معتقلو تنظيم الدولة.. عصي في دواليب الحكومة السورية
تاريخ النشر: 24th, June 2025 GMT
يعتبر ملف معتقلي تنظيم الدولة الإسلامية واحدًا من الملفات الحساسة والمعقدة التي تواجه الحكومة السورية الجديدة، إذ يرتبط بشكل مباشر بالعلاقة مع الولايات المتحدة التي جعلته محددًا أساسيًّا للانفتاح على دمشق.
ويشكل وجود آلاف المقاتلين وعشرات الآلاف من أفراد عائلاتهم المحتجزين في سجون ومخيمات واقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمال شرقي البلاد، بيئة أمنية هشّة، وأوضاعا قانونية وإنسانية مأزومة.
ورغم الانفتاح الأميركي الحذر على سوريا الجديدة، فإن ملف معتقلي التنظيم لا يزال من أبرز الشروط السياسية والأمنية لاستمرار هذا الانفتاح وتوسّعه، وسط تحذيرات غير معلنة من أن الفشل في التعامل الجدي مع هذا الملف قد يعيد فرض العقوبات أو يُفعّل أدوات ضغط دولية جديدة على الحكومة الناشئة.
ولا يقتصر التحدي على استلام المعتقلين فحسب، بل يشمل أيضا تقديم رؤية واضحة لكيفية إدارتهم وفق معايير العدالة الدولية، ومنع أي فراغ قد يعيد إنتاج الخطر الذي مثّله التنظيم سابقا.
وبين حسابات السيادة وضرورات التعاون الدولي، تجد الحكومة السورية نفسها أمام اختبار حقيقي، يحدد علاقاتها مع العالم في المرحلة المقبلة.
أعداد المعتقلين وجنسياتهمتقدّر قوات قسد عدد مقاتلي تنظيم الدولة المحتجزين لديها في شمال شرق سوريا بين 9 إلى 11 ألفًا، موزعين على 12 سجنًا، أبرزها سجن غويران في الحسكة، والمالكية (ديريك)، والشدادي، إلى جانب مرافق مؤقتة في الرقة ودير الزور.
ويؤوي سجن غويران (الصناعة) وحده قرابة 4500 معتقل، بينما تدير قسد أيضا مخيم الهول الذي يضم أكثر من 40 ألفا من أفراد عائلات المقاتلين، غالبيتهم من السوريين والعراقيين، إضافة إلى جنسيات أجنبية.
وقد شهد هذا السجن قبل سنوات أعمال شغب، مما أثار مخاوف دولية من إمكانية تكرار سيناريو الانفلات الأمني، في ظل اكتظاظ السجون وهشاشة البنية الأمنية في بعضها.
إعلانوقدّر تقرير لصحيفة بوليتيكو الأميركية أعدادهم بنحو 10 آلاف معتقل من عناصر التنظيم موزّعين على 26 سجنا، في حين يقيم نحو 54 ألفا من النساء والأطفال في معسكرات تنتشر شمال شرقي سوريا.
ويوازي وجودهم ـبحسب الصحيفةـ من حيث العدد ملء 13 معتقلا بحجم غوانتانامو، ما يُبرز حجم التحدي الأمني أمام الحكومة السورية الجديدة في التعامل مع هذا الملف المعقد.
وتبقى هذه الأرقام موضع جدل، إذ تشكك تقارير ومصادر ميدانية في صحتها، وتقدر أن العدد الحقيقي للمعتقلين لا يتجاوز 6 آلاف، متهمة قسد بالمبالغة في الأعداد لأغراض سياسية، منها الضغط للحصول على دعم دولي أكبر واستمرار التنسيق الأمني مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
اختبار أمني دولي لدمشقلا يقتصر ملف معتقلي تنظيم الدولة الإسلامية على كونه قضية أمنية محلية أو إنسانية طارئة، بل يمثل في نظر المجتمع الدولي أول اختبار حقيقي لقدرة الحكومة السورية الجديدة على إدارة ملفات سيادية بالغة الحساسية، والتعامل مع التحديات الأمنية العابرة للحدود.
