في كتابه الجديد "القارئ والتأويل"، الصادر عن دار "الآن- ناشرون وموزعون" بعمّان، يقدّم الناقد المغربي صدّوق نور الدين قراءة تأملية معمّقة في العالم الأدبي والفكري للكاتب والناقد عبد الفتاح كيليطو، قراءة لا تتوقف عند ظاهر النصوص ولا تنجرف إلى التنظير، بل تنبع من ألفة طويلة مع عالم كيليطو، ومن رغبة صادقة في القبض على ما يشكّل نسيج مشروعه الفكري والجمالي.

فالمؤلف لا يقدّم دراسة أكاديمية بالمعنى الجاف، ولا يتوسّل التحليل الأدبي التقليدي، بل يكتب من موقع القارئ العارف الذي يعيد اكتشاف النصوص من داخلها، ويتتبع أثر المعنى في شِعاب اللغة، في مشروع نقديّ يتجاوز التفسير الانطباعي نحو مقاربة سردية وفلسفيّة لخصوصية فكر كيليطو ومكانته داخل المشهد الثقافي العربي والمغاربي.

بينيّة القراءة: بين زمنين وهاجسين

ينطلق نور الدين من لحظة شخصية حميمة جعلها مفتتحا للكتاب، إذ يستعيد لقاءه العابر بكيليطو في معرض الدار البيضاء سنة 1988، بلغة موحية تمزج بين التوثيق والترميز، فالمشهد، على بساطته الظاهرة، يستبطن قراءة لذات الكاتب بوصفه كائنا غائبا حاضرا، "يفكر واقفا"، و"يقيم في نصّ"، ويرمي نظره بعيدا كما لو كان في إحدى المقامات أو في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. هذه البداية، التي اختار لها المؤلف عنوان "من أجل هموم مشتركة"، لا تؤسس فقط لعلاقة إنسانية بين ناقد وموضوع قراءته، بل تمهّد لمفهوم جوهري يسكن الكتاب بأسره: البينيّة، فالكتاب بأسره يدور بين أمرين، فهو في منطقة متذبذبة بين القارئ والنص، وبين الماضي والحاضر، وبين التأويل والتلقي.

في هذا السياق، يصرّح المؤلف بأن هذا العمل قد نُسج على أساس مقارنة منجزين: منجز أدبيّ وفكريّ تحقّق في الماضي، وآخر في الحاضر، ليبرز من خلال هذه الثنائية مفهوم الافتقار الذي يدفع نحو القراءة: إذ لا تأويل بلا إحساس بالنقص، ولا عودة إلى النصوص إلّا باستدعاء ما لم يكتمل.

إعلان كيليطو بين التراث وسؤال الحداثة

يُخصص نور الدين فصولا متعددة لعرض مجالات اشتغال كيليطو الفكرية والنقدية، متوقفا عند أبرز موضوعاته وتقنياته. فبقدر ما يتّسم كيليطو بولعه بالنصوص التراثية، من المقامات إلى السيرة، ومن "ألف ليلة وليلة" إلى مؤلفات ابن رشد، فإنه ينفتح أيضا بعين يقظة على الأدب العالمي الحديث، كما في حضوره المتكرّر في نصوص بورخيس وغيره.

يرى المؤلف أن كيليطو هو القارئ الرهيب، بحسب بتعبيره، ذلك الذي يفرض على المتلقي أن يعيد النظر فيما قرأ، وأن يستدرك ما فاته من تقاليد الكتابة العربية والمغاربية، لا بفعل سلطته بوصفه مؤلفا، وإنما بقوة بنائه التأويلي، ووعيه النقدي المركّب، وهو قارئ لا يؤول بمنهج خارجي، بل يستبطن القراءة ذاتها بوصفها فعلا معرفيّا مركزيّا، لا ينفكّ يؤسّس لمفاهيم جديدة عن علاقة القارئ بالنص.

الاستطراد بوصفه أسلوبا في الفهم

يتوقف الكتاب عند ما يسميها المؤلف "شعرية الاستطراد"، وهو مبحث دقيق يقارن فيه بين كيليطو وعبد السلام بنعبد العالي في قدرة كلّ منهما على تحويل الهامشيّ إلى مركز، والمجتزأ إلى سياق. فالاستطراد في خطاب كيليطو لا يأتي حشوا، بل منهجا في التفكير، وجزءا من إستراتيجيّة قرائية تنقل القارئ من الدلالة الظاهرة إلى الدلالة العميقة التي تستبطن النصوص التراثية والحداثية معا.

