تاريخ الذهنيات في عُمان ..عن الخفي والمشترك والمترسب في وعينا الجماعي
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
«كتبنا تاريخ الملوك؛ لكنّنا لم نكتب تاريخ الأمة»
فولتير
«التاريخ السرديّ جثّةٌ يجب عدمُ النفخ فيها، وفي صورة إعادة الحياة لها يجب إعدامها مرة أخرى»
جاك لوجوف.
يحلو لنا في عُمان سرد الحديث عن عراقة تاريخنا بزهوٍ وفخر؛ عن قِدَم النشاط البشريّ بتعدّد أشكاله على هذه الأرض منذ آمادٍ سحيقة، عن أشكالٍ من الهياكلِ الإداريّة التي تعاقبت على حكم البلاد وتسييرها في مختلف الحقب، وعن الملوك والأئمة والسلاطين الذين تركوا أثرًا بارزًا في مجريات الأحداث، وعن المعارك التي خاضها الأبطال بشجاعةٍ وبسالة، وغير ذلك من الأحداث والوقائع التي شهدتها البلاد عبر آلاف السنين.
وهي بلا شك، مدوّنة تمثل كنزًا ثقافيًّا وخزينًا مهمّا من الإخباريات عن بعض مجريات الأحداث في عُمان؛ بالنظر إلى قلة المؤلفات التاريخيّة المبكّرة، وتراجع الاهتمام بالتدوين التاريخي مقارنة بالمعارف والعلوم الأخرى، على نحو ما هو معروف في الأدبيات العمانيّة، التي تختزلها مقولة السالميّ: «...وأهل عُمان لا يعتنون بالتاريخ». ولذلك تشكل هذه المدونة أهميّة كبيرة وإرثًا زاخرًا من حيث قيمتُها التسجيلية لسيرورات الأحداث التاريخيّة في عُمان، ومتابعة تسلسلها الزمني، ورصد مآلاتها.
بيد أنه عند الحديث عن تفسير تلك السيرورات، بحثًا عن الصورة الكاملة؛ لا بدّ لنا أنّ نعود إلى ما يُعرف بعلم الاجتماع التاريخي، وذلك بقراءة الأحداث بالنظر إلى «أسبابها وعللها» بحسب التعبير الخلدوني الشهير، عندما أعلن أهمية ربط السرديّات التاريخية في إطار ما أسماه «طبائع العُمران وعوارض الاجتماع الإنساني». لذلك، وقبل أن نذهب إلى الحديث عن تاريخ الذهنيات، لابد لنا أن نتفق بداءة أن التاريخ لا يتشكّل من أحداث ووقائع كبرى فقط؛ بل يتأسس قبل ذلك على مجموعة من المعطيات؛ تشكل محصِّلتُها إرهاصاتٍ ومسبباتٍ للوقائع اللاحقة؛ فولادة الأحداث التاريخيّة الكبرى ليست إلا جزءًا من صيرورةٍ خاضعة لشروط وظرفيّات اجتماعيّة واقتصاديّة وديموغرافيّة...؛ أي إن الوقائع والأحداث التي نرويها ليست إلا «الغُبار الدّامي» للظاهرة التاريخية بحسب عبارة جاك لوجوف، أو بعبارة أخرى ما هي إلا «زبد التاريخ» كما يقول بول فاليري، أما الأساس فهي تلك الغليانات العميقة التي تحدث في البنى الاجتماعية.
