15 غشت، 2025

بغداد/المسلة:

زكي الساعدي

‎يختلط على كثيرين في العالم العربي، والعراقي خصوصًا، مفهوم الدولة المدنية مع الدولة العلمانية، رغم أن الفارق بينهما جوهري. فالدولة المدنية لا تعادي الدين، بل تفصله عن السياسة وتضعه في مكانه الطبيعي داخل المجتمع، مع ضمان حرية الأفراد في المعتقد والممارسة. أما الدولة العلمانية فتتخذ موقفًا أكثر صرامة، وتسعى إلى فصل تام بين الدين والدولة، وقد تصل في بعض نماذجها إلى تقييد الرموز الدينية في الفضاء العام.

وبذلك يمكن القول إن كل دولة علمانية هي مدنية، لكن ليس بالضرورة أن تكون كل دولة مدنية علمانية.

‎هذا الخلط المفاهيمي يوازيه خلط آخر على الأرض، يتجلى في المفارقة الانتخابية. فبينما يمتدح المواطنون النماذج المدنية والعلمانية ويحلمون بالهجرة إلى دول تتبناها، نجدهم عند صناديق الاقتراع يصوتون مرارًا للأحزاب الإسلامية. هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، لكنها ازدادت وضوحًا مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي كشفت بجلاء توجهات الشباب وطريقة تفكيرهم، بل وأظهرت أن جزءًا كبيرًا منهم يرفع شعارات مدنية أو ليبرالية أو حتى شيوعية دون أن يدرك تمامًا مضامينها ومتطلباتها.

‎التيارات الإسلامية استطاعت، منذ عام 2003، أن تحافظ على صدارتها في المشهد السياسي، لأنها ببساطة لم تولد من فراغ. فقد نشأت خارج البلاد في زمن القمع، وامتلكت منذ ذلك الحين تنظيمات متماسكة وخبرة طويلة في الاستقطاب، مدعومة بخطاب تعبوي يجيد العزف على وتر الدين والانتماء المذهبي. وحين أتيحت لها الفرصة بعد التغيير، تمددت بسرعة داخل مؤسسات الدولة، حتى باتت تتحكم بمفاصلها من الصف الأول وحتى الصف الثالث. ولم يكن هذا ممكنًا لولا إدراك تلك الأحزاب أن استثارة العواطف الدينية والمذهبية والعرقية يمكن أن تحقق نتائج مضمونة في صناديق الاقتراع.

‎في المقابل، تعاني التيارات المدنية والعلمانية والليبرالية من مأزق حقيقي. فهي بلا رموز سياسية جامعة، وبلا وحدة صف، وأغلب نشاطها محصور في الأوساط النخبوية داخل المدن الكبرى. كما أن هجرة الكفاءات السياسية والفكرية إلى الخارج أضعفت من قدرتها على التواجد في الميدان. بل إن بعض مناصري الأحزاب الإسلامية اليوم هم في الأصل علمانيون أو مدنيون يئسوا من ضعف تنظيمهم وفشلهم في التوحد، فاختاروا الانضمام إلى الأحزاب الإسلامية الكبيرة بحثًا عن قوة وهيكل تنظيمي راسخ.

‎الحل لا يكمن في انتظار “المعجزة السياسية”، بل في العمل الجاد على بناء وعي مجتمعي حقيقي يبدأ من المدارس والجامعات، مرورًا بصناعة رموز سياسية تحظى بالثقة وتستطيع التواصل مع مختلف شرائح المجتمع، وصولًا إلى التواجد الميداني الفعّال في الأحياء الشعبية والقرى، حيث تدور المعركة الانتخابية الحقيقية. كما أن على هذه التيارات أن تتبنى خطابًا إيجابيًا يربط المدنية بالعدالة والتنمية والشفافية، بدل أن تدخل في صدام مع الدين أو المعتقدات الراسخة.