وهذا الأسلوب يُعيد للكتابة مذاقها الأول إذ تعود مزيجا من الحكي والتأمل، ومن الدهشة والسخرية، ومن الطرافة والصرامة، ويظهر من خلاله أن كيليطو لا يبحث عن يقين نظري ونتائج نهائية، بل عن توازن دقيق بين المعرفة والمتعة والإشارة والتلميح وبين ما يُقال وما يُسكت عنه.

كيليطو والمفكرون.. جدل المثاقفة والامتداد

في مقاربات متعددة داخل الكتاب، يُجري نور الدين حوارا غير مباشر بين كيليطو وأسماء من مشارب متباينة، أبرزهم عبد الكبير الخطيبي، في إطار الحديث عن الحاجة إلى نقد أدبي جديد، يتجاوز تقاليد الفهم البنيوي أو القراءة الآلية للتراث. كما يعقد مقارنة ذكية بين صورة ابن رشد في الأدب عند كيليطو، وما تنطوي عليه هذه الصورة من إسقاطات حضارية وفكرية، بوصفها نافذة لفهم علاقة الفكر العربي بذاته.

ويستمر التداخل والمثاقفة مع خورخي لويس بورخيس من جهة، ومع المنفلوطي من جهة أخرى. وإذا كان بورخيس حاضرا في شعرية التفكير واحتمالات التأويل اللانهائي، فإن المنفلوطي يُستحضر في ضوء البدايات والتشكل، من زاوية تاريخية أكثر، الأمرُ الذي يمنح الكتاب عمقا في استعراض التحوّلات الثقافية والذوقية في الكتابة العربية.

المؤلف يُخصّص فصلا للكتابة الروائية عند كيليطو، لا بوصفه روائيّا، بل أديبا يقوم على تخوم السرد، ويؤسّس نصوصا هجينة تتلبّس لبوس القصّ، ولكنها تحتفظ بجوهرها التأويلي والفكري (مواقع التواصل) الكتابة الروائية وسؤال الحداثة

يُخصّص المؤلف فصلا للكتابة الروائية عند كيليطو، لا بوصفه روائيّا، بل أديبا يقوم على تخوم السرد، ويؤسّس نصوصا هجينة تتلبّس لبوس القصّ، ولكنها تحتفظ بجوهرها التأويلي والفكري. ومن هنا، يُطرح سؤال الأدب الحديث بوصفه مسألة إشكالية في تجربة كيليطو، فهو يعي ضعف الحظوة التي يحظى بها الأدب الحديث بالمقارنة مع الأدب القديم، لكنه في الوقت ذاته يرى حضور الأدب الحديث ضرورة نقدية وتاريخية وحياتية.

إعلان

ويرى نور الدين أن خصوصية الأدب المغربي الحديث، بما عرفه من تأخر نسبيّ في التشكّل، وبما أصابه من تأثيرات مشرقية، تدعو إلى مراجعة المفاهيم النقدية، وإعادة التفكير في مقاربات واعية تحترم الخصوصية دون أن تنكفئ على المحلية.

التأويل.. انزياح المعنى وانفتاح القراءة

ينحت صدوق نور الدين مفهوما خاصا للتأويل في قراءته، فهو لا يجعله سلطة معرفية تعلو على النص، بل حركة مستمرة داخل النص ذاته، حيث تتوالد الدلالات وتتقاطع المسالك، فالتأويل هنا ليس كشفا عن المعنى الخفي بقدر ما هو إعادة إنتاج للقراءة، وفتح للنص على أفق من القراءات المتعددة.

ومن خلال تتبّع أعمال كيليطو المتنوعة، يكشف الكاتب عن خيط ناظم دقيق، يتمثل في تحوّل القارئ إلى كاتب، والمتلقي إلى مؤوِّل، ففي كل مرة يُعاد فيها النظر في نصّ أدبي تراثي أو حداثي أو غربي، يتجدّد سؤال المعنى، ويتحوّل النص إلى معطى حي متجدد.