ولقد عُنيت المعرفة التاريخية الحديثة بـ«الاجتماعيّ» بوصفه مدخلًا لتفسير الظاهرة التاريخية، وتفكيك السرديات التقليدية، بل وإعلان موتها، وإعادة بناء منهجية الكتابة التاريخية وفقا لمعطيات ما عُرف بالتاريخ الجديد. لقد تغيّر مفهوم التاريخ جذريًّا، عندما أزاح روّاد التاريخ الجديد الحدثَ، والفردَ، والسردَ من دوائر اشتغالات البحث التاريخي، وحلت محلّها فكرة البحث في الظاهرة التاريخية، أو «الواقعة الاجتماعية الشاملة» بتعبير بول ريكور، التي يتحرك في إطارها النشاط البشري في مختلف مستوياته، وبرزت عدد من النماذج التفسيرية التي ترنو إلى دراسة الظاهرة التاريخية؛ وهي جميعها تشترك في الاهتمام بالبعد الاجتماعي بوصفه محورا أساسيا لكتابة تاريخ كليّ شموليّ؛ «فعلم الاجتماع والتاريخ كلاهما مغامرة واحدة للعقل، فهما ليسا الوجه والقفا للنسيج ذاته، بل هما النسيج ذاته في كثافة خيوطه» كما يقول برودويل.
في هذا الإطار، ظهر تاريخ الذهنيات/العقليّات بوصفه نموذجا تفسيريّا، ورؤيةً لكتابة تاريخ يأتي على النقيض من التصورات الخطيّة للتاريخ، حيث يذهب إلى ما وراء الحدث، بالاتجاه نحو ما هو أعمق وأشمل، بتحليل المواقف وأنساق التفكير والتمثلات الجماعيّة لمجتمع محدد.
تاريخ العقليات: المفهوم ومرجعياته
يُفصّل الباحثون الحديثَ في المرجعيّات النظرية لمصطلح «العقلية/الذهنية»، وتطور معنى الكلمة واختلاف حمولاتها الدلالية، وانتقالها من حقل الدراسات النفسية والاجتماعية إلى البحث التاريخي. ويعزو الباحثون ازدهار هذا المفهوم بوصفه شكلًا من أشكال التاريخ الجديد على يد أساتذة مدرسة الحوليات، ويأتي في طليعتهم المؤرخان الفرنسيان لوسيان فيفر ومارك بلوخ، وفي مرحلة لاحقة برودويل وجاك لوغوف وفيليب أرياس، ... وآخرون.
يبحث تاريخ العقليات في نظام القيم والأنساق التي تشكل الذهنية الجماعية: في طرائق تفكيرها، وفي تمثلاتها إزاء واقعها الاجتماعي. يحلل هذا الضرب من التاريخ البنى الذهنية بحثا عن «النسيج الضامّ لروح المجتمعات» بحسب عبارة جاك لوجوف، ولذلك تستلزم كتابة تاريخ العقليات كما يقول احتكاكًا كبيرًا بتاريخ الأنظمة الثقافيّة وأنساق المعتقدات والقيم والأفكار حيث تكونت العقلياتُ وترعرت وتطورت؛ إنّه شكلٌ من أشكال الأنثروبولوجيا التاريخية التي تحلّل المشترك الجماعيّ لمجتمعٍ ما في فترة من تاريخه.
يخبرنا فيليب أرياس، وهو أحد أبرز المؤرخين الجدد المشتغلين بتاريخ الذهنيات، أن المؤرخ في عمله هذا يبحث عن مفاتيح الاستراتيجيات الدالّة على التصورات الذهنية، وطرق الإحساس والتفكير التي توجّه وتنظم المجموعات البشرية. إنه تاريخ «يسمح لنا بأن نكتشف ما هو مترسب وخفيّ ولا واعٍ في الثقافة»، أي إنّه تاريخ يعالج ما ينفلت من الأفراد ويكشف عن المضمون اللاشخصي لتفكيرهم، بحسب لوجوف. إنّ مؤرخي الذهنيات يتحدثون عن «بنية ذهنية» وعن «رؤية للكون» تنتظم فيها خطوط متناسقة تعبر عن نسق مستتر فرض نفسه على المعاصرين.
وللكشف عن مضمون البنى الذهنية لمجتمع ما، تَتَناهجُ العلوم والمعارف وتتعاضد، على نحو ما نلْفِيه من دعوةٍ إلى كسر الحواجز بين التخصّصات في مقاربات التاريخ الجديد؛ إذ يلجأ الباحث إلى الاستعانة بعلوم متعدّدة، في صيغة تأخذ شكل الدراسات البينيّة بغية تخصيب البحث التاريخيّ، وتشييد صورة شاملة تُحيط بالظاهرة الإنسانية من مختلف جوانبها، لذا فإن تحليل الظاهرة التاريخية بحسب تأريخ العقليات كما يدعو إلى ذلك مؤرخوها يقتضي الانفتاح على علوم النفس، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، والآداب، والألسنيات، ومناهج تحليل الخطاب، وغيرها من العلوم المجاورة.
