لم تكن زيارات اليوم الواحد التي شهدتها الساحة العربية مؤخرًا مجرد بروتوكولات عابرة، بل رسائل سياسية محسوبة بدقة في لحظة إقليمية بالغة الحساسية. ففي الخميس 21 أغسطس 2025، قام الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيارة سريعة إلى السعودية، تلتها زيارة الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات، إلى مدينة العلمين في مصر، وكلتاهما لم تتجاوز حدود اليومين.

هذه الزيارات الخاطفة، على قصرها، تحمل دلالات أعمق بكثير من المدة الزمنية التي استغرقتها.

في هذا السياق، وعند استذكار ملابسات حرب أكتوبر 1973، وحين بدا أن العرب يواجهون خطرًا وجوديًا، اتخذت الدول العربية قرارًا تاريخيًا بوقف تصدير النفط للولايات المتحدة وحلفائها، برزت ورقة الطاقة كسلاح عربي فعال في مواجهة الاختلالات الإقليمية. واليوم، ومع تصاعد المخاوف من تمدد إسرائيل على حساب وحدة المنطقة، فإن التلاقي المصري-الخليجي السريع خلال تلك الزيارات الخاطفة التي تحمل إشارة إلى إمكانية إعادة تفعيل أوراق القوة العربية سواء كانت اقتصادية أو استراتيجية لموازنة هذا التغلغل وتكشف إدراكًا بأن اللحظة الراهنة قد تستلزم صياغة موقف مشابه، أو على الأقل بلورة إستراتيجية عربية مشتركة تعيد الاعتبار لفكرة التضامن العربي، بعيدًا عن الحسابات الضيقة.

وعند محاولة استقراء الرسائل المتبادلة فإن التوقيت والسرعة يشيران إلى أن الهدف ليس عقد مباحثات طويلة أو مؤتمرات رسمية، بل إرسال إشارات واضحة تتمحور أولًا في أن التنسيق العربي هو تنسيق استراتيجي سريع، وأن الرسائل المراد إيصالها تصل مباشرة ودون تأخير خاصة تلك التي تتعلق بأن أمن الخليج والبحر الأحمر هو نقطة الارتكاز في أي معادلة إقليمية، وأن مصر والمملكة السعودية والأمارات يعملون على حماية الداخل العربي من ارتدادات الزلازل الجيوسياسية الدولية.

ثانيًا: هناك إدراك أن التحديات الأمنية والسياسية لا تحتمل التنسيقات البروتوكولية، وأن التنسيق المباشر والسريع هو الخيار الأمثل لمواجهة أي تطورات مفاجئة، ثالثًا وفي نظري هو العنصر الأهم أن هذه الزيارات بمثابة “استعراض وحدة الجبهة العربية” أمام القوى الإقليمية والدولية، خاصة إسرائيل التي تصعّد من تدخلاتها في الساحات العربية.

وبالتالي أن إعادة توحيد البيت الخليجي–المصري سريعًا، رغم تباينات المدارس، يهدف بالأساس لحرمان إسرائيل من الاستثمار في ثغرات الانقسام العربي.

وهو الأمر الذي ينقلنا إلى أن هذه الزيارات جاءت تزامنا مع عدة تحركات توسعية إسرائيلية ، سواء عقب إعلانها أحكام السيطرة الكاملة علي قطاع غزة او عبر الغارات المتكررة على سوريا، أو عبر محاولات إعادة إحياء النزعات الانفصالية ودعمها كالرهان على المكوّن الدرزي إلي جانب تحركها وفق رؤية تتجاوز حدود النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي التقليدي، نحو إعادة تشكيل الإقليم بما يخدم تصورها لـ”إسرائيل الكبرى”، بالنظر إلي أن تغذية الصراع المذهبي بين السنة والشيعة يدخل في صميم هذه الاستراتيجية، إذ يفتح المجال أمام إضعاف البنية الداخلية للدول العربية، وتفتيتها من الداخل.

وعليه يمكن تلخيص الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي بثلاث طبقات متراكبة، أولا، ردع مُستدام عبر المعركة بين الحروبMABAM تقوم على ضربات جوية واستخباراتية متواصلة لتفكيك بنى خصوم إسرائيل قبل تحوّلها لتهديدٍ نظامي خصوصًا شبكات إيران/حزب الله والقدرات الدقيقة والسلاسل اللوجستية جنوب سوريا وغربها. هذه العقيدة موثّقة في دراسات إسرائيلية وأكاديمية باعتبارها أمنًا روتينيًا نشط لإجهاض التهديد قبل تبلوره.  

