في كتابه الجديد "القارئ والتأويل"، الصادر عن دار "الآن- ناشرون وموزعون" بعمّان، يقدّم الناقد المغربي صدّوق نور الدين قراءة تأملية معمّقة في العالم الأدبي والفكري للكاتب والناقد عبد الفتاح كيليطو، قراءة لا تتوقف عند ظاهر النصوص ولا تنجرف إلى التنظير، بل تنبع من ألفة طويلة مع عالم كيليطو، ومن رغبة صادقة في القبض على ما يشكّل نسيج مشروعه الفكري والجمالي.

فالمؤلف لا يقدّم دراسة أكاديمية بالمعنى الجاف، ولا يتوسّل التحليل الأدبي التقليدي، بل يكتب من موقع القارئ العارف الذي يعيد اكتشاف النصوص من داخلها، ويتتبع أثر المعنى في شِعاب اللغة، في مشروع نقديّ يتجاوز التفسير الانطباعي نحو مقاربة سردية وفلسفيّة لخصوصية فكر كيليطو ومكانته داخل المشهد الثقافي العربي والمغاربي.

بينيّة القراءة: بين زمنين وهاجسين

ينطلق نور الدين من لحظة شخصية حميمة جعلها مفتتحا للكتاب، إذ يستعيد لقاءه العابر بكيليطو في معرض الدار البيضاء سنة 1988، بلغة موحية تمزج بين التوثيق والترميز، فالمشهد، على بساطته الظاهرة، يستبطن قراءة لذات الكاتب بوصفه كائنا غائبا حاضرا، "يفكر واقفا"، و"يقيم في نصّ"، ويرمي نظره بعيدا كما لو كان في إحدى المقامات أو في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. هذه البداية، التي اختار لها المؤلف عنوان "من أجل هموم مشتركة"، لا تؤسس فقط لعلاقة إنسانية بين ناقد وموضوع قراءته، بل تمهّد لمفهوم جوهري يسكن الكتاب بأسره: البينيّة، فالكتاب بأسره يدور بين أمرين، فهو في منطقة متذبذبة بين القارئ والنص، وبين الماضي والحاضر، وبين التأويل والتلقي.

في هذا السياق، يصرّح المؤلف بأن هذا العمل قد نُسج على أساس مقارنة منجزين: منجز أدبيّ وفكريّ تحقّق في الماضي، وآخر في الحاضر، ليبرز من خلال هذه الثنائية مفهوم الافتقار الذي يدفع نحو القراءة: إذ لا تأويل بلا إحساس بالنقص، ولا عودة إلى النصوص إلّا باستدعاء ما لم يكتمل.

إعلان كيليطو بين التراث وسؤال الحداثة

يُخصص نور الدين فصولا متعددة لعرض مجالات اشتغال كيليطو الفكرية والنقدية، متوقفا عند أبرز موضوعاته وتقنياته. فبقدر ما يتّسم كيليطو بولعه بالنصوص التراثية، من المقامات إلى السيرة، ومن "ألف ليلة وليلة" إلى مؤلفات ابن رشد، فإنه ينفتح أيضا بعين يقظة على الأدب العالمي الحديث، كما في حضوره المتكرّر في نصوص بورخيس وغيره.

يرى المؤلف أن كيليطو هو القارئ الرهيب، بحسب بتعبيره، ذلك الذي يفرض على المتلقي أن يعيد النظر فيما قرأ، وأن يستدرك ما فاته من تقاليد الكتابة العربية والمغاربية، لا بفعل سلطته بوصفه مؤلفا، وإنما بقوة بنائه التأويلي، ووعيه النقدي المركّب، وهو قارئ لا يؤول بمنهج خارجي، بل يستبطن القراءة ذاتها بوصفها فعلا معرفيّا مركزيّا، لا ينفكّ يؤسّس لمفاهيم جديدة عن علاقة القارئ بالنص.