وإذا كان فلاسفة المعنى يقولون إن كل شيءٍ دالٌّ؛ فإن المؤرخين الجدد يرون في «كل شيء مصدرًا لتأريخ الذهنيات»؛ أي إنّ كل شيء تركته المجتمعات سواء أكان ماديا أو معنويا يمكن أن نتأوّل منه مادة تفيد في بناء الصرح التاريخيّ المنشود، ويبقى على المؤرخ أن يعمل جردًا للمصادر التي تشهد على السيكولوجيا الجماعية للمجتمع المدروس. لقد وسّع تاريخ العقليات مدوّنة البحث التاريخي، فأصبح «كل أثرٍ شاهدًا جماعيًّا على عصره».
وقد شهد مفهوم تاريخ العقليات/الذهنيّات مراجعاتٍ نقديّةً عديدةً، إن لم نقل هجومًا عنيفًا أحيانًا كما نقرأه عند فرانسوا دوس في «التاريخ المفتّت»، وميشيل فوكو في «حفريات المعرفة» على سبيل المثال، وهي مراجعاتٌ في غاية الأهميّة في نقد هذا المسلك البحثي وتطويره مفهومًا وإجراءاتٍ وأدواتٍ ومصطلحًا، بما لا يتسع بسط تفاصيل كل ذلك في هذه المقالة القصيرة، غير أنّ مما تجدُر الإحالة إليه هو المساهمة المعرفيّة الكبيرة التي أضافها بول ريكور في كتابه المرجعيّ: (الذاكرة، التاريخ، النسيان) الصادر مطلع الألفية الجديدة، فبعد أن عمل على تقديم مسحٍ معرفيّ نقدي لما أنجز في مسلك بحث تاريخ العقليات، مناقشا ارتقاءَه سُدَّة الاهتمام البحثي في أوروبا منتصف القرن الماضي؛ قدّم تصوّرا تطويريا يرتكز على ما أسماه «تنوع المقاييس»، واضعا مفهوم «تاريخ التمثلات» بديلا مفاهيميا في إطار مقاربة يتوخى منها أن تكون مقاربة جامعة لتاريخ المجتمعات؛ حيث يرى أن التمثلات هي أكثر تعبيرا عن تعددية المعاني والتمايز والتزمين المتعدد للظواهر الاجتماعية.
دراسة العقل العماني
إذا كان السرد التاريخيّ القائم على النمط التسجيليّ مفهومًا ومقدرًا في الكتابات التاريخية المبكرة؛ فإنّ الركون إليه مع تقدم المعرفة التاريخية، هو - بشكل أو بآخر- استمرار واستمراء لإخفاء أجزاء كبيرة من واقع الظواهر التاريخية؛ إذ لم يعد مُنتجًا ومُفيدًا أن تجترّ الأعمال التاريخية اليوم ما نجده مكتوبًا في الأرشيفات والمدونات التاريخية التقليدية؛ ما نحتاجه هو ترميمها، وردم الفجوات الإشكالية فيها، فضلا عن إثارة الأسئلة الجديدة إزاء مروياتها وأخبارها. وما تدعو إليه أسطر هذه المقالة هو اقتراح مسلك بحثيّ يتوغّل في تاريخ الذهنيّة العُمانية، سعيا لإرساء توجّه يدرس الحركة الشاملة للإنسان في عُمان؛ على مختلف مراحلها وتحولاتها التاريخية والاجتماعية.
