إلى أين تتجه الأزمة بين تصحيح المسار وخيمة تونس؟
تاريخ النشر: 15th, August 2025 GMT
بالتوازي مع التعددية الحزبية، عرفت تونس بعد "الثورة" تعددية نقابية تمثلت في تأسيس بعض النقابات الجديدة (مثل اتحاد عمال تونس بزعامة إسماعيل السحباني والمنظمة التونسية للشغل بزعامة الأسعد عبيد)، أو "تفعيل" نقابة كانت موجودة منذ عهد المخلوع (الكونفدرالية العامة التونسية للشغل التي تأسست سنة 2006 بزعامة الحبيب قيزة).
ورغم أن اتحاد الشغل كان فاعلا أساسيا في ما يسميه أنصاره وحلفاؤه في "العائلة الديمقراطية" بـ"العشرية السوداء" (أي "عشرية الانتقال الديمقراطي")، فإنه كان من أهم الداعمين لإجراءات الرئيس قيس سعيد في 25 تموز/ يوليو 2021، بل كان القوة الأكثر تأثيرا في التمهيد لها في مستوى الخطاب والممارسة.
مواجهة لا يبدو أن الاتحاد هو طرفها الأقوى، سواء ارتفع سقف خطابه وعدائيته أو انخفض إلى مستوى "مد الأيدي" للحوار والإصرار على التمايز عن المعارضة السياسية، خاصة جبهة الخلاص. إن خطيئة الاتحاد الأعظم هي أنه تعامل مع "تصحيح المسار" بمنطق القياس لكن دون مراعاة الفارق
كنا قد ذكرنا في أكثر من مقال سابق، فإن اتحاد الشغل كان مكوّنا من مكونات السلطة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ورغم بعض الأزمات في علاقته بالسلطة منذ عهد المرحوم بورقيبة (خاصة أحداث الخميس الأسود 1978، وانتفاضة الخبز 1984)، فإن الغالب على علاقته بتلك السلطة هي "الشراكة"، وهي شراكة استمرت إلى حدود 13 كانون الثاني/ يناير 2011، أي إلى حين هروب المخلوع. ولكنّ ذلك لم يمنع قيادات الاتحاد من استثمار مشاركة النقابيين في الحراك الاحتجاجي ضد المخلوع لفرض سرديتهم القائلة بأن الاتحاد هو من قام بالثورة، أو على الأقل هو المساهم الأهم في نجاحها. وهو ما جعله يتحول إلى فاعل سياسي رئيس منذ المرحلة التأسيسية، بشهادة أمينه العام السابق حسين العباسي في كتابه "تونس والفرص المهدورة" الصادر عن منشورات نيرفانا سنة 2023.
ووفاءً لتاريخه الطويل في خدمة النواة الصلبة للسلطة من موقع الجسم الوظيفي، تحوّل الاتحاد بعد "الثورة" إلى قاطرة لما يُسمّى بالقوى "الديمقراطية" و"الحداثية" و"التقدمية"؛ التي حرفت الصراع من مدار تفكيك منظومة الفساد والاستبداد إلى مدار هوياتي ثقافوي أساسه مواجهة "مشروع الأخونة" واستراتيجيات "الاختراق" لأجهزة الدولة والمجتمع المدني، من طرف "الظلاميين" و"الرجعيين" (بل "الإرهابيين") بقيادة حركة النهضة.
لقد كنا أمام خيار استراتيجي غايته تدمير مسار الانتقال السياسي ومعه الانتقال الاقتصادي لمنع أي مكسب يتم في عهد هيمنة "الخوانجية" على البرلمان، فلم تكن المركزية النقابية معنية إلا بإضعاف النهضة وحلفائها، وبالتالي تقوية القوى المناهضة لهم، وهي أساسا تلك القوى المنتمية إلى المنظومة القديمة وإلى اليسار الوظيفي بشقية القومي والماركسي. لقد كان الاتحاد القوة الأساسية التي أوكلت لها منظومة الاستعمار الداخلي مهمة إعادة التوازن للمنظومة، ومساعدة ممثليها على إعادة التموقع والانتشار تمهيدا لسيطرتهم على مراكز السلطة، وهو ما تحقق ب سقوط الترويكا وتنصيب حكومة "التكنوقراط" ثم وصول "حركة نداء تونس" إلى الرئاسات الثلاث (رئاسة الدولة والحكومة والبرلمان) بعد انتخابات 2014.