الاستطراد بوصفه أسلوبا في الفهم

يتوقف الكتاب عند ما يسميها المؤلف "شعرية الاستطراد"، وهو مبحث دقيق يقارن فيه بين كيليطو وعبد السلام بنعبد العالي في قدرة كلّ منهما على تحويل الهامشيّ إلى مركز، والمجتزأ إلى سياق. فالاستطراد في خطاب كيليطو لا يأتي حشوا، بل منهجا في التفكير، وجزءا من إستراتيجيّة قرائية تنقل القارئ من الدلالة الظاهرة إلى الدلالة العميقة التي تستبطن النصوص التراثية والحداثية معا.

وهذا الأسلوب يُعيد للكتابة مذاقها الأول إذ تعود مزيجا من الحكي والتأمل، ومن الدهشة والسخرية، ومن الطرافة والصرامة، ويظهر من خلاله أن كيليطو لا يبحث عن يقين نظري ونتائج نهائية، بل عن توازن دقيق بين المعرفة والمتعة والإشارة والتلميح وبين ما يُقال وما يُسكت عنه.

كيليطو والمفكرون.. جدل المثاقفة والامتداد

في مقاربات متعددة داخل الكتاب، يُجري نور الدين حوارا غير مباشر بين كيليطو وأسماء من مشارب متباينة، أبرزهم عبد الكبير الخطيبي، في إطار الحديث عن الحاجة إلى نقد أدبي جديد، يتجاوز تقاليد الفهم البنيوي أو القراءة الآلية للتراث. كما يعقد مقارنة ذكية بين صورة ابن رشد في الأدب عند كيليطو، وما تنطوي عليه هذه الصورة من إسقاطات حضارية وفكرية، بوصفها نافذة لفهم علاقة الفكر العربي بذاته.

ويستمر التداخل والمثاقفة مع خورخي لويس بورخيس من جهة، ومع المنفلوطي من جهة أخرى. وإذا كان بورخيس حاضرا في شعرية التفكير واحتمالات التأويل اللانهائي، فإن المنفلوطي يُستحضر في ضوء البدايات والتشكل، من زاوية تاريخية أكثر، الأمرُ الذي يمنح الكتاب عمقا في استعراض التحوّلات الثقافية والذوقية في الكتابة العربية.

المؤلف يُخصّص فصلا للكتابة الروائية عند كيليطو، لا بوصفه روائيّا، بل أديبا يقوم على تخوم السرد، ويؤسّس نصوصا هجينة تتلبّس لبوس القصّ، ولكنها تحتفظ بجوهرها التأويلي والفكري (مواقع التواصل) الكتابة الروائية وسؤال الحداثة

يُخصّص المؤلف فصلا للكتابة الروائية عند كيليطو، لا بوصفه روائيّا، بل أديبا يقوم على تخوم السرد، ويؤسّس نصوصا هجينة تتلبّس لبوس القصّ، ولكنها تحتفظ بجوهرها التأويلي والفكري. ومن هنا، يُطرح سؤال الأدب الحديث بوصفه مسألة إشكالية في تجربة كيليطو، فهو يعي ضعف الحظوة التي يحظى بها الأدب الحديث بالمقارنة مع الأدب القديم، لكنه في الوقت ذاته يرى حضور الأدب الحديث ضرورة نقدية وتاريخية وحياتية.

إعلان

ويرى نور الدين أن خصوصية الأدب المغربي الحديث، بما عرفه من تأخر نسبيّ في التشكّل، وبما أصابه من تأثيرات مشرقية، تدعو إلى مراجعة المفاهيم النقدية، وإعادة التفكير في مقاربات واعية تحترم الخصوصية دون أن تنكفئ على المحلية.