يدفعنا كل ما سبق؛ إلى التساؤل عمّا أسهمته الدراسات الحديثة في سبيل كتابة تاريخ عمان الاجتماعي، وخصوصا بعد مَأْسَسة التعليم في عصرنا الراهن، والاطلاع على مناهج البحث، وما أنجزته «الثورات» الإبستمولوجية في البحث التاريخي خلال القرن الماضي في أوروبا. إلى أي مدى أسهم بحثنا التاريخي اليوم في رصد حركيّة العقل العماني وتحليل بناه الذهنيّة في مختلف الحقب التاريخية؟ وتلمّس أثر كل ذلك في تفسير سيرورات الأحداث.
بنظرة ببليوجرافية على ما يمكن أنْ نسميه بالأسطوغرافيا العُمانية الحديثة؛ يمكن للمتتبع أن يلاحظ ندرة الأعمال البحثية المهتمّة بتاريخ الاجتماع في عُمان، فضلا عن تاريخ العقليّات، وما أنجز في هذا المسلك البحثيّ لا يعدو مقالاتٍ أو فصولًا مجزوءة متناثرةً في بعض الكتب والأطروحات الجامعيّة، مع ما يعتورها من عثرات البدايات، وغياب العُدّة المنهجية الملائمة لمثل هذه الدراسات التي تنفتح على أكثر من أفق ومجال معرفيّ.
في محاورة مطوّلة أجريتُها في مجلة نزوى (العدد 106)، تساءل أستاذنا الناقد الجزائري أحمد يوسف عن مشكل غِياب المؤرّخ في عُمان، رغم ما يحفل به تاريخُ هذا البلد العريق من تحوّلات اجتماعيّة وفكريّة، عراقة «تضاهي تاريخ الدول العربية الكبرى» كما يقول، ولماذا لم تنجح مؤسسات التعليم في صناعة هذا المؤرخ؟! بطبيعة الحال لم يكن المقصود المؤرخ بمفهوم المدوّن التقليديّ، الذي يجمع أخبار الأحداث والوقائع ويدوّنها بصورة تأخذ شكل التعاقب الخطيَّ الكرونولوجي؛ وإنما المؤرخ بالمعنى الفوكوي، ذاك الذي يتمرّس البحث الحفريّ بين طبقات الظاهرة البشريّة، ويرتاد مناطق المُضمر والمسكوت عنه في الخطاب.
إنّ إجابة متسرّعة على هذا السؤال المركّب ستبدو ضربًا من التخرّص أو الادّعاء المذموم؛ لكن على سبيل التفكير، أتصوّر أنّ من أهم الإشكالات التي نُعاني منها في مؤسساتنا التعليمية، هي سمة الانغلاق على التخصص التي تصطبغ بها معظم الأقسام الجامعيّة، وفي أقسام العلوم الاجتماعية منها على وجه التحديد.
في تقديري؛ لا يكمُن أساس مشكل البحث التاريخي في قلة الباحثين والمهتمين، أو ضعف الاهتمام بالشأن التّاريخي، وإنما في طريقة تكوين الباحث في هذا المضمار البحثي الواسع، الذي يتطلب أن يكون فيه الباحث على مستوى من الانفتاح على المعارف الإنسانية التي ستتيح له اتساعا في مدارك النظر وتحليل الظواهر البشرية بمختلف تجلياتها، ولن يتأتى له ذلك إلا بتوسيع المعرفة التاريخية، بالتضلع بالعلوم المجاورة لعلم التاريخ، التي تمكنه من قراءة المصادر التي تنتمي إلى حقول معرفية مختلفة.
أتصور؛ أنه يتوجب علينا ألا ننظر إلى التاريخ بمعزل عما تركه إنسان عُمان من آثار في كافة مناحي الحياة، على اتساع ما تعنيه كلمة آثار: فقها، وأدبا، وعلوما، وغناء، وحكايات شعبية، وأساطير، ومعتقدات، وأنماط عمارةٍ، ومعطيات جغرافية وديموغرافية... إلخ؛ بما تحمله كل تلك الحقول من خزينٍ يضجّ بكثير من الرموز والعلامات والإشارات الحاملة لمعتقداته وأنساق تفكيره، والتي ترسم صورا واسعة عن ملامح ذهنيته، وبالاستتباع تنقل إلينا ملامح من مجتمعه وعصره. ما يتوجب على الباحث هو تقديم تصوّر ينظر إلى كل تلك الآثار في إطار كتابة تاريخ كليّ، تتداخل فيه البنيات الماديّة والرمزية، وتتموضع فيه الممارسات الاجتماعية والتصورات الجماعية.