ثانيا، هندسة مناطق جغرافية–اجتماعية حول الجولان وجنوب سوريا وذلك من خلال فرض هوامش ردع وممرات عازلة بحكم الأمر الواقع، مع ضغطٍ عسكريٍ انتقائي وتواصلٍ مع مكوّنات وفصائل وطنية كالدروز بما يخدم إبعاد التهديد عن الحدود وتفكيك البُنى المعادية، وعليه هناك تقارير غربية حديثة تحدثت عن غاراتٍ برّية نادرة جنوب دمشق في هذا السياق، في تصعيدٍ يتجاوز الإيقاع الجوي المألوف.  

ثالثاً، تغذية ديناميات التشرذم الإقليمي ليس بوصفه “خطةً رسمية معلنة”، بل كمنطقٍ أمني تاريخي يَعتبر أن تعدد الانقسامات داخل البيئة العربية–الإيرانية يقلّل كلفة التهديد على إسرائيل وهو ما يُعرف في الأدبيات بـتحالفات الأطراف/الأقليات منذ عقود لاسيما أن هذا المنطق تتناوله أبحاثٌ عديدة، مع تصاعد الجدلية حول مدى انعكاسه على السياسات العملية مؤخرا.  

وعليه، تطرح المقالة تساؤل رصين من قبيل كيف تضيق هذه الزيارات هامش الحركة الإسرائيلي؟

فهي مقاربة لخنق محاولات التفتيت: فالتقارب مع قطر يَسحب من إسرائيل ومن لاعبين آخرين، ورقة توظيف انقسام المحاور العربية، ويُحيل ملف غزة وسيناريوهات اليوم التالي إلى طاولةٍ عربية أكثر تماسُكًا، بدل طاولاتٍ متوازية قابلة للاختراق ، إلي جانب حشد موارد الردع غير العسكرية إذ أن محور الرياض–أبوظبي–القاهرة يملك أدوات سوق النفط وطاقات الاستثمار والممرات البحرية قناة السويس و البحر الأحمر وبالتالي فالتوظيف السياسي لهذه الأدوات يُحمل أي تمدّد إسرائيلي–إقليمي كلفةً أعلى من مردوده، تعويم الشرعية العربية لإدارة غزة وما بعدها، حيث انه كلما بدت المنطقة محاطةً بغطاءٍ عربي خليجيٍ استثماري وسياسي، تراجعت قدرة الأطراف الخارجية ومنها إسرائيل على فرض صيغٍ أحادية لليوم التالي في غزة أو لإعادة رسم الحدود الاقتصادية–الأمنية في الإقليم.

ختاماً، إن ما يجري اليوم ليس مجرد تنقلات دبلوماسية روتينية، بل إعادة اصطفاف سياسي في مواجهة خطر مشترك. ومع تصاعد التوترات الإقليمية، تبدو الزيارات السريعة بمثابة جرس إنذار ورسالة استعداد في آن واحد، مفادها أن العرب قادرون على التحرك سريعًا متى شعروا بأن المنطقة على وشك الانزلاق إلى سيناريوهات أشد خطورة. وإذا كانت إسرائيل تراهن على تفتيت المنطقة من الداخل، فإن اللحظة تفرض بناء منظومة ردع جديدة قوامها الوحدة والأمن والتنمية.

طباعة شارك إسرلئل غزة الشرق الأوسط

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: غزة الشرق الأوسط هذه الزیارات

إقرأ أيضاً:

فيديو.. عقبات أمام مبادرات لبنانية لإعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية

البقاع- أطلق مئات اللبنانيين ممن دُمرت منازلهم كليا أو جزئيا بفعل العدوان الإسرائيلي ورش بناء على نفقتهم الخاصة، "بمواكبة معنوية ومادية من مؤسسة جهاد البناء" ومجلس الجنوب وتبرعات مغتربين أو قادرين ماديا.

وأوضح المتضرر رامز حسن الخشن المنشغل بإعادة بناء منزله الذي دمّر بالكامل، "قمنا بذلك لأننا مللنا وعودا تقول باقتراب مشروع إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل".