من أبرز ملامح كتاب "القارئ والتأويل" اللغة التي صيغ بها، إذ نجح صدّوق نور الدين في الحفاظ على مستوى عال من الرصانة الفكرية، دون أن يتورّط في تعقيد لغوي مفرط، كما حاول المؤلف بلوغ عالم كيليطو بلغة قريبة من أسلوبه السردي التأملي، فجاء الكتاب كأنه مرآة نقدية لعالم كيليطو، بل جاء امتدادا له في بعض المواطن.

إن كتاب "القارئ والتأويل" لا يقدّم قراءة تقليدية لأعمال عبد الفتاح كيليطو، بل يعيد النظر في مفاهيم التأويل، والقراءة، والمثاقفة، في ضوء مشروع كيليطو نفسه، الذي لا ينفصل فيه القارئ عن المؤلّف، ولا التأويل عن المتعة، وبهذا المعنى، تبدو مقاربة نور الدين امتدادا حيّا لتقليد نقدي عربي يسعى إلى بناء معرفة بالنصّ، لا تفصل بين البنية والأسلوب، ولا بين المتعة والفكر.

وإذا كان كيليطو قد طرح مشروعه من داخل نصوص التراث والحداثة، فإن صدّوق نور الدين يسهم من خلال هذا الكتاب في إعادة تركيب هذا المشروع، وفتحه على احتمالات تأويلية جديدة، تستحق بدورها أن تُقرأ وتُؤوّل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات نور الدین

إقرأ أيضاً:

الإبادة الجماعية في غزة.. انهيار العدالة الدولية بين النص والواقع.. كتاب جديد

العنوان: العدالة المعطَّلة: غزة والإبادة الجماعية في ميزان القانون الدولي
تأليف: د. محمود خالد الحنفي
تقديم: د. أنيس فوزي قاسم
تاريخ الصدور: 2025
عدد الصفحات: 170 صفحة
الناشر: المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)


يأتي كتاب "العدالة المعطَّلة: "غزة والإبادة الجماعية في ميزان القانون الدولي"، من تأليف الخبير القانوني د. محمود خالد الحنفي، وتقديم الخبير القانوني د. أنيس فوزي قاسم، في سياق بالغ الحساسية من تاريخ القضية الفلسطينية، حيث تتقاطع فيه المجازر الواسعة في قطاع غزة مع بنية قانونية دولية تزداد هشاشة، وتبدو عاجزة عن أداء دورها المفترض في حماية المدنيين، وردع الجرائم الدولية، ومحاسبة مرتكبيها. يمثّل الكتاب عملاً تحليلياً قانونياً وسياسياً، يقوم على التوثيق والحجاج، ويهدف إلى مساءلة النظام الدولي من داخل منظومته القانونية، لا من الخارج فقط. ويقدّم الكتاب رؤية شاملة ومتماسكة تجمع بين القانون والسياسة والواقع الميداني.

تكمن قوة الكتاب في عدة جوانب:

ـ الربط بين الجرائم الواقعية والإطار القانوني الدولي، بما يجعل الاتهامات ذات أساس حقوقي متين.

ـ التحليل النقدي لمسار العدالة الدولية، بعيداً عن الرومانسية القانونية.

ـ قراءة معمّقة للتحولات السياسية العالمية وتأثيراتها على القضية الفلسطينية.

ـ توسيع زاوية النظر لتشمل لبنان وإيران، وهو ما يقدّم إطاراً إقليمياً لفهم الحرب.

ويمكن القول إن الكتاب يقدّم أطروحة واضحة: ما يجري في غزة جريمة إبادة جماعية مكتملة العناصر، والمنظومة الدولية (القانونية والسياسية) ليست عاجزة فقط، بل متواطئة عبر الصمت أو المشاركة الفعلية. بهذا، يصبح الكتاب وثيقة هامة لفهم اللحظة التاريخية الراهنة، وتفسير موقع فلسطين ضمن نظام عالمي يُعاد تشكيله، حيث تتصارع القيم الإنسانية مع مصالح القوى الكبرى، وتتجلى هشاشة العدالة الدولية في أوضح صورها. ويمثل الكتاب إضافة نوعية في الأدبيات العربية القانونية، لأنه لا يكتفي بتوثيق الجرائم، بل يسعى إلى تفكيك بنيتها القانونية، وفضح تعطيل العدالة على المستوى الدولي.