سيمنحنا تجديد البحث التاريخي على النحو الذي اقترحه تاريخ الذهنيات إلى الانفتاح أكثر على مصادر دفينة؛ غير مقصودة، وغير منظور إليها في التاريخ التقليدي، دون أن نغفل عن الخصائص المتباينة لهذه المصادر، ولا عن السياقات الظرفية لإنتاجها. ما نحتاجه هو بناء منهجية تسمح بقراءتها وإدماجها على نحو يفيد فهمًا أوسع لسيرورة الإنسان على هذه الأرض. وبالنتيجة؛ سيدفعنا كل ذلك إلى إعادة التفكير في جملة من المسلّمات، وخلخلتها، وتقديم رؤية تاريخ مغايرة، بواسطة معطيات المصادر الجديدة التي ترفّع عنها متن المدونة التقليدية.
إنّ مسلك تاريخ العقليات في عُمان، يحتاج إلى تأصيل نظريّ معمّق بالبحث أكثر عن أشكال «المصادر» الدالّة على تموّجات الذهنيّة العمانية، والتفكير في «الأدوات» المناسبة التي تمكن من قراءة كل المصادر الممكنة والمتاحة. أتصور أن الدخول إلى هذا المسلك البحثيّ في عُمان سيشكّل مغامرةً بحثيّة؛ لكنّها مغامرةٌ تعِد بمسارٍ معرفيِّ بالغ الخصوبة والثراء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التاریخ الجدید فی ع مان فی إطار مفهوم ا ه تاریخ ة التی
إقرأ أيضاً:
الأمازيغية بين التشويه الإيديولوجي والحق التاريخي
دعوني أؤكد أولا وأخيرا أنني ضد حبس المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث بسبب تصريحاته المردود عليها في "قناة سكاي نيوز" الإماراتية، والتي وصف فيها الأمازيغية بأنها صناعة "صهيونية فرنسية".
والمفارقة أن بلغيث الذي يربط الأمازيغية بالصهيونية، كان ضيفا في برنامج مع مذيعة جزائرية حاورت، على نفس القناة، رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامن نتنياهو في سياق تطبيع الإمارات. ولا يمكن لبلغيث (المعادي للصهيونية)، الذي كان ينادي المذيعة بأبوية "يا ابنتي" ألا يعرف ذلك! وإن موضوعيا وجب القول إن المذيعة ناقشت بلغيث وواجهته بالحجج التي ترد على طرحه المعادي للأمازيغية. كما وجب القول إنني ضد التهجم، وبلغة صادمة (بتعابير مثل اللقطاء!) الذي تعرضت له دولة الإمارات من قبل التلفزيون الرسمي الجزائري، على خلفية هذا البرنامج. لأنه من المفترض أن الجزائر أكبر من أن يهزها برنامج تلفزيوني، واستعمال هكذا لغة لا يليق بصورة الجزائر مهما كان الموقف مع دولة الإمارات. وهناك بالمناسبة خلط أو جهل لدى الذين كتبوا هذا الكلام التهجمي، فقناة "سكاي نيوز" ممولة من قبل إمارة أبوظبي، ولا علاقة للإمارات الأخرى كدبي والشارقة مثلا بها!
أنا من حيث المبدأ ضد سجن الرجل المثير الباحث عن الجدل، ومع مناقشته فكريا وكشف تهافت طرحه.. وتذكيره مثلا فقط بتصريحاته الموثقة المتناقضة والمغلوطة عن الأمازيغية نفسها وتصريحه هو بنفسه سابقا أنه "بربري شاوي رأسه خشين"! ثم حديثه الآن أن البربر أصلهم من العماليق بعدما كان يروج لأصولهم الفينيقية والكنعانية، في "خالوطة" كبيرة!
