وحش «اليتم والجوع» يلتهمان طفولة غزة بين الأنقاض
تاريخ النشر: 17th, August 2025 GMT
غزة- «عمان»- بهاء طباسي -
في غزة، لم تعد الكلمة الأكثر وقعًا على الأرواح هي «الحصار» أو «القصف»، بل كلمة الفقد التي تحوّلت إلى جائحة صامتة، لا يسمع صراخها إلا القلوب الممزقة. جائحة اقتلعت آلاف الأطفال من أحضان أمهاتهم وآبائهم، وألقت بهم في مواجهة حياة باردة، بلا أصوات مألوفة، بلا دفء، وبلا يد تمسك بأيديهم الصغيرة وسط عاصفة الحرب.
في أقصى أطراف مخيم النزوح المؤقت، حيث تترنح الخيام تحت هبوب الرياح الحارة، وتذوب أجساد ساكنيها تحت وطأة شمس لا ترحم، تجلس عائلة غزية مكوّنة من جد وجدة وأربعة أطفال أيتام. هذه العائلة، التي نزحت ست مرات منذ بداية الحرب، لم تعرف طعم الاستقرار منذ أكثر من عام ونصف العام. خلفهم تاريخ من الفقد، وأمامهم مستقبل يكسوه الغموض. بين الماضي والحاضر، يعيشون في دائرة قاسية، لا تترك لهم سوى البقاء على قيد الحياة، بينما تتآكل أرواحهم يومًا بعد يوم.
الجد أبو محمد العقاد، بملامحه التي حفرتها السنين، يجلس إلى جوار خيمته المهترئة، يحاول أن يخفي حزنه خلف جمل مقتضبة، لكنه يفشل.
يقول بصوت مبحوح : «هذه تقريبًا سادس مرة نزوح لنا. الآن كما ترون، الوضع في الخيام؛ لا مأوى ولا سكن ولا ماء. ننقل الماء بالسطل، ولدينا أبناء شهداء، نحن من نعيلهم بعد أن فقدوا والدهم منذ ثلاثة أشهر». ينظر إلى الأطفال الأربعة بعينين غارقتين في التعب، ثم يتابع: «بعد ثلاثة أشهر فقط من استشهاد ولدنا، دمّروا البيت نهائيًا، وصار أنقاضًا. ثم اغتالوا ابننا الآخر بضربة طائرة، فتركوا لنا هؤلاء الصغار بلا معيل».
أما الجدة أم محمد، فهي تحمل على كتفيها عبء الرعاية في ظروف لا تصلح حتى للحيوانات. تقول وهي تمسح العرق عن جبينها: «هؤلاء الأطفال بحاجة إلى طعام، تعليم، ورعاية صحية. نحن نتحدث عن مجاعة. الطعام المتاح أحيانًا نوع واحد فقط؛ عدس أو رز، وأحيانًا لا شيء». وتتابع : «نأكل ثلاث وجبات، ثم وجبتين، والآن وجبة واحدة في اليوم، نؤخرها إلى الغداء حتى نصبر أنفسنا ونطعم الأطفال».
تجلس الطفلة الكبرى إلى جوارها، تمسك بثوب جدتها وكأنها تخشى أن تضيع. لم تعد تعرف معنى اللعب أو الذهاب إلى المدرسة. تقول الجدة بأسى: «الأطفال بحاجة إلى المدارس والتعليم والترفيه. لكن عند مرض أي طفل، نعجز عن نقله للمستشفى بسبب صعوبة النقل، وإن وصلنا، لا نجد دواء».
أما الجد، فيحمل همًا آخر: «أنا في الستين من العمر، وأصبح جسدي أضعف، لكن لا خيار أمامي. هؤلاء الأطفال أمانة في رقبتي، وأخشى أن أموت وأتركهم للشارع».
ورغم أن الألم يغمر المكان، إلا أن هناك مساحة ضيقة للأمل. العائلة لا تكف عن مناشدة العالم. يقول الجد وهو ينظر بعيدًا: «شعبنا صامد، والأطفال ليس لهم ذنب. أين العالم الإسلامي والدول العربية؟ نناشدهم الوقوف معنا ووقف الإبادة. حتى سيارات الإسعاف أحيانًا لا تستطيع الوصول للجثث أو إخراج الأطفال من تحت الركام».
هذه القصة ليست استثناءً، بل هي واحدة من آلاف الحكايات التي تروي كيف سرقت «جائحة اليتم» طفولة جيل كامل في غزة، وجعلتهم يكبرون في ظلال الجوع والنزوح بدلًا من أحضان آبائهم.