التأويل.. انزياح المعنى وانفتاح القراءة

ينحت صدوق نور الدين مفهوما خاصا للتأويل في قراءته، فهو لا يجعله سلطة معرفية تعلو على النص، بل حركة مستمرة داخل النص ذاته، حيث تتوالد الدلالات وتتقاطع المسالك، فالتأويل هنا ليس كشفا عن المعنى الخفي بقدر ما هو إعادة إنتاج للقراءة، وفتح للنص على أفق من القراءات المتعددة.

ومن خلال تتبّع أعمال كيليطو المتنوعة، يكشف الكاتب عن خيط ناظم دقيق، يتمثل في تحوّل القارئ إلى كاتب، والمتلقي إلى مؤوِّل، ففي كل مرة يُعاد فيها النظر في نصّ أدبي تراثي أو حداثي أو غربي، يتجدّد سؤال المعنى، ويتحوّل النص إلى معطى حي متجدد.

من أبرز ملامح كتاب "القارئ والتأويل" اللغة التي صيغ بها، إذ نجح صدّوق نور الدين في الحفاظ على مستوى عال من الرصانة الفكرية، دون أن يتورّط في تعقيد لغوي مفرط، كما حاول المؤلف بلوغ عالم كيليطو بلغة قريبة من أسلوبه السردي التأملي، فجاء الكتاب كأنه مرآة نقدية لعالم كيليطو، بل جاء امتدادا له في بعض المواطن.

إن كتاب "القارئ والتأويل" لا يقدّم قراءة تقليدية لأعمال عبد الفتاح كيليطو، بل يعيد النظر في مفاهيم التأويل، والقراءة، والمثاقفة، في ضوء مشروع كيليطو نفسه، الذي لا ينفصل فيه القارئ عن المؤلّف، ولا التأويل عن المتعة، وبهذا المعنى، تبدو مقاربة نور الدين امتدادا حيّا لتقليد نقدي عربي يسعى إلى بناء معرفة بالنصّ، لا تفصل بين البنية والأسلوب، ولا بين المتعة والفكر.

وإذا كان كيليطو قد طرح مشروعه من داخل نصوص التراث والحداثة، فإن صدّوق نور الدين يسهم من خلال هذا الكتاب في إعادة تركيب هذا المشروع، وفتحه على احتمالات تأويلية جديدة، تستحق بدورها أن تُقرأ وتُؤوّل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات نور الدین

إقرأ أيضاً:

إطلاق اسم القارئ الشحات محمد أنور على النسخة 32 من المسابقة العالمية للقرآن

قال الدكتور أسامة فخري الجندى، وكيل وزارة الأوقاف لشئون المساجد، إن الدكتور أسامة الأزهرى، قرر إطلاق اسم القارئ الراحل الشيخ الشحات محمد أنور على النسخة الثانية والثلاثين من المسابقة العالمية للقرآن الكريم.

وأضاف خلال كلمته بالمؤتمر الصحفى لإطلاق النسخة الثانية والثلاثين من المسابقة العالمية للقرآن الكريم، الاثنين، بمسجد مصر الكبير بالعاصمة الجديدة، أن عدد المرشحين للنهائيات 158 متسابقا وهو أعلى رقم مسجل في مسابقات القرآن الكريم بالعالم من 73 دولة، كما وصل رقم المتسابقين أونلاين 115 متسابق، بإجمالي جوائز 13 مليون جنيه.

وبدأت فاعليات المؤتمر، بتلاوة آيات من الذكر الحكيم للطفل عبدالله عبدالموجود، بعد عودته لمسابقة دولة التلاوة مرة أخرى، مكان أحد المتسابقين الذي اعتذر عن استكمال الفاعليات لظروفه الصحية.

ومن المقرر أن يعلن وزير الأوقاف، فروع المسابقة العالمية ٣٢ للقرآن الكريم، والدول المشاركة وعدد المتسابقين، وقيمة الجوائز، والشعار الجديد الذي تحمله هذه النسخة، في محاولة لتعزيز الاهتمام بتعلم وتجويد القرآن الكريم بين جميع الفئات.