أنا من حيث المبدأ ضد سجن الرجل المثير الباحث عن الجدل، ومع مناقشته فكرياً وكشف تهافت طرحه.بقدر رفضي لسجن بلغيث، بقدر ما أثار استغرابي "اكتشاف" أن هناك من المحسوبين على "النخبة" ـ الذين صمتوا طيلة السنوات الأخيرة على مظالم كثيرة وسجن جزائريين وجزائريات (بينهم أكاديميون) لرأيهم السلمي أو نشاطهم في الحراك الشعبي ـ لهم أصوات يمكن أن يتشجعوا لرفعها عاليا بتخندق إيديولوجي مكشوف مع المؤرخ بلغيث، وضد سجنه بسبب تصريحاته المردود عليها عن الأمازيغية. جدير بالذكر أيضًا أنه أدلى بتصريح آخر صادم في البرنامج نفسه عن المهاجرين الجزائريين في فرنسا.
الأمازيغية وسياسة "فرق تسد"
قضية بلغيث حلقة أخرى من حلقات الجدل والانقسام المجتمعي الحاد حول الأمازيغية في الجزائر. وقد نفخ النظام الحاكم في هذا الانقسام وغذّاه للأسف بشكل خطير منذ الاستقلال، من منطلق فرق تسد، كما ظهر في عدة شواهد آخرها خلال الحراك الشعبي، حيث عزف النظام بنشاز مفضوح على وتر الأمازيغية لتفريق الشعب الموحد في ثورته السلمية. وكان بلغيث نفسه، وبشكل موثق، أحد أبرز العازفين في الفرقة الدعائية حينها للنظام، الذي كان يقوده رئيس أركان الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح. والمفارقة أن بلغيث نفسه كان مؤخرا فقط يكيل المديح للرئيس الحالي.
وقد ظل النظام يتلاعب بهذه "الورقة المحروقة والحارقة" بشكل مفضوح وانتهازي، حيث تنكر لعقود، بل حوّل قضية الهوية الأمازيغية إلى "قنبلة موقوتة" بسياسته الإقصائية منذ الاستقلال، إذ أقصى اللغة الأمازيغية، ورفض تسمية المواليد بأسماء تاريخية أمازيغية أصيلة، وفرض سردية تنكرية تعتبر أن الشعب الجزائري عربي فقط، رغم أن الحقيقة هي أن الأمازيغية هي الهوية الأولى للبلاد، وأن الشعب الجزائري في غالبيته أمازيغي، ودينه الإسلام، والعربية البعد الآخر في هوية البلد، ولا إشكال من المفترض في ذلك.
هذه السياسة الإقصائية، التي يجب الإشارة كذلك أنها ظهرت في الحركة الوطنية الجزائرية، حتى قبل الثورة التحريرية الجزائرية بما سميت بـ"الأزمة البربرية"، استمرت بعد الاستقلال بشكل خطير كأن يرفع، أحمد بن بلة، أول رئيس جزائري بعد الاستقلال في 1962 صوته لفرض إيديولوجية بعثية مستوردة من المشرق، ويقول: "نحن عرب.. نحن عرب!"، ويريد إجبار أمازيغ الجزائر، الذين كانوا في قلب معركة تحرير البلاد، ودفعوا الغالي والنفيس من أجل ذلك، على "الرضوخ لذلك". كما ستستمر نفس السياسة العروبية، التعريبية في عهد هواري بومدين (الأمازيغي الأصل كذلك) وزير دفاعه، الذي انقلب عليه بعدها في 1965، ليصبح رئيسا للبلاد.