الكتاب يقدّم أطروحة واضحة: ما يجري في غزة جريمة إبادة جماعية مكتملة العناصر، والمنظومة الدولية (القانونية والسياسية) ليست عاجزة فقط، بل متواطئة عبر الصمت أو المشاركة الفعلية.ويقدّم الكاتب، من خلال أربعة فصول رئيسية وخاتمة، قراءة معمّقة لطبيعة الجريمة الجارية في قطاع غزة، مسارات العدالة الدولية، التحوّلات السياسية العالمية، والامتدادات الإقليمية للحرب.

أولاً ـ الإبادة الجماعية في غزة والحصار كأداة قتل

يفتتح المؤلف كتابه بقراءة قانونية وإنسانية للعدوان على قطاع غزة بعد 7/10/2023، مؤكداً أن ما يجري يتجاوز الحرب التقليدية، أو العمليات العسكرية المتعارف عليها، ليصل إلى نموذج متكامل لجريمة الإبادة الجماعية.

يبدأ الفصل بإطار نظري يعرّف جريمة الإبادة وفق اتفاقية 1948، ويبيّن عناصرها القانونية: النية، والاستهداف، والأفعال المادية، والنتائج. ثم يطبّق هذا الإطار على الوقائع الميدانية التي شهدها قطاع غزة، مستنداً إلى عشرات الأمثلة: القتل الجماعي، واستهداف المدنيين، وتدمير المنشآت الحيوية، والحصار، والذي يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح. ويرى الكاتب أنّ سلوك الاحتلال يقدّم شواهد واضحة على نية الإبادة، من خلال الخطاب الرسمي، وأوامر القادة العسكريين، وسلوك الوحدات الميدانية.

يقدّم الكتاب وصفاً دقيقاً لمجازر محددة، أبرزها مجزرة رفح في حزيران/ يونيو 2025، بوصفها إحدى المحطات الأكثر دموية، إذ تُستقبل فيها الحشود الجائعة بالنار بدل الغذاء، وتُستغل الحاجة الإنسانية لمراكمة الضغط والقتل، ما يجعل الفعل ليس مجرد خطأ عسكري، بل سياسة ممنهجة.

ويعالج الكتاب الحصار الممتد منذ عام 2007 بوصفه جزءاً من مشروع الإبادة، وأداة مركزية في القتل الجماعي، وليس مجرد إجراء أمني. ويبين أنّ الاحتلال استخدم الحصار لإفقار السكان، ومنع نموّهم السياسي والاجتماعي، وتقييد قدراتهم على البقاء. ويشير الكاتب إلى أنّ التجويع المتعمّد، ومنع الماء والدواء والوقود، لا يمكن تفسيره إلا ضمن إطار نية تدمير الجماعة الفلسطينية، خصوصاً مع وصول غزة إلى المرحلة الخامسة من مستويات المجاعة وفق تصنيفات الأمن الغذائي.

ويوضح الكاتب كيف تحوّل التجويع إلى إستراتيجية لا تستهدف المقاتلين، بل المجتمع برمّته، خصوصاً الأطفال والنساء؛ ويرصد الجهود التي صاغتها "إسرائيل" والولايات المتحدة عبر “مراكز توزيع الغذاء”، والتي وصفها بأنها مناورة ناعمة هدفها الالتفاف على الاتهامات الدولية، وليست محاولة حقيقية للإغاثة.

ويمضي الفصل إلى تحليل الانهيار الإنساني الشامل في قطاع غزة، وسط صمت دولي مريب، وفشل المجتمع الدولي في التفاعل مع هذه الكارثة، سواء بسبب المواقف السياسية، أو بسبب انعدام الإرادة القانونية، أو عبر صمت الأنظمة الإقليمية، ورفض لفتح المعابر أو السماح بدخول المساعدات الكافية. ويطرح المؤلف سؤالاً محورياً: هل يكون الصمت الدولي جريمة بحدّ ذاتها؟

وفي القسم الأخير من الفصل، ينتقل الكتاب إلى المسار القانوني الفلسطيني وصولاً إلى المحكمة الجنائية الدولية. ويتساءل المؤلف عن أسباب التعثر البنيوي في التحركات القانونية، مشدداً على أن الخلل يكمن في غياب القرار السياسي الموحد، وافتقار العمل القانوني إلى التخطيط المهني المؤسسي.