وفي تصريحات سابقة لمسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية، أكدت واشنطن أن "الإدارة الفاعلة لمعتقلي تنظيم الدولة ومخيمات النازحين في شمال شرقي سوريا تُمثّل عاملا جوهريا في استقرار المنطقة ومنع عودة تنظيم الدولة".
كما أشار تقرير لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى أن "فشل إدارة ملف المعتقلين قد يُفضي إلى إعادة تشكل التنظيم، ويهدد الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء".
وفي هذا السياق، أكدت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة أن من جملة المطالب التي يجب على الحكومة السورية الالتزام بها في المرحلة المقبلة؛ تسليم خطة لتحمل مسؤولية مراكز احتجاز عناصر تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا، وذلك خلال جلسة مجلس الأمن بشأن في 17 يونيو/حزيران الجاري.
وتسعى الحكومة السورية الجديدة إلى استلام هذا الملف انطلاقا من اعتبارها "الجهة السيادية الوحيدة المخوّلة بإدارة الملفات الأمنية"، بحسب ما يوضحه الباحث في الشؤون الأمنية لورانس الشمالي.
ويرى الشمالي، في حديثه للجزيرة نت، أن دمشق تعتبر ملف المعتقلين "فرصة لتعزيز شرعيتها، وبناء جسور تعاون أمني مع المجتمع الدولي"، معتبرا أن نجاح دمشق في هذا التحدي "سيُشكل خطوة نوعية في اتجاه الانضمام إلى تحالفات دولية لمكافحة الإرهاب".
وتنطلق الحكومة السورية -بحسب مراقبين- من تجربة ميدانية تراكمت خلال سنوات من إدارة الصراع في شمال سوريا، خاصة في إدلب ومحيطها، حين كانت هيئة تحرير الشام، التي تشكّل النواة الأساسية للإدارة الحالية تخوض معارك مع تنظيم الدولة وامتداداته.
وفي هذا السياق، يقول الباحث في مركز الحوار السوري، عمار جلو إن الإدارة السورية الجديدة قد تكون هي الأقدر على إدارة معتقلات تنظيم الدولة، بسبب نجاحها سابقا في تفكيك ومحاصرة جميع المجاميع المرتبطة بالتنظيم في مناطق سيطرتها.
إعلانوبحسب حديث جلو للجزيرة نت، فإن كل ذلك تم بموازاة تعاون خفي مع التحالف الدولي، وهو تعاون أسهم في تحييد قادة بارزين للتنظيم.
ويضيف أن وزير الداخلية الحالي، أنس خطاب يُعتقد أنه يمتلك "شبكة استخباراتية فاعلة داخل التنظيم"، ما يمنح الحكومة الجديدة ميزة نادرة في فهم البنية الداخلية لهذه الجماعات وقدرة متقدمة على اختراقها.
ويعزز هذه الرؤية تقرير صادر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أكد استمرار الحكومة السورية الجديدة في مواجهة خلايا تنظيم الدولة، مشيرا إلى أن دمشق الجديدة أحبطت في يناير/كانون الثاني مؤامرة لتفجير مزار شيعي قرب العاصمة، بمساعدة معلومات استخباراتية أميركية.
ومؤخرا، أعلنت وزارة الداخلية السورية تنفيذ عملية أمنية في ريف دمشق جنوبي سوريا، ضد خلية للتنظيم قالت إنها مرتبطة بتفجير كنيسة "مار إلياس"، الذي أدى إلى سقوط 15 ضحية وإصابة العشرات في منطقة الدويلعة بريف دمشق.
وأسفرت العملية في مدينتي حرستا وكفر بطنا عن مقتل شخصين والقبض على 5 عناصر آخرين بينهم مسؤول الخلية.
وكان المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا قد أكد نهاية الشهر الماضي أن وفدا حكوميًّا سوريًّا وصل إلى مناطق شمال شرقي سوريا لزيارة معسكرات الاحتجاز والسجون التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وقال إن الزيارة تأتي في إطار تنفيذ الاتفاق الذي وقّعه الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لقسد مظلوم عبدي في 10 مارس/آذار الماضي، والذي يقضي بإجلاء المواطنين السوريين من مخيم الهول.