‎بدون هذه الخطوات، وبدون عمل منظم وواقعي، ستظل الهيمنة السياسية للتيارات الإسلامية أمرًا مفروغًا منه، وسينتظر دعاة التغيير ساعةً قد لا تأتي قريبًا، وربما تأجلت من 2024 إلى 3024

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author زين

See author's posts

المصدر: المسلة

إقرأ أيضاً:

المساءلة والعدالة خط دفاع أخير: صراع الهوية يتجدد قبيل انتخابات نوفمبر

15 غشت، 2025

بغداد/المسلة: تتصاعد في بغداد نبرة التحذيرات السياسية من بوابة تاريخية ما زالت مثقلة بظلال الماضي، حيث يرفع حزب «الدعوة» مجدداً راية الإنذار من عودة حزب «البعث» عبر استحقاق نوفمبر الانتخابي، في مشهد يعكس تداخل الذاكرة الوطنية مع حسابات الحاضر.

وتأتي تصريحات نوري المالكي وأنصاره مترافقة مع موجة استبعاد غير مسبوقة لمرشحين، بحجة الانتماء السابق للحزب المحظور، في ما يشبه إعادة تفعيل حاد لأدوات «المساءلة والعدالة» بعد سنوات من الفتور السياسي والقانوني.

وتنعكس المخاوف الحزبية في مواقف إعلامية مكثفة، توظف حضور اسماء بعثية، كورقة تحذير رمزية وسياسية، وارتباطها بملفات النزاع على هوية الدولة العراقية بعد 2003. ويبدو أن إدراج أكثر من 150 مرشحاً على قوائم المنع، وتوسّع الحملة لتشمل المئات في محافظات مركزية، قد فتح الباب أمام نقاش أوسع حول حدود القانون وسقف الذاكرة، وأعاد إلى السطح سؤالاً مؤجلاً: هل العراق بصدد حماية الديمقراطية من الماضي، أم إعادة تدوير الصراع مع الماضي داخل الديمقراطية؟

ويكشف تفعيل نصوص قانون الانتخابات لعام 2018، جنباً إلى جنب مع الصرامة الجديدة لهيئة «المساءلة والعدالة»، عن تحالف واضح بين إرادة سياسية وأداة قانونية، بهدف ضبط مسار المنافسة البرلمانية وإقصاء ما يُعتبر خطراً بنيوياً على النظام الحالي. غير أن هذا المسار يصطدم بدعوات لحل الهيئة، وهي الدعوات التي يقرأها المالكي ورفاقه كإشارة تمهيدية لعودة بعثيين إلى الواجهة .

وتتداخل في هذا الجدل لغة القانون مع معجم الذاكرة الوطنية، إذ يُعاد استحضار مشهد لجنة «اجتثاث البعث» التي صممها بول بريمر عام 2003، كأداة لتفكيك إرث الحزب في مؤسسات الدولة، قبل أن تتحول عام 2008 إلى هيئة دستورية أكثر رسوخاً.

وبينما يرى خصومها أنها أداة إقصاء تجاوزت عمرها الافتراضي، يعتبرها أنصارها سداً سياسياً لا بديل عنه، لحماية المسار الديمقراطي من “الاختراق البنيوي” الذي قد يحوّل البرلمان إلى ساحة نفوذ بعثية متجددة.

وفي ظل هذا الاستقطاب، يتضح أن الصراع ليس فقط على بطاقات الاقتراع، بل على تعريف هوية الدولة وحدود إعادة إدماج الماضي في حاضرها، في معركة يختلط فيها القانون بالسياسة، والذاكرة بالسلطة.

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • الجماعة الإسلامية بحثت مع قادة الأجهزة أوضاع صيدا والجنوب
  • المساءلة والعدالة خط دفاع أخير: صراع الهوية يتجدد قبيل انتخابات نوفمبر
  • بوقرة: “هدفنا التتويج بـ”الشان” وسنحوض كل مباراة على أنها نهائي”
  • مصر تحذر إسرائيل من تجسيد ما يسمى بـ”إسرائيل الكبرى”
  • الجماعة الإسلامية بحثت مع مرقص دور الإعلام وحصر السلاح بيد الدولة
  • ماسك يتهم “آبل” بتفضيل “أوبن إيه آي”
  • ضبط مسؤول بديوان صلاح الدين نظم سلفا وهمية بقيمة 1.5 مليار دينار
  • وزير الخارجية يتسلم رسالة من رئيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس”
  • عضو تنسيقية شباب الأحزاب: الرئيس السيسي وضع إطار متزن للسياسة الخارجية يراعي الأمن القومي