لقد كانت وظيفة الاتحاد بعد الثورة هي أساسا إنضاج الشروط الموضوعية والفكرية للانقلاب على النظام البرلماني المعدل، بإسناد حلفائه في الحقول الاجتماعية كلها على تغيير المشهد السياسي بعيدا عن صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية، أي على إنهاء "الفاصلة الديمقراطية" التي كسرت منطق التجانس الأيديولوجي والهيمنة الوظيفية للأقليات الأيديولوجية منذ تأسيس ما يُسمى بالدولة-الأمة.
لقد كانت لحظة 25 تموز/ يوليو 2021 لحظة مركزية في تاريخ الاتحاد، وهي لحظة تجلى بعدها ما يمكن تسميته بـ"مكر التاريخ" على حد عبارة هيغل، أو مكر الله الحسن في التاريخ، على حد عبارة الفيلسوف أبي يعرب المرزوقي. فقد حاول الاتحاد منذ اليوم الأول استثمار تلك اللحظة للبراءة من "العشرية السوداء" التي كان هو أهم الفاعلين فيها، وذلك تمهيدا لتموقع جيد داخل المنظومة السلطوية الجديدة، ولكنها محاولة لم يكتب لها النجاح إلا بدرجات لا تكاد تبين.
فرغم أن سردية "تصحيح المسار" كانت واضحة في موقفها السلبي من كل الأجسام الوسيطة (لأنها بالنسبة إليها خطر جاثم وليست فقط خطرا داهما)، فإن الاتحاد وأغلب الأحزاب "الديمقراطية" ومكونات المجتمع المدني لم تر أنفسها معنية بهذا الموقف. لقد كانت هذه الأجسام تعرف حقيقة التعامد الوظيفي أو التخادم بين تصحيح المسار والنواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين، ولذلك اعتبرت "الإجراءات" مجرد مرحلة مؤقتة لإغلاق ملف حركة النهضة أمنيا وقضائيا، ولا يمكن للترتيبات الإقليمية الجديدة لتونس أن تكون رياحا موجهة ضد "خيمة تونس" (أي الاتحاد)، ولا ضد مَن مهدّوا لها وشرعنوها أمام الرأي العام (أي أغلب "القوى الديمقراطية" المعادية وجوديا لحركة النهضة). ولكنّ "تصحيح المسار" الذي تحول من "حالة استثناء" أو مرحلة مؤقتة إلى مشروع سياسي دائم لم يكن معنيا بأفق انتظارات الاتحاد وحلفائه، بل كان مشغولا ببناء شرعيته القائمة على "التأسيس الثوري الجديد" وعلى احتكار التمثيل الشعبي وضرب كل الوسائط التي تنازعه في ذلك.
بعد نجاحها في "تحييد" الأجسام الوسيطة في الحقل السياسي وفي تحويل السلطتين القضائية والبرلمانية إلى "وظيفتين"، بدعم نشط أحيانا وبصمت مشبوه من الاتحاد أحيانا أخرى، يبدو أن الفترة الحالية وما تليها ستكون مسرحا لمواجهة حتمية بين السلطة والمركزية النقابية.
