شخصي ولا مباهاة (حتى في لغته الأدبية صادق، متقشف، وحقيقي)، ولا علاقات مصلحية أو عامة، ولا اتصالات شهرية بمسؤولي ومديري معارض الكتب والمؤسسات الثقافية في العالم العربي، ولا صخب حياة أو بلاغة مفتعلة.

عيسى طازج مثل شعره، وباحث جاد مثل مقالاته المدهشة، وترجماته الدقيقة، وتحليلاته الذكية، وغوصه المتفرّد في تاريخ الكتابة والفنون. وهو ابن مناخ ثقافي آخر، لا يسكنه إلا القلة ممّن يعيشون زمنا مختلفا. يكتب دون ضجة، وهو صاحب مذهب: الكتابة كفعل حب وصداقة وكنكنة ثقافية جمالية.

في هذا الكتاب، دفتر اليوميات، يدهشنا "أبو العيس" (كما أخاطبه) وهو يروي حكاياته مع باريس: حياةً وثقافةً وصداقاتٍ وكتبا، كما عاشها طيلة سنوات طويلة. ولعل هذه السطور التي نقلها مخلوف على لسان رجل بائس في إحدى الممالك، والموجهة لرجل متنفذ، تختصر فلسفة الكتاب:

قال البائس: "أنا أيضًا أستطيع أن أساعدك،"فسأله المتنفذ: "فأيّ منفعة تأتيني منك؟"فأجاب: "أنا رجل أُطَبِّبُ الكلام إذا جرح أحدا أو أفضى إلى شر، فأنا أُشفيه بأدوية ملائمة، لئلا يزداد الشر نموا".

وهذا ما يفعله مخلوف في هذه اليوميات الممتعة: هو يكتب كما يُطبّب، ويبدع صورا وكلماتٍ جميلة كما يعالج صداعا قاتلا أو مغصا رهيبا.

يكتب مخلوف عن سياق تأليفه للكتاب:

"كتبتُ باريس التي عشت في لحظة يبدو فيها العالم، أكثر من أي وقت مضى، على شفا سديم، وتُطرح علامات استفهام كبيرة حول التقدم التكنولوجي والتقني ومن يستأثر به لأغراض هي النقيض لحاجة الإنسانية إلى الخلاص. لقد عدتُ من خلال هذا الكتاب إلى العقدين الأولين من حياتي في باريس، حيث كانت المدينة تتوهج بألف لون، وكانت تتعدد فيها روافد الإبداع وتصبّ في فضائها الواسع آتية من جميع الجهات، قبل أن يخفت صوت الفكر على المستوى العالمي، ويتراجع الحس النقدي، وتتلعثم الآداب والفنون تحت ضربات المال المنتصر، الذي يُلغي كلّ ما تعذّر تسليعه وتحويله إلى أداة للمنفعة المادية".

هذه السطور تُحدّد موقع مخلوف من هذا العالم، وتضعه في أبهى موضع من الصورة الأخلاقية للمناخ الثقافي العربي والعالمي، وتؤكد هُويته الإنسانية النقية في عالم تهيمن عليه سوق الثقافة المالي النَّفعي.

في الكتاب، فصول ممتعة عن لقاءات مخلوف مع أدباء وفنانين، وتأملاته في إبداعاتهم التي كتب عنها بلغة أنيقة، شعرية وعالية الثقافة. ها هو يكتب في فصل "آدم حنين - نحت في الزمن":

"في رحلتي الأخيرة إلى مكتبة الإسكندرية وجدتُ نفسي أمام أعمال النحات والفنان المصري آدم حنين (1929-2022) في الطابق الأرضي، حيث معرضه الدائم. شعرتُ أني في محترفه الباريسي، نتابع حديثًا لا ينتهي برفقة زوجته عفاف الديب، ملاكه الحارس، وحولنا الرسوم والمنحوتات، المكتمل منها وغير المكتمل، كأننا داخل متحف لا يفصل بيننا وبين محتوياته شيء. وكأن لوحاته ومنحوتاته هي وجهه الآخر، على غرار الأقنعة الذهبية التي رافقت الفراعنة في رحلاتهم الأخيرة، ومثلت وجوههم التي لا تفنى".

وفي فصول أخرى، يكتب مخلوف بلغته الحميمية عن يومياته ولقاءاته مع: جان جينيه، إدوار سعيد، إيف بونفوا، صلاح ستيتية، آسيا جبار، سعد الله ونوس، مارسيل بروست، أمجد ناصر، فاروق مردم بك، بورخيس، رولان بارت، سيمون فتال، أندريه ميكيل، إدمون عمران المليح، وغيرهم.

يكتب عيسى ويذهب إلى النوم في آخر الشعر، سعيدًا منهكًا. هل تراه يعرف أنه تركنا، في يومياته، دون نوم، دون عودة إلى بيت، ودون ليل؟ شكرا، أبا العيس.

عيسى مخلوف: كاتب وشاعر لبناني مقيم في باريس، درس في جامعة "السوربون" وحاز منها على شهادة الدكتوراه في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية. له مؤلفات في الأدب والبحث، ونقل إلى اللغة العربية كتبا ونصوصا أدبية وفكرية من الفرنسية والإسبانية، منها مسرحية مهاجر بريسبان لجورج شحادة (قُدمت في مهرجانات بعلبك الدولية، صيف 2004). عمل مديرًا للأخبار في "إذاعة الشرق" في باريس، كما عمل في "النهار العربي والدولي" ومجلة "اليوم السابع" (أشرف على القسم الثقافي فيها في سنواتها الأولى). حاضر في "المعهد العالي للترجمة" التابع لجامعة السوربون، وكان مستشارًا خاصًا للشؤون الثقافية في منظمة الأمم المتحدة ضمن الدورة الحادية والستين للجمعية العامة (2006-2007).