رفض أوروبيتصطدم جهود الحكومة السورية في هذا الملف برفض معظم الدول الأوروبية استعادة رعاياها من المقاتلين الأجانب المحتجزين في سجون قسد أو القاطنين في مخيمي الهول والروج.
وبهذا المعنى يرى مراقبون أن الرفض الأوروبي ليس موقفا أخلاقيا أو سياسيا فحسب، بل تحديا سياديا ومعقدا يعوق أي تسوية نهائية لهذا الملف.
من ناحيتها، حذّرت القيادة الوسطى الأميركية في بيان صدر في يناير/كانون الثاني الماضي من أن استمرار هذا الجمود الدولي، في ظل غياب برامج لإعادة التأهيل والتوطين والإدماج، "قد يؤدي إلى ظهور جيل جديد من المتطرفين".
وأشارت إلى أن نحو 9 آلاف معتقل من تنظيم الدولة، ينتمون لأكثر من 50 دولة، لا يزالون في سجون شمال شرقي سوريا تحت إدارة "قسد".
بدوره، يرى الباحث عمار جلو أن هذه المواقف الأوروبية تجاه مواطنيها المعتقلين في سجون قسد لا تعرقل فقط مسار إغلاق الملف، بل تُضيف عبئًا قانونيًّا وأمنيًّا كبيرًا على دمشق الجديدة.
وأشار إلى أن عددًا من الدول الغربية قامت بإسقاط جنسية بعض المعتقلين لديها، ما يجعل الحكومة السورية الجديدة أمام مأزق مزدوج، يتمثل:
التعامل مع معتقلين لا تملك وثائقهم. تحمل مسؤولية قانونية عن عناصر ترفض بلدانهم استقبالهم.وفي حين أعادت بعض الدول مواطناتها وأطفالهن، مثل السويد وكندا وطاجيكستان وفرنسا وروسيا، فإن جهود إعادة الذكور البالغين بقيت شبه معدومة، حيث لم يُعد سوى 4% من المقاتلين الذكور إلى بلدانهم منذ عام 2019، بحسب تقرير صادر عن معهد الشرق الأوسط للدراسات في يوليو/تموز 2023.
رغم الضغط الدولي المتزايد لإنهاء ملف معتقلي تنظيم الدولة فإن مسألة محاسبتهم قانونيا لا تزال عالقة ومعقدة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، إذ تواجه الحكومة السورية تحديا يتمثل بغياب بنية قانونية فاعلة لإجراء المحاكمة.
وكانت لجنة التحقيق الدولية المعنية بسوريا، التابعة للأمم المتحدة، قد دعت الدول التي يحمل بعض عناصر التنظيم جنسياتها إلى استلامهم وتأمين محاكمة عادلة لهم على أراضيها، وهو ما التزمت به قلة من الدول، بينما امتنعت أخرى بشكل نهائي، ما زاد من تعقيد الملف.
إعلانويؤكد المحامي والباحث في القانون الدولي الجنائي محمد حربلية أن محاكمة عناصر تنظيم الدولة على يد الحكومة السورية غير ممكنة في الوقت الراهن، نظرا لغياب إطار قانوني ملائم، ولأن الأولوية في العدالة اليوم تتجه نحو ملاحقة مجرمي النظام البائد، وهو ما يتطلب إمكانيات ضخمة على المستويين المالي واللوجستي.
ويرى حربلية، في حديثه للجزيرة نت، أن الحل الأكثر واقعية يكمن في إنشاء محكمة دولية خاصة بمحاكمة عناصر التنظيم في سوريا، على أن تكون تحت إشراف الأمم المتحدة، وبمشاركة قضائية سورية، وبدعم وتمويل دوليين، وهو خيار يُمكن أن يشكّل مخرجا عمليا لطي هذا الملف بشكل قانوني ونهائي.
وفي السياق نفسه، يوضح الباحث في الشؤون الأمنية لورانس الشمالي أن التعامل مع أفراد التنظيم يختلف بحسب تورّطهم في الجرائم، وقال إنه يمكن تخصيص برامج لإعادة التأهيل والدمج المجتمعي للذين لم يشاركوا في أعمال إرهابية أو عمليات قتل مباشرة، بينما يُخضع من يثبت تورّطهم للمحاكمة وفق قوانين مكافحة الإرهاب.