ظل النظام يتلاعب بهذه 'الورقة المحروقة والحارقة' بشكل مفضوح وانتهازي... محاولاً تحويل الأمازيغية إلى قنبلة موقوتة داخل المجتمع.السياسة نفسها، وإن بأقل حدة، تواصلت مع من جاء بعده، أي الرئيس الشاذلي بن جديد، حيث انفجرت في 1980 احتجاجات "الربيع البربري أو الأمازيغي" في منطقة القبائل بعد منع محاضرة في جامعة تيزي وزو، عن الشعر الأمازيغي، كان سيقدمها الكاتب مولود معمري. وستشهد منطقة القبائل مرة أخرى، احتجاجات أكثر دموية في ما سمي بـ"الربيع الأمازيغي الأسود" في 2001 في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، حيث خلفت 126 قتيلا ومئات الجرحى. وستخلف هذه الأحداث ردود أفعال ستتطور إلى طروحات انفصالية في منطقة القبائل، وإن كان فيها ما فيها كذلك من تلاعبات من النظام.
اللافت أنه بعد ذلك بسنة أي في 2002 سيقوم بوتفليقة، بالاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية، ثم دسترتها في 2016، كلغة وطنية ثانية رسمية في البلاد بعد العربية، رغم أن بوتفليقة كان قد أقسم سابقا، في خطاب بمنطقة القبائل، بأن ذلك لن يحدث أبدا!
وقد أثارت هذه الدسترة حفيظة تيارات ترفع شعارات العروبة والإسلام، والتي سترتفع أصواتها أعلى في 2018 بالرفض واللغط بعد إقرار رأس السنة الأمازيغية المعروفة باسم "يناير" المصادف ليوم 12 يناير بالتقويم الميلادي، لتكون عطلة رسمية إلى جانب عطلة رأسي السنة الميلادية والهجرية. القرار جاء بحسابات سياسوية، حينها، مرتبطة بالولاية الخامسة لبوتفليقة، المريض المقعد، والتي كان يُعد لها قبل إسقاطها وإسقاطه بعد انتفاضة 22 فبراير الشعبية.
حق أريد به باطل
وبرغم أن الخطوة "أُريد بها باطل"، حينها لكنها تبقى "حقا"، بل وجاءت متأخرة لتصالح الجزائر مع ذاتها وعمقها التاريخي. لكن الخطوة أثارت وما زالت تثير غضبا لدى قطاع من الجزائريين، فقد سارع حينها أحد دعاة السلفية الوهابية بالفتوى بتحريم الاحتفال بـ"يناير". وقد استغربت شخصيا، وما زالت أستغرب غضب الكثير من الجزائريين من إقرار هذا اليوم بـما بدا لي ردود أفعال "هيسترية" و"مازوخية" و"كره ذات" غريبة، ورفض هؤلاء لبعدهم الهوياتي الأول، أي الأمازيغية والمغالاة في محاولة إنكارها وتقمص الهوية العربية بتسويقات مبالغ فيها، وهمية وخرافية عن أصل فينيقي عربي للأمازيغ بينما في لبنان مثلا فإن التيار الفينيقي مثلا بالعكس يصر على "فينيقية" لبنان للتأكيد على عدم عروبتها!
اللافت أن كثيرين في المقابل لا إشكال لهم، بل يعترفون بوجود رأس السنة الأمازيغية "يناير" كموروث شعبي بكل ما فيه من طقوس أكل واحتفاء يتم الاحتفال به منذ قرون، ولكن كسنة فلاحية، مرتبطة بالزراعة، ولكن نقطة الاعتراض هي التقويم الأمازيغي المعتمد، والذي وضعه الباحث الجزائري الراحل عمار نقادي عام 1980، والذي يبدأ تاريخ الرزنامة الأمازيغية من يوم 12 يناير وعام 950 سنة قبل الميلاد، وتأريخ ذلك بجلوس الملك المصري، الليبي الأمازيغي الأصل "شيشنق" أو "شيشناق" على عرش مصر، ليكون فرعون مصر وتحكم عائلته نحو 250 سنة.