نزيف الطفولة
منذ اليوم الأول للحرب، كان الأطفال هم الضحية الأكبر. لم تفرق الغارات بين بيت آمن وخيمة نزوح، ولا بين رجل يحمل خبزًا وطفل يلهو أمام عتبة منزله. ومع مرور الأيام، صار فقدان الأب أو الأم مشهدًا مألوفًا، حتى تحوّل إلى ظاهرة كارثية.
قبل الحرب، كان في غزة نحو 17 ألف يتيم. اليوم، وبعد ما يقارب العامين من القصف، ارتفع العدد إلى 40 ألفًا، أي بزيادة قدرها 135%، وهي نسبة غير مسبوقة في أي صراع حديث بالمنطقة. هذه الزيادة تعني أن آلاف البيوت فقدت معيلها، وأن عشرات الآلاف من الأطفال وجدوا أنفسهم في مواجهة حياة بلا حماية أو سند.
اليتم في غزة لا يعني فقط فقدان أحد الوالدين، بل انهيار شبكة الأمان العائلية بالكامل. الجدات والعمات والخالات يتولون الرعاية، لكنهم بدورهم يعيشون الفقر والحصار، فلا يملكون سوى القليل ليقدموه. في ظل انعدام المساعدات المستقرة، يصبح كل يوم معركة للبقاء، وكل وجبة طعام انتصارًا صغيرًا.
أمنيات مهدومة
أم أمجد بدر (33 عامًا)، تحكي وهي تحتضن طفلة وُلدت خلال الحرب: «هذه الصغيرة لم ترَ والدها. ولدت وهي لا تعرف إلا أصوات القصف. نزحت بها من مكان إلى آخر وهي لا تزال في أيامها الأولى».
تضيف لـ«عُمان» وهي تتذكر تلك الأيام: «كنت أركض وهي على صدري، وأولادي الآخرون يركضون خلفي. ثمانية أنفار نحمل همّ حياتنا على أكتافنا».
ابنتها فريدة، 11 عامًا، تذكر بصوت طفولي مشوب بالحزن: «كان أبي يأخذنا للمدرسة، ويشتري لنا الألعاب، وفي العيد نذهب إلى المراجيح. الآن لا عيد، ولا ألعاب، ولا مدرسة»
الحياة اليومية لهذه العائلة صارت سجنًا مفتوحًا. الغذاء شحيح، والدواء نادر، والمدارس مغلقة أو مدمرة. توضح أم محمود: «أخشى أن يصير أطفالي بلا مستقبل. حتى المؤسسات التي كانت تساعد لم تعد قادرة على الوصول إلينا. كل شيء توقف».
أما الطفل ياسين الشيخ علي، 10 سنوات، فقد والدته في قصف مفاجئ في بداية الحرب. يقول بصوت خافت: «نفسي أمي ترجع لي ونرجع أيام زمان ونرجع على دورنا. اليوم دورنا مهدومة. ويش بدنا نسوي يعني؟». يعيش الآن مع أقارب لا يملكون إلا القليل، وينتظر ساعات في طوابير المساعدات من أجل كيس دقيق.
ياسين لم يعد يعرف اللعب أو المدرسة، بل يعرف جيدًا طعم الجوع، والانتظار، وغياب الأم. أقاربه يقولون: إن الحزن أصبح جزءًا من ملامحه، وإن الحرب أخذت منه أكثر مما يمكن لطفل أن يحتمل.
مأساة متراكمة
في يوليو 2025، أعلنت وزارة التنمية الاجتماعية أن عدد الأيتام في غزة بلغ 40 ألف طفل، مقارنة بـ 17 ألفًا قبل عدوان السابع من أكتوبر. هذه الزيادة بنسبة 135% تعكس حجم الكارثة التي خلفتها الحرب، ليس فقط على المستوى الإنساني، بل أيضًا على مستوى قدرة المجتمع على التعافي.
هذه الأعداد تمثل عبئًا هائلًا على المؤسسات المحلية، التي توقفت برامج كثيرة منها بسبب الحصار وإغلاق البنوك وتعطل التحويلات المالية. ومع استمرار النزوح، يصبح تتبع الأطفال الأيتام وتحديث بياناتهم مهمة شبه مستحيلة.
بعض هؤلاء الأطفال يعيشون مع أسر حاضنة مؤقتة، لكن ظروف هذه الأسر نفسها مأساوية، مما يجعل الرعاية غير كافية. وفي غياب خطط طويلة المدى، يبقى مستقبل الأيتام معلقًا بين المساعدات الطارئة وواقع الفقر المزمن.