ويحذر خبراء من أن غياب إطار قانوني شامل حتى الآن يضع الحكومة السورية أمام تحدٍّ قانوني وسياسي مفتوح؛ فإما أن تؤسس لمسار عدالة مستدامة وشاملة، أو أن يبقى ملف محاسبة عناصر التنظيم رهين الحسابات الدولية والانقسامات الإقليمية، ما يهدّد بفتح ثغرات أمنية وقانونية في جسد الدولة السورية الجديدة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحکومة السوریة الجدیدة شمال شرقی سوریا عناصر التنظیم التعامل مع ملف معتقلی الباحث فی هذا الملف الدولة ا فی شمال فی سجون إلى أن فی هذا
إقرأ أيضاً:
السودان.. فرص نجاح الحكومة الجديدة في ظل التحديات الماثلة
بعد ما يقارب الأربع سنوات من قرارات رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والتي قضت بحل حكومة الدكتور عبد الله حمدوك في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وفض الشراكة مع قوى الحرية والتغيير تم تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسا للوزراء في أيار/ مايو الماضي. وإدريس الذي يتكئ على تجربة طويلة في العمل في المنظمة العالمية للملكية الفكرية مع علاقات واسعة مع جهات داخلية وخارجية؛ لا يُعرف له انتماء سياسي للأحزاب السودانية، وكان مرشحا مستقلا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2010، وتردد اسمه أكثر من مرة بعد سقوط نظام الرئيس عمر البشير وخاصة بعد قرارات قائد الجيش، ولكن تأخر تعيينه نتيجة تطورات سياسية داخلية وخارجية. ويجيء تعيينه لهذا الموقع المهم وسط تحديات كبيرة تشهدها البلاد، الأمر الذي يطرح تساؤلا مركزيا عن فرص نجاحه وسط هذه الأمواج العاتية التي تحيط بالبلاد وتكاد تعصف بها إلى المجهول..
فعلى المستوي العسكري والأمني، لا تزال الحرب التي تشنها مليشيا الدعم العسكري منذ أكثر من عامين تتواصل في أكثر من ولاية، فمن بين ولايات السودان الثماني عشرة تسيطر مليشيا الدعم السريع بشكل كامل على أربع ولايات في دارفور، بينما تحتدم المعارك في تخوم الفاشر؛ عاصمة الإقليم في ولاية شمال دارفور، أما في إقليم كردفان فإن الحرب تدور سجالا في ولاياتها الثلاث مع تقدم ملحوظ للجيش في كل محاور القتال، غير أن اصطفاف قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان عبد العزيز الحلو مع المليشيا قد يعقد التحركات العسكرية للجيش وخاصة في ولاية جنوب كردفان. وفي وسط السودان لا سيما ولاية الجزيرة والعاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، لا تزال أصداء الانتصارات التي حققها الجيش بطرد المليشيا تتردد، غير أن تلك الانتصارات ليست إلا خطوة في مشوار طويل يتطلب توفير الأمن والخدمات، خاصة وأن المليشيا اعتمدت تكتيكا جديدا يقوم على استهداف المنشآت الحيوية في المدن الآمنة، ولا سيما العاصمة الإدارية بورتسوان، بالمسيرات الاستراتيجية، ثم الحاجة للوقوف على العودة الطوعية لملايين من المواطنين ما بين نازح ولاجئ، والعمل على عودة الحكومة نفسها للعاصمة الخرطوم، حيث تباشر مهامها حاليا من مدينة بورتسودان الساحلية على البحر الأحمر (ألف كيلو متر شرقي الخرطوم)..