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

القارئ الشحات محمد أنور على الدكتور أسامة فخري الجندى المسابقة العالمية للقرآن

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

أحدث الموضوعات الموضة ملكة جمال العالم 2025 بإطلالة جريئة في أحدث ظهور نصائح طبية ماذا يحدث لجسمك عند تدخين سيجارتين يوميا؟ أخبار مصر الإيجار القديم.. زيادة تصل لـ20 ضعفًا والحد الأدنى 250 جنيهًا أخبار العقارات الطرح بدأ الآن.. 20 صورة لشقق الإسكان التعاوني بـ7 مشروعات رياضة محلية "حملة قاسية".. شوبير يوجه رسالة نارية بشأن ما يحدث مع محمد صلاح أخبار مصر الإيجار القديم.. زيادة تصل لـ20 ضعفًا والحد الأدنى 250 جنيهًا منذ 17 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر السيسي يفتتح معرض إيديكس 2025.. وبيان رئاسي بالتفاصيل منذ 33 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر "الصحة": قاعدة بيانات شاملة وحوافز غير مسبوقة لتعزيز الاستثمارات الصحية منذ 34 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر وزير الصحة للمستثمرين: تسهيلات ومشروعات جاهزة للتنفيذ الفوري منذ 35 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر أتوبيسات النقل العام بالقاهرة.. مصدر يكشف تفاصيل قرار تجزئة التذكرة منذ 37 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر بالأرقام.. وزير المالية يكشف مؤشرات الإنفاق على قطاع الرعاية الصحية منذ 44 دقيقة قراءة المزيد المزيد

إعلان

أخبار

المزيد أخبار مصر الإيجار القديم.. زيادة تصل لـ20 ضعفًا والحد الأدنى 250 جنيهًا مدارس وزير التعليم يفاجئ مدارس البدرشين والصف ويشيد بانتظام العملية التعليمية أخبار المحافظات قرار جديد من النيابة ضد متهم بالتعدي على طلاب بمدرسة دولية بالإسكندرية مصراوى TV اسرع طريقة لتدمير مستقبل ولادك شئون عربية و دولية سفير أوروبي: الولايات المتحدة لن تسمح لإسرائيل بضرب إيران

إعلان

أخبار

إطلاق اسم القارئ الشحات محمد أنور على النسخة 32 من المسابقة العالمية للقرآن

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

من نحن اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

تكلفة الكيلو 47 قرشًا.. تعريفة سيارة "كيوت" بديل التوك توك في الجيزة بعد رفع الحد التأميني.. ما هي قيمة الزيادة في المعاشات ومتى التطبيق؟ إيديكس 2025.. مصر تبدأ رسميًا تصنيع أجزاء من مقاتلة "رافال" محليًا- صورة 22

القاهرة - مصر

22 12 الرطوبة: 30% الرياح: شمال غرب المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي من نحن إتصل بنا إحجز إعلانك سياسة الخصوصية خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • من صفحات "الطالع السعيد".. ملامح تأسيس الدولة البوسعيدية
  • عمرو الليثي: تدريب الإعلاميين على قضايا الدين ضرورة في عالم المنصات
  • إطلاق اسم القارئ الشحات محمد أنور على النسخة 32 من المسابقة العالمية للقرآن
  • بالفيديو… مجلس النواب يقرأ الفاتحة على روح الشهيد وصفي التل
  • «الأوقاف» تحيي ذكرى رحيل القارئ عبد الباسط عبد الصمد
  • «عزة الأمس ذلة اليوم» مخطوط من عالم أذربيجاني إلى أهل عُمان
  • لماذا يلهث الكاتب العربي خلف القارئ؟
  • تجليات الطبيعة والطفولة في «وعود اليمامة لجسد معطوب»
  • لماذا لا يقرأ الناس مالك عثامنة؟
  • مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي يحتفي بالفائزين فى المسابقات