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

تكوين الخطاب السردي العربي.. إصدار جديد لهيئة الكتاب يربط بين الأدب والتحول الاجتماعي

أصدرت وزارة الثقافة المصرية، ممثلة في الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، كتابًا جديدًا بعنوان "تكوين الخطاب السردي العربي: دراسة في علم اجتماع الأدب العربي الحديث"، من تأليف الدكتور صبري حافظ، وترجمة الدكتورة يمنى صابر، وذلك في إطار حرص الهيئة على تقديم دراسات نوعية تعزز فهم التحولات الأدبية في سياقاتها الثقافية والاجتماعية.

يعد الكتاب دراسة رائدة تربط بين الأدب العربي الحديث والتحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المنطقة منذ بدايات النهضة. ويبدأ العمل بمقدمة علمية تضع الأساس النظري، مستعرضة مفاهيم رئيسية مثل "رؤية العالم" و"الخطاب" و"المجال الخطابي"، إلى جانب استعراض المناهج النقدية السائدة في الدراسات العربية والغربية حول الأجناس السردية الحديثة.

ينقسم الكتاب إلى عدة فصول تتناول عملية نشأة وتطور الخطاب السردي العربي، وتبحث في العوامل التاريخية والاجتماعية التي شكلته. ويركز الفصلان الأول والثاني على التحول الثقافي الذي بدأ منذ القرن الثامن عشر، وعلى علاقة هذا التحول بظهور جمهور قارئ جديد وتكوين حساسية قومية ساهمت في خلق أشكال سردية جديدة.

أما الفصل الثالث، فيتتبع المحاولات الأولى لتأسيس هذا الخطاب، متوقفًا عند أعمال عبد الله النديم، ثم يستعرض محاولات لاحقة في مختلف البلدان العربية، مسلطًا الضوء على إحياء شكل "المقامة" وعلى محاولات القطيعة مع الماضي الرومانسي. وينتهي الفصل بإعادة اكتشاف دور شخصيتين مهمشتين في هذا السياق هما مصطفى عبد الرازق وخليل بيدس.

ويتناول الفصل الرابع علاقة الخطاب السردي الوليد بالهوية القومية من خلال تتبع أعمال عدد من الكتّاب، بينما يُفرد الفصل الخامس لدراسة أعمال محمود تيمور، ويخصص الفصل السادس لـ"المدرسة الحديثة" وعلى رأسها محمود طاهر لاشين، الذي يُعد أحد أبرز ممثلي النضج الفني في القصة القصيرة العربية، خاصة في قصته "حديث القرية" التي تم تخصيص تحليل نصي معمق لها في الفصل الأخير.

ويؤكد الدكتور صبري حافظ في خاتمة الكتاب أن التحليل النقدي التفصيلي لنصوص بعينها هو الوسيلة الأصدق لإثبات صحة الفرضيات النظرية في تاريخ الأدب. كما يبرز التأثير الواضح للأدب الروسي على محمود طاهر لاشين، مما دفع المؤلف للاستعانة بإسهامات نقاد روس في تحليله النقدي.

ويختتم المؤلف الكتاب بشكر عدد من الأكاديميين المصريين والأجانب الذين ساهموا في مراجعة أجزاء من هذه الدراسة، مشددًا على أن الآراء والمواقف الواردة فيه تعبر عن وجهة نظره الخاصة.

بهذا الإصدار، تقدم الهيئة المصرية العامة للكتاب إضافة معرفية نوعية، تُثري المكتبة العربية في مجال علم اجتماع الأدب، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم الخطاب السردي بوصفه مرآة لتحولات العالم العربي الحديث.

طباعة شارك وزارة الثقافة المصرية الهيئة المصرية العامة للكتاب الدكتور أحمد بهي الدين تكوين الخطاب السردي العربي الأدب العربي الحديث

مقالات مشابهة

  • كشف الستار عن حالة ظَفَارِ للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (51)
  • توماس لونغمان.. رائد النشر الذي وضع أسس صناعة الكتاب الحديثة ماذا تعرف عنه؟
  • هيبقى شبه يوم القيامة.. إبراهيم عيسى يوضح شكل نهاية العدوان الإسرائيلي على إيران
  • فاروق حسني: مبارك طلب مني افتتاح معرض الكتاب يوم 29 يناير والناس في الشارع
  • تكوين الخطاب السردي العربي.. إصدار جديد لهيئة الكتاب يربط بين الأدب والتحول الاجتماعي
  • إبراهيم عيسى: ضرب التلفزيون الإيراني رسالة اختراق.. والحرب مرشحة للتصعيد
  • أستاذ دراسات إيرانية لإبراهيم عيسى: العقيدة الإيرانية تميل إلى فكرة المواجهة المباشرة والاستشهاد
  • ثقافة النواب تناقش طلب إحاطة عن الاستثمار الثقافي بهيئة الكتاب
  • الهدف طهران.. ما هو الكتاب الأصفر الذي ظهر أمام نتنياهو؟