وقد برر البعض هذا الاختيار على اعتبار أنه يتم تسمية "يناير" لدى بعض الأمازيغ بـ"عام الفرعون"، فربط الباحث هذا بذاك في وضعه للرزنامة الأمازيغية. نعم هناك مبررات موضوعية فعلا للرافضين لهذا الربط والتقويم، وأسطرة وتسويق "خرافي" مبالغ فيه لشيشنق إلى درجة نصب تمثال له بشكل غريب في منطقة القبائل بالجزائر، مما أثار غضبا في مصر وفي ليبيا على اعتبار أن شيشنق مصري وليبي. وهنا يجب الإشارة إلى أن القذافي ـ الذي كان يقمع الأمازيغ وهويتهم ـ وفي تقلباته الجنونية بين أمين القومية العربية، وملك ملوك أفريقيا، كان أعلن الاحتفال رسميا في 2008 برأس السنة الأمازيغية، وبشيشنق كبطل ليبي أمازيغي عظيم!
هل يمكن للصهاينة أن يلمعوا شخصية تاريخية سيطرت على فلسطين وهزمت اليهود وحطمت هيكلهم؟بتقويم الباحث نقادي ربطا بشيشنق فإن الأمازيغ هم حاليا في عام 2975. نعم هناك نقاش مشروع حول هذا الموضوع، والتأكيد على أن رأس السنة الأمازيغية هو احتفال بالسنة الفلاحية، ويتم الاحتفال به في عموم البلاد، ويسمى في بعضها للمفارقة بـ"رأس العام تاع العرب"! ولتكن كذلك سنة فلاحية! فبعيدا عن هذا التقويم يبقى "يناير" عنوانا للعمق التاريخي.. وبعيدا عن جدل شيشنق لمن لا يصدق أو يعترف بربطه به، ويرى أنه احتفال بالسنة الفلاحية، ولتكن كذلك، وهي بالتالي أقدم حتى من شيشنق، ومن 950 سنة قبل الميلاد، أي مع بدء الإنسان في هذه المنطقة، وغيرها الزراعة، قبل أكثر من 9500 سنة قبل الميلاد!
لكن الملاحظ، بل المدهش أن الذين يدافعون عن حق بلغيث في التنظيرات (والاختراعات) التاريخية، يرفضون بشكل "هيستيري" معطيات تاريخية وعلمية موثقة عن الأمازيغ و عن شيشنق مثلا (الفرعون الأمازيغي الأصل)، المذكور في "التوراة" والموثق في كتب التاريخ، رغم توافر عناصر "البطولة" التي يفضل أن يروها في خليفة تركي مثلا! الملك شيشنق الذي بسط حكمه في مصر وسيطر حتى على فلسطين وما هي مدينة "القدس" حاليا، وهزم الصهاينة وحطم هيكلهم.
وهنا وجب القول رداً على الذين يتحدثون عن المؤامرات ويرون في ربط "شيشنق" بالسنة الأمازيغية "مؤامرة" وراءها "الأيادي الخارجية الصهيونية".. قليل من العقل والتعقل.. هل يمكن للصهاينة أن يلمعوا شخصية تاريخية سيطرت على فلسطين وهزمت الصهاينة وحطمت هيكلهم؟!
المفارقة أن بلغيث ومن معه من المتهجمين على الأمازيغية بدعوى الدفاع عن فلسطين لماذا لا "يتمثلون" شيشنق ويتوسمون أن يكون "أمازيغي" هو من يحرر القدس مثلا أم أنهم يفضلون أن يظلوا مفتخرين ببطولات الآخرين ويصرخون مثلا نحن"أمازيغ عربنا الإسلام"، لكنهم يفتخرون بـ"بطل تركي" مثلا، يفتخر بـ"تركيته" ولا يقول أبدا أنا "تركي عربني الإسلام".. وينكرون هويتهم، ويكذبون على نفسه، حتى بالزعم أنه ليس هناك شيء اسمه بربر أو أمازيغ (سميهم ما شئت!) لدرجة استيراد هوية أخرى، والقول مثلا إنهم فينيقيون وكنعانيون، وزادها بلغيث بـ"العماليق"! بينما آخر دراسة علمية تؤكد أن الجزائر هي مهد البشرية، كما أن هناك كذلك الفحص العلمي للخريطة الجينية من خلال الحمض النووي، والذي قمت به شخصيا، والذي يسقط وهم هذه الخرافات!
*كاتب جزائري مقيم في لندن