وهي مواجهة لا يبدو أن الاتحاد هو طرفها الأقوى، سواء ارتفع سقف خطابه وعدائيته أو انخفض إلى مستوى "مد الأيدي" للحوار والإصرار على التمايز عن المعارضة السياسية، خاصة جبهة الخلاص. إن خطيئة الاتحاد الأعظم هي أنه تعامل مع "تصحيح المسار" بمنطق القياس لكن دون مراعاة الفارق، ذلك أنه رأى في السردية السلطوية الجديدة نسخة منقحة من الخطاب الانتخابي للمرحوم الباجي قائد السبسي قبل مرحلة التوافق، بل رأى فيها سردية المخلوع التي تقوم على "جبهة ديمقراطية" في مواجهة الإسلام السياسي. ولا شك عندنا في أن الاتحاد كان يعلم أنه يشتغل أساسا لحساب الغير (أي النواة الصلبة لمنظومة الحكم منذ الاستقلال)، ولكنه كان ينتظر مقابل ذلك اعترافا رسميا بدوره وموقعا هامشيا في السلطة، كما كان الشأن زمن المخلوع. ولعل ما لم يفكر فيه الاتحاد بجدية هو سردية "تصحيح المسار" ذاتها وما يؤسس شرعيتها أمام الرأي العام والحاجة إليها أمام النواة الصلبة لمنظومة الحكم: منطق البديل الكلي والشامل لجميع الأجسام الوسيطة المهيمنة على "العشرية السوداء"، ومنها "الشريك الاجتماعي".
لم يفهم الاتحاد بأن قبوله احتكار السلطة للإرادة الشعبية في المستوى السياسي كان يعني في النهاية إلغاء الحاجة إلى جميع الأجسام الوسيطة التي تكتسب شرعيتها من الإرادة الشعبية ذاتها، حتى لو كانت أجساما غير سياسية في تعريفها القانوني. فتصحيح المسار يقوم على منطق الوكالة الشعبية الشاملة والنهائية، وهو يقوم كذلك على حصر تلك الوكالة وشخصنتها في الرئيس دون غيره. ولذلك فإن وجود جسم وسيط -جسم نقابي- ينازعه تلك الشرعية/الوكالة العامة هو واقع غير سوي ولا يمكنه الاستمرار، خاصة أمام تفاقم الأزمة الاقتصادية وتهرئة "مشروعية الإنجاز" التي بشّر بها الرئيس وشرعن بها إجراءاته. وهو ما يضعنا أمام فرضيتين: إما عودة الاتحاد إلى مربع "المناشدة" و"رفع التحديات" مع السلطة لا ضدها، وإما تحويله إلى ملف أمني-قضائي مثل باقي الأجسام السياسية.
سؤال المستقبل النقابي ومدى قدرة النقابات المنافسة للاتحاد على استثمار "الأزمة" لإعادة هندسة المشهد العام، سواء من جهة علاقتها بالسلطة أو من جهة علاقتها بباقي مكونات المشهدين السياسي والمدني في تونس
ولا شك عندنا في أن السلطة هي اليد العليا في هذا الصراع، فالاتحاد قد أضعف أغلب حلفائه وسمح للسلطة إما بتدجينهم أو باستهدافهم، كما أن الرأي العام الذي تشرّب بُغض الأجسام الوسيطة وشيطنتها -بتواطؤ من الاتحاد ذاته- لن يتعاطف مع المركزية النقابية التي لم ير منها واقعيا إلا الاستعلاء على السلطات المتعاقبة وعلى القانون وتغول دورها، بالإضافة إلى قابلية تصديق ما يحوم حول النقابيين من شبهات فساد واستثراء غير شرعي.
بحكم استبعادنا لمواجهة مفتوحة بين السلطة والاتحاد، وبالنظر إلى موازين القوى بين الطرفين، فإننا نرجّح أن تتراجع المركزية النقابية بعض الخطوات إلى الوراء. ولن يعدم النقابيون الحجج لفعل ذلك من باب "المصلحة الوطنية" والتصدي لمن أسماهم أحد قياداته بـ"المتربصين"، أي مكوّنات المعارضة الجذرية للنظام، خاصة العدو الوجودي للاتحاد وللنظام على حد سواء: حركة النهضة. فليس من مصلحة المركزية النقابية أن تدفع الدولة إلى تفعيل أوراق الضغط التي تمتلكها إذا ما ذهبت إلى خيار الإضراب العام (فقد يكون ثمن ذلك إنهاء الاقتطاع الآلي أو فتح ملفات الفساد)، ولكن ليس من مصلحة النظام أيضا أن يخسر حليفه الأقوى داخل المجتمع المدني.