ويخلص هذا الفصل إلى أن ما حدث في قطاع غزة ليس عدواناً عسكرياً فحسب، بل نموذج لتقاطع الجريمة الدولية مع الإفلات من العقاب.

ثانياً ـ العدالة الجنائية الدولية بين التعطيل والضغط

يُعدّ هذا الفصل من أكثر أجزاء الكتاب نقداً ووضوحاً. ينطلق من لحظة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 باعتبارها "تتويجاً لمسيرة العدالة العالمية"، ثمّ يكشف هشاشتها أمام نفوذ الدول الكبرى، وخصوصاً في القضايا التي تمسّ إسرائيل، والتناقض الصارخ بين ما كان يفترض أن تكونه المحكمة، وما أصبحت عليه اليوم من ضعف، وتسييس، وانتقائية.

يستعرض المؤلف استقالة المدعي العام كريم خان بوصفها محطة كاشفة لعمق الأزمة داخل المحكمة، ويحلل تداعياتها على الملفات المرتبطة بفلسطين. ويذهب إلى أن الضغوط السياسية، وبشكل خاص من الدول الغربية الداعمة لـ"إسرائيل"، لعبت دوراً واسعاً في تعطيل عمل المحكمة أو توجيهه، بعكس أدائه في ملفات أخرى مثل أوكرانيا.

ثم يبحث في ما يدور داخل المحكمة الجنائية الدولية من تجاذبات قد لا تكون ظاهرة للرأي العام، مبيناً أن المؤسسة تعيش انقسامات داخلية، وصراعاً بين الرؤية الحقوقية والرؤية السياسية التي ترعاها دول كبرى تخشى فتح ملفاتها. ويذهب المؤلف إلى أنّ العدالة الجنائية الدولية لا تتعطل بسبب نقص الأدلة، بل بسبب غياب الإرادة السياسية.

ويُعالج الكتاب مسألة ما إذا كان تنحي خان، أو أي تغيير مشابه، يشكّل مساءلة حقيقية أم مجرد "ورقة ضغط" لإعادة إنتاج ذات النهج. ويستدل على ذلك بتباطؤ الإجراءات، وبازدواجية المعايير في التعامل مع جرائم الحرب حول العالم.

كذلك يستعرض الدور المحتمل للقضاء الأوروبي في ملاحقة مجرمي الحرب، مسلطاً الضوء على تجارب قضائية في إسبانيا، وألمانيا، وبلجيكا، لكنها بقيت محدودة بفعل الضغوط السياسية.

ويختم الفصل بسؤال كبير: لماذا تأخرت العدالة؟

ويقدّم إجابة صريحة مفادها أن العدالة الدولية ليست فقط مؤسسة قضائية، بل هي مشروع سياسي يتطلّب موازين قوى كي يعمل، وأن ضعف الإرادة الدولية يجعل القوانين حبراً على ورق. وتصل خاتمة الفصل إلى أن تأخر العدالة ليس عارضاً، بل نتيجة بنيوية لهيمنة السياسة على القانون في المؤسسات الدولية.

ثالثاً ـ تحولات الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية

يفتح هذا الفصل صفحة جديدة من التحليل السياسي، فيرصد التغيّرات غير المسبوقة في مواقف العديد من الدول الغربية تجاه "إسرائيل"، بعد عقود من الدعم المطلق. ويرى الكاتب أن مشاهد المجازر في قطاع غزة، وانتشار التوثيق الرقمي المباشر، ووعي الشعوب الغربية، كلها عوامل أعادت تشكيل الوجدان السياسي العالمي. ويبين أن العدوان شكّل لحظة كشف أخلاقي وسياسي دفعت بعض الدول الغربية إلى مراجعة مواقفها التقليدية المؤيدة لـ"إسرائيل".