يحتاج رئيس الوزراء كامل إدريس أن يتجاوز عتبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات الصعبة ومباشرة مهامه، ولا تبدو خطوة تجاوز تلك العتبة يسيرة
وفي الملف الاقتصادي، تنتظر الحكومة المتوقع تشكيلها تركة ثقيلة أحدثتها الحرب الحالية، فقد استهدفت مليشيا الدعم السريع وبشكل ممنهج كل المؤسسات الاقتصادية، من مصانع وبنوك، ودمرتها تدميرا شاملا في العاصمة الخرطوم، وهناك تقديرات أولية تقول بأن حجم الخسائر يتجاوز 215 مليار دولار في القطاع الصناعي والزراعي وحده، بينما تقول تقارير المنظمات الإنسانية إن 70 في المئة من المستشفيات والمؤسسات الصحية خارج الخدمة حاليا، والخسائر في البنية الصحية يقدر بحوالي 11 مليار دولار، كما أن المليشيا قد قامت بعمليات نهب واسعة ومنظمة استهدفت ممتلكات المواطنين ومدخراتهم، بجانب تخريب خدمات المياه والكهرباء وسرقة معدات الطاقة والمحولات الكهربائية. والتحدي الأبرز في هذا المحور هو في كيفية إعادة تشغيل النظام الاقتصادي وإعادة بناء منظومته اللوجستية، وضمان توفير المطلوبات العاجلة لتحريك عجلة الاقتصاد..
وعلى المستوى الإنساني، تتحدث الأمم المتحدة عن أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث تسببت الحرب في مقتل ما بين 70 ألف إلى 100 ألف شخص من المدنيين، وتجاوز عدد النازحين واللاجئين لدول الجوار عشرة ملايين، وتوقفت العملية التعليمة لأكثر من ستة ملايين تلميذ مدرسي وأكثر من 700 ألف طالب جامعي..
وبعد تحرير الخرطوم بدأت عودة المواطنين لمنازلهم، ولكن لا تزال الشكوى قائمة من انعدام الخدمات الأساسية خاصة بعد استهداف مليشيا الدعم السريع لمحطات المياه والكهرباء بالمسيرات الحربية، ويقول والي ولاية الخرطوم إن حكومة الولاية قادرة على توفير الأمن والخدمات. وتتزايد الأزمة الإنسانية في ولايات دارفور وبعض مناطق ولايات كردفان، حيث لا تزال المعارك دائرة، مما يضعف قدرة المواطنين على الوصول لمزارعهم وممارسة نشاطاتهم الاقتصادية المطلوبة..
أولويات ملحة وعقبات في الطريق..
يحتاج رئيس الوزراء كامل إدريس أن يتجاوز عتبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات الصعبة ومباشرة مهامه، ولا تبدو خطوة تجاوز تلك العتبة يسيرة بالنظر إلى ما تسرب للإعلام خلال الأيام الماضية من إصرار أطراف اتفاق جوبا وأبرزهم حركة العدل والمساواة برئاسة الدكتور جبريل إبراهيم الذي يشغل منصب وزير المالية، وحركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، على الاحتفاظ بنفس الوزارات المهمة كالمالية والمعادن والتي ظلت تشغلها منذ التوقيع على اتفاق جوبا في 2020، بينما يقول تفسير آخر إن الحكومة ملزمة فقط بنسبة الـ25 في المئة التي نصت عليها اتفاقية جوبا للسلام دون النص على وزارات محددة، كما أن تطاول الفراغ التنفيذي خلق أوضاعا وزارية في الخدمة المدنية اضطر معها مجلس السيادة لممارسة بعض الصلاحيات التنفيذية في الفترة الماضية، وتحتاج مستويات الحكم لإعادة تنظيم الاختصاصات بما يخلق الانسجام ويؤسس للتعاون البناء دون تدخل من أحد الأطراف في صلاحيات الآخر.