ولذلك، نُرجح أن نرى تسوية بين الطرفين أساسها عودة الاتحاد إلى مربع الولاء التام للسلطة والدفاع عن خياراتها وتبريرها أمام أعضائه باعتبارها ضرورة اقتضاها ميراث "العشرية السوداء" وخياراته اللاوطنية، كما نُرجّح أن تُبقي السلطة على وضعية المحارب دون الحاجة إلى استعمال سيفها/ملفّاتها ضد المركزية النقابية على الأقل في المدى المنظور. وهو ما يضعنا أمام سؤال المستقبل النقابي ومدى قدرة النقابات المنافسة للاتحاد على استثمار "الأزمة" لإعادة هندسة المشهد العام، سواء من جهة علاقتها بالسلطة أو من جهة علاقتها بباقي مكونات المشهدين السياسي والمدني في تونس.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء تونس اتحاد الشغل الديمقراطية قيس سعيد الصراع تونس اتحاد الشغل ديمقراطية صراع قيس سعيد قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المرکزیة النقابیة العشریة السوداء تصحیح المسار حرکة النهضة أن الاتحاد لقد کان وهو ما
إقرأ أيضاً:
نفاع يطلب من اعضاء المكتب السياسي في حزب عزم تقديم استقالاتهم تمهيدا لإعادة تشكيلة
صراحة نيوز- أكد مستشار الامين العام لحزب عزم الدكتور عبدالله الزعبي بأن الأمين العام للحزب المهندس زيد نفاع طلب من أعضاء المكتب السياسي تقديم إستقالاتهم تمهيدا لإعادة تشكيل المكتب بما يتوافق مع متطلبات المرحلة المقبلة ورؤى وبرامج وتطلعات الحزب.
وقال الزعبي في بيان رسمي صادر عن الحزب بأن قرار إعادة تشكيل المكتب السياسي يعتبر خطوة إستراتيجية واصلاحية بهدف تصحيح منهجية العمل السياسي والحزبي وتحقيق الاشتباك الايجابي والفعال في ظل الظروف والتحديات المستقبلية التي تحتاج تكثيف الجهود والعمل اليومي المشترك وتعزيز الشراكة الإستراتيجية مع الكتلة النيابية للحزب والائتلاف الحزبي الحديث خاصة في المرحلة المقبلة والتي تحتاج إتخاذ قرارات مهمه وإستراتيجية صعبة لتجويد الأداء الحزبي والنيابي بما ينسجم مع رؤية التحديث السياسي والتوجيهات الملكية السامية.
وأضاف الزعبي أنه سيتم الإعلان خلال الأيام القليلة المقبلة عن تشكيل المجلس الاستشاري الأعلى للحزب والذي يضم شخصيات سياسية واقتصادية وأمنية وقطاعات أخرى ذات كفاءة عالية وخبرات وتجارب كبيرة تشكل رافعة حقيقة لعملية تحديث شاملة ومتواصلة وضمن نهج تكاملي لتحقيق أهداف وخطط وبرامج الحزب ورؤى جديدة تضفي حيوية على الشكل السياسي للحزب وآليات الأداء الحزبي والنيابي بما يحقق آمال وتطلعات الحزب في ظل الظروف والتحديات والأحداث السياسية وقدرة الحزب على التفاعل مع متغيرات العصر ومواجهة التحديات الراهنة متسلحا بروح المسؤولية الوطنية العليا بما يرسخ دعائم الدولة الحديثة ويفتح آفاقا واسعة لمستقبل مشرق قائم يرسخ قيم الديمقراطية والاستدامة تنفيذا للرؤى الملكية السامية