ويركز الفصل على السؤال الجوهري: هل تخلّت أوروبا عن "إسرائيل"؟

يستعرض المؤلف استقالة المدعي العام كريم خان بوصفها محطة كاشفة لعمق الأزمة داخل المحكمة، ويحلل تداعياتها على الملفات المرتبطة بفلسطين. ويذهب إلى أن الضغوط السياسية، وبشكل خاص من الدول الغربية الداعمة لـ"إسرائيل"، لعبت دوراً واسعاً في تعطيل عمل المحكمة أو توجيهه، بعكس أدائه في ملفات أخرى مثل أوكرانيا.
ويجيب بأن أوروبا لم “تبع” بالكامل "إسرائيل"، لكنها باتت تواجه مأزقاً أخلاقياً وسياسياً، في ظلّ وضوح حجم الجرائم المرتكبة. بعض الدول الأوروبية بدأت، للمرة الأولى، تعترف صراحة بفظاعة الانتهاكات الإسرائيلية، وتدين الجرائم المرتكبة، وتتبنى سياسات جديدة، مثل اعتراف بعض الدول بدولة فلسطين، أو تعليق صادرات السلاح.

لكن د. حنفي يشدد على أن أوروبا ما تزال مرتبكة، وأن التحول لا يعني انقلاباً كاملاً في سياسة القارة، ويبيّن أن هذه التحولات ليست أخلاقية فقط، بل مرتبطة أيضاً بحسابات سياسية داخلية: ضغط الرأي العام، وصعود اليسار الأخضر، وتغير أولويات الأمن الأوروبي.

كذلك يناقش مسؤولية الدول الداعمة لـ"إسرائيل" أمام القانون الدولي، مؤكداً أن الدعم العسكري والسياسي يجعل هذه الدول شريكة في الجريمة وفقاً لقواعد المسؤولية الدولية عن التواطؤ.

وفي نهاية الفصل، يعرض الكاتب أدواراً سياسية وجيوسياسية جديدة لإيران ولبنان في تشكيل المشهد الإقليمي، وتأثير ذلك على مواقف العواصم الغربية، مشيراً إلى أن هذا الحضور يضيف طبقات جديدة للتحليل القانوني والسياسي. ثمّ ينتقل الكاتب إلى قراءة تأثير اغتيال إسماعيل هنية في طهران على المشهد الإقليمي. ويخرج الفصل بنتيجة أن تحولات الموقف الدولي ليست وليدة التعاطف، بل هي مزيج من ضغط الرأي العام، وأزمة القيم الغربية، وإعادة تموضع سياسي عالمي.

رابعاً ـ على هامش حرب غزة.. لبنان وإيران

يبحث الفصل الرابع في الامتدادات الإقليمية للحرب على قطاع غزة، ليثبت الكاتب أن العدوان لم يكن حدثاً محلياً معزولاً، بل شرارة توسعت إلى لبنان وساحات أخرى، في لحظة تحوّل كبرى.

يبدأ بتحليل ما جرى في مخيّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويتناول قضية الأسلحة الفلسطينية في لبنان، وموقع الدولة اللبنانية في هذا السياق. ويطرح أسئلة حول مفهوم السيادة وحدودها، وما إذا كانت الإجراءات التي اتُخذت تلتزم بالقانون الدولي أو تدخل في سياقات ضغط سياسي داخلي وخارجي.

ثم يقدّم توصيفاً قانونياً جديداً لعدد من الأحداث، منها:

ـ تفجيرات البيجر في لبنان في أيلول/ سبتمبر 2024.
ـ والتجديد لقوات اليونيفيل عام 2024.
ـ وسياسة "إسرائيل" في تدمير المنازل في جنوب لبنان.

ويبرز الكاتب أن كثيراً من هذه العمليات تدخل ضمن استراتيجية عسكرية إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى إيجاد واقع سكاني جديد، وتدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الحدودية.

كذلك يناقش استهداف المبنى القنصلي الإيراني في دمشق، ويصفه بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي واتفاقية فيينا، وتعدٍّ مباشر على سيادة دولة ذات عضوية دولية. ويعدّه سابقة خطيرة تكسر قواعد القانون الدولي المتعلقة بحرمة المنشآت الدبلوماسية، وهو ما يرفع منسوب التوتر الإقليمي.

ويبلغ الفصل ذروته التحليلية في قراءة الأبعاد القانونية لاغتيال إسماعيل هنية داخل الأراضي الإيرانية، حيث يكشف حجم الانفلات في المعايير الدولية، وانحدار الردع العالمي. ويؤكد المؤلف أن الاغتيال يشكّل: خرقاً خطيراً لقواعد القانون الدولي، واعتداءً على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، وجريمة اغتيال سياسي عبر الحدود، وتهديداً للنظام الدولي برمّته إذا ما تم التعامل معه بلا مساءلة.