وعلى كل حال، فإن المهمة المركزية أمام رئيس الوزراء وحكومته المرتقبة هي استعادة عمل أجهزة الدولة لتعمل بكفاءة وقدرة تمكنها من إعادة تفعيل ديوان الخدمة العامة، والعمل على نقل الحكومة للعاصمة القومية الخرطوم، وهو ما يتطلب وبصورة عاجلة دعم قوات الشرطة والأمن وأجهزة العدالة كالنيابة والقضاء لتقوم بدورها، إذ مع بداية عودة النازحين لمنازلهم برزت مشكلة التفلتات الأمنية في الخرطوم من مجموعات كانت تعمل مع قوات الدعم السريع التي قامت إبان سيطرتها على الخرطوم بإطلاق سراح آلاف الموقوفين في السجون وتسليحهم في معركة عدوانها ضد الشعب السوداني. ثم إن الحكومة بحاجة عاجلة لخطة اقتصادية إسعافية تركز على الإسراع بتحريك عجلة الإنتاج في محاور الزراعة والصناعة والاستثمار، وتوظيف الموارد المتاحة كالذهب والبترول والموانئ، لتوفير الأرضية المناسبة لانطلاق برنامج إعادة الإعمار الكبير.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد المليشيا، فإن الحكومة مدعوة لبذل الجهد الكبير لتوفير مظلة الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع المليشيا، وهي ليست مهمة سهلة خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي باحتلال المليشيا لمنطقة المثلث الحدودي الاستراتيجية بين السودان مصر وليبيا، وذلك بمساندة من مليشيات ليبية مدعومة من خليفة حفتر، وعلاقات مضطربة مع دول الجوار في تشاد وجنوب السودان وكينيا التي توفر ملاذا لقيادات المليشيا العسكرية والسياسية.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد المليشيا، فإن الحكومة مدعوة لبذل الجهد الكبير لتوفير مظلة الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع المليشيا، وهي ليست مهمة سهلة خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي باحتلال المليشيا لمنطقة المثلث الحدودي الاستراتيجية بين السودان مصر وليبيا
ويزداد التحدي في هذه النقطة من سعي المليشيا لإنشاء حكومة موازية في دارفور والمناطق التي تسيطر عليها، على غرار التجربة الليبية، وعلى الرغم من فشلها حتى الآن في ذلك إلا أن الأمر يتطلب تحركا ديبلوماسيا فاعلا يحاصر المليشيا ويقضي على طموحاتها السياسية. وما يشجع في هذا الأمر هو الترحاب الذي قوبلت به خطوة تعيين رئيس الوزراء من قبل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وأطراف إقليمية عدة، ويرجح أن يعود السودان عضوا فاعلا في الاتحاد الأفريقي بعد رفع تجميد عضويته منذ قرارات الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وفي آذار/ مارس الماضي أدان الاتحاد الأفريقي محاولات المليشيا إقامة حكومة موازية، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا في الموقف الأفريقي نتيجة التغيير الذي تم في رئاسة المفوضية والجهود الكبيرة التي اطلع بها مندوب السودان في المنظمة الأفريقية المهمة. وفي ظل تراجع الحديث عن الحلول السياسية، تحتاج الحكومة لصياغة مشروع متكامل للتعامل مع المستجدات المتوقعة في هذا الإطار..
وبعد الفراغ من المهام العاجلة تنتظر الحكومة المقبلة مهمة كبرى، وهي كيفية تهيئة البلاد نحو الوضع السياسي الطبيعي وإنهاء حالة الانتقال الهشة التي استطالت منذ سقوط النظام السابق في نيسان/ أبريل 2019، وكان من المرجح أن تنتهي بالانتخابات بعد أربع سنوات. والتحدي الأبرز هنا هو في تفكك الحاضنة السياسية التي تقف خلف الجيش وفشلها في تكوين تحالف مرن يمكنها من الدفع السياسي والاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب، وتحتاج الحكومة والمجلس السيادي لتعميق التشاور مع الأطراف السياسية لتنظيم الحوار السوداني- السوداني الذي وعد به رئيس الوزراء في أول خطاب له بعد أداء القسم، وذلك للنظر في كيفية التحول نحو الانتخابات وإنهاء حالة الانتقال. وفي خضم ذلك تطل قضايا لا تقل أهمية مثل رتق النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب، وخطاب الكراهية الذي انتشر بصورة كبيرة بين المكونات الاجتماعية..
ومع كل تلك التحديات الكبيرة يبدو التفاؤل وافرا بين مكونات الشعب السوداني لاستعادة الأمن والاستقرار بعد تعيين رئيس الوزراء، وقبله تحرير العاصمة الخرطوم وبداية عودة النازحين واللاجئين لمنازلهم، وبداية حياة جديدة يتلمسون فيها دروب الأمل ومسارات المستقبل..