عزيزة الكحلوت، الناطقة باسم وزارة التنمية الاجتماعية، تصف الواقع الحالي بعبارات مؤلمة، لكنها تحاول أن تزرع في حديثها بذور الأمل. تقول: «لم يشهد قطاع غزة في تاريخه الحديث هذا العدد من الأيتام خلال فترة زمنية قصيرة. الزيادة بنسبة 135% ليست مجرد رقم، بل مأساة متراكمة تتسارع مع كل يوم تستمر فيه الحرب».
وتوضح أن الوزارة تواجه تحديات غير مسبوقة في تقديم الرعاية، بدءًا من تعطل أنظمة التحويل المالي الذي شلّ برامج الكفالة، مرورًا بملاحقة بعض المؤسسات الخيرية، وصولًا إلى توقف الدعم من جهات كانت تشكل عصب المساعدات. «حتى عندما نحصل على الدعم، فإن الحصار وإغلاق البنوك يمنع وصوله إلى المستحقين في الوقت المناسب».
تضيف الكحلوت: إن النزوح المتكرر صعّب عملية الوصول للأيتام، وأن كثيرين منهم يفتقدون أبسط مقومات الحياة الآمنة.
«نحن نعمل على إيوائهم مؤقتًا لدى أقارب أو أسر حاضنة، ونوفر لهم احتياجات أساسية من الغذاء والملبس، إلى جانب تقييم حالتهم النفسية والاجتماعية».
وتؤكد أن الوزارة تولي اهتمامًا خاصًا للدعم النفسي للأطفال، بالتنسيق مع منظمات دولية مثل اليونيسف، لإقامة جلسات دعم في مراكز الإيواء. لكنها تشير بمرارة إلى أن حجم المأساة أكبر من قدرات أي جهة محلية: «نحن نعمل في ظروف شبه مستحيلة، لكننا نرفض الاستسلام».
دعوة للأمم
أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، يرى أن «ما يحدث الآن هو أزمة ممتدة ستلقي بظلالها لعقود قادمة».
يقول، في تصريح لـ«عُمان»: «هذه الحرب خلفت عشرات الآلاف من الأيتام الذين يعيشون في ظل مجاعة، ونزوح متكرر، وأوضاع نفسية متدهورة».
ويحذر من أن حرمان الأطفال من الغذاء الكافي والتعليم والرعاية الصحية سيؤدي إلى جيل محطم. مضيفًا: «هناك أطفال ينامون بلا عشاء ويستيقظون بلا إفطار، وأطفال يقفون لساعات في طوابير الطعام، وقد يعودون خالي اليدين».
الشوا يدعو المجتمع الدولي إلى التحرك الفوري: «نحن لا نتحدث عن مساعدات مؤقتة، بل عن حماية حقيقية لهؤلاء الأطفال، وتأمين مستقبلهم، وضمان ألا يضيعوا في زوايا النسيان».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هؤلاء الأطفال فی غزة
إقرأ أيضاً:
60 قتيلاً جراء الفيضانات في كشمير الهندية
قالت السلطات ووسائل إعلام محلية في الهند اليوم الجمعة إن 60 شخصاً على الأقل لقوا حتفهم وفقد أكثر من 100 آخرين، بعد يوم من هطول أمطار غزيرة مفاجئة تسببت في فيضانات وانهيارات أرضية في الشطر الهندي من إقليم كشمير.
وتلك وهي ثاني كارثة من نوعها في منطقة جبال الهيمالايا خلال ما يزيد قليلاً عن أسبوع.
وغمرت انهيارات طينية متدفقة وسيول قرية تشاسوتي في كشمير الهندية أمس الخميس، وجرفت زواراً تجمعوا لتناول الغداء قبل أن يتسلقوا التل .
وتناثرت حقائب وملابس ومتعلقات أخرى في الطين مع أعمدة الكهرباء المكسورة اليوم الجمعة في وقت استخدم فيه منقذون المجارف والحبال والجسور المؤقتة في محاولة لانتشال الناس من تحت الأنقاض.
وقال أحد عمال الإنقاذ لوكالة أنباء آسيا الدولية "قيل لنا أن ما بين 100 و150 شخصا قد يكونون مدفونين تحت الأنقاض".
وتأتي واقعة أمس الخميس بعد أكثر من أسبوع بقليل من فيضان وانهيار طيني اجتاح قرية بأكملها في ولاية أوتاراخاند الواقعة في منطقة جبال الهيمالايا.
وقال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في مستهل خطاب بمناسبة الذكرى التاسعة والسبعين لاستقلال البلاد "الطبيعة تختبرنا. في الأيام القليلة الماضية، اضطررنا للتعامل مع انهيارات أرضية وهبات صقيع وكوارث طبيعية أخرى".