خلاصة الفصل: أن المنطقة بأسرها دخلت مرحلة جديدة عنوانها تآكل قواعد القانون الدولي في الشرق الأوسط، واتساع هامش القوة على حساب الشرعية.

الخاتمة ـ العدالة المعطّلة بين القانون والسياسة

تختصر الخاتمة روح الكتاب: إحساساً بالغضب القانوني والأخلاقي من عجز المجتمع الدولي عن حماية الشعب الفلسطيني. وتظهر الخاتمة أن الكتاب ليس مجرد تحليل قانوني، بل صرخة في وجه نظام دولي ينهار أخلاقياً وقانونياً.

بعض الدول الأوروبية بدأت، للمرة الأولى، تعترف صراحة بفظاعة الانتهاكات الإسرائيلية، وتدين الجرائم المرتكبة، وتتبنى سياسات جديدة، مثل اعتراف بعض الدول بدولة فلسطين، أو تعليق صادرات السلاح.يؤكد الكاتب أن المنظومة القانونية الدولية ليست مجرد نصوص، بل ضرورة أخلاقية لضمان الأمن العالمي. ومع استمرار الجرائم، وغياب الردع، وخضوع العدالة لاعتبارات السياسة، تتحوّل هذه المنظومة إلى "ديكور أخلاقي يجمّل واقعاً دامياً".

ويشدّد على أن الإبادة الجماعية في قطاع غزة ليست حدثاً محلياً، بل اختبار عالمي لمنظومة القانون الدولي. فإذا فشل العالم في وقفها، فإن ذلك يهدد بانهيار الثقة بالقانون الدولي، ويمنح الضوء الأخضر لجرائم مشابهة في أماكن أخرى من العالم. ويؤكد أن الإبادة في غزة كشفت الفجوة الهائلة بين النص القانوني والواقع، وأن صمت المجتمع الدولي يعمّق الإفلات من العقاب.

الخلاصة

تُظهر قراءة الكتاب أنّ د. الحنفي لا يقدم عملاً توصيفياً، بل يطرح رؤية استراتيجية تُعيد بناء أدوات النضال القانوني. ويبرز الكتاب عناصر أساسية يمكن تلخيصها كالآتي:

ـ الإبادة الجماعية في غزة ليست افتراضاً سياسياً، بل ملفاً قانونياً مكتملاً بالأدلة.
ـ غياب العدالة ليس فشلاً قانونياً، بل قرار سياسي مقصود.
ـ التحول الدولي، خصوصاً الشعبي، يمثل فرصة لإعادة بناء مسار المساءلة.
ـ النضال القانوني ينبغي أن يكون مساراً تراكمياً متعدد الجبهات: دولياً، ووطنياً، وإعلامياً.

ويظهر أنّ المؤلف يربط بين القانون والسياسة كطريق لفهم جوهر التعطيل في قضية فلسطين. وهنا تكمن أهمية الكتاب: فهو لا يمنح القارئ إجابات جاهزة، بل يضع أمامه خريطة معقدة تربط بين الإبادة، والعدالة، والسياسة الدولية.

*باحث مختص بالشأن الفلسطيني

مقالات مشابهة

  • الإبادة الجماعية في غزة.. انهيار العدالة الدولية بين النص والواقع.. كتاب جديد
  • أيهما أفضل: الكتاب الورقي أم الإلكتروني؟
  • عمرو الليثي: تدريب الإعلاميين على قضايا الدين ضرورة في عالم المنصات
  • بالفيديو… مجلس النواب يقرأ الفاتحة على روح الشهيد وصفي التل
  • «الأوقاف» تحيي ذكرى رحيل القارئ عبد الباسط عبد الصمد
  • قصور الثقافة تحتفل باليوبيل الذهبي لنقابة اتحاد كتاب مصر
  • «عزة الأمس ذلة اليوم» مخطوط من عالم أذربيجاني إلى أهل عُمان
  • لماذا يلهث الكاتب العربي خلف القارئ؟
  • تجليات الطبيعة والطفولة في «وعود اليمامة لجسد معطوب»
  • لماذا لا يقرأ الناس مالك عثامنة؟