وتشبه معاناته وجع مئات من أبناء بلدته سحمر التي سقط فيها أكثر من 50 شهيدا، وهُدمت أعداد كثيرة من أبنيتها ومؤسساتها المدنية وبناها التحتية.

وأضاف حسن الخشن للجزيرة نت أن الحال ينسحب على بيروت والضاحية وجنوب لبنان والبقاع الغربي حيث انطلقت آلاف ورش البناء فور سريان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

رامز حسن الخشن يقول إنهم ملّوا الوعود باقتراب مشروع إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل (الجزيرة)ترميم وإيواء

وحسب ما عاينته الجزيرة نت، فإن عمال ورشة بنائه مؤلفة بمعظمها من أفراد عائلته للتخفيف من التكلفة المادية، كما يقول الخشن "لا سيما وأن خسارتي كبيرة جدا بسبب دمار منزلي الكلي المؤلف من طابقين، ومحلاتي التجارية لإصلاح السيارات التي كانت مصدر رزقي، ولتوفير ما تبقى من إمكانيات مادية متواضعة".

وتشير إحصائية أجرتها جمعية "جهاد البناء الإنمائية" (مؤسسة خاصة) أن مسار الترميم والإيواء لم يتوقف منذ بدء العدوان الإسرائيلي يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى 7 مايو/أيار 2025، رغم استمرار الاعتداءات، وغطى 350 ألفا و216 وحدة سكنية، و39 ألف وحدة إيواء.

في حين قدّر تقرير التقييم السريع الذي أعدته مجموعة البنك الدولي -بناء على طلب الحكومة اللبنانية- خسائر لبنان بـ14 مليار دولار، وكان قطاع الإسكان هو الأكثر تضررا بـ4.6 مليارات دولار.

لبنانيون باشروا إعادة بناء منازلهم المدمرة على نفقاتهم الخاصة (الجزيرة)تكامل مجتمعي

يوضح عضو المجلس البلدي لسحمر أيمن حرب أن قرار الناس إعادة بناء ما دمره "العدو" نابع من تمسكهم بأرضهم والدفاع عنها مهما كانت الصعوبات.

إعلان

وقال للجزيرة نت إن مؤسسة "جهاد البناء" قدمت تعويضات مادية للمتضررين سواء لترميم وحدات سكنية أو بدل إيواء، "وبعض الأهالي الذين استلموا أموال البدل استخدموها لترميم منازلهم، وزادوا عليها من أموالهم الخاصة".

واعتبر أن التكامل بين المجتمع المحلي والمؤسسة "يعزز إرادة الصمود والبقاء والمواجهة"، وأن "التغلب على هذا الملف الشائك لم ولن يكون عصيا على هذا المستوى من التكامل ".

وطالب الدولة "بالإسراع بتوفير ما يلزم مسألة الإعمار وقوانينه التي يجب أن تلحظ خصوصية إعادة تأهيل البنى التحتية وبناء وحدات سكنية سويت بالأرض".

ووفق حرب، فإن الالتزام بالتراخيص القانونية لإعادة البناء كاملا أو ترميم المدمر جزئيا عقبة رئيسية أمام مبادرة المتضررين لتأهيل بيوتهم بأنفسهم.

وأضاف أن "البلديات المعنية اتخذت حلولا سريعة على عاتقها لتسهل مصالح الناس لكنها اصطدمت بإجراءات القوى الأمنية الساعية إلى تطبيق القوانين بغض النظر عن خصوصية الوضع المأساوي لأهالي الجنوب والبقاع".

من جهته، أشار رئيس المجلس البلدي في سحمر محمد الخشن إلى أن هذا الوضع أدى إلى ختم ورش بناء بالشمع الأحمر كان أصحابها من المتضررين من الاعتداءات الإسرائيلية قد بدؤوا أعمال إزالة الردم أو حفر آبار لتجميع المياه.

العدوان الإسرائيلي حوّل عدة قرى بالجنوب إلى أنقاض لكن بعض الأهالي بدؤوا البناء من جديد (الجزيرة)تعويض

وقال رئيس المجلس البلدي، للجزيرة نت، "البلدة نموذج، نحن نتابع الناس في عملية التأهيل ونعطي تصاريح على أساس توصيف البناء قبل تضرره كي يلتزموا بالمساحات الخاصة بهم، ندعو دولتنا الكريمة والقوى الأمنية إلى الوقوف مع السكان الذين يعيدون بناء ما دمره العدو من أموالهم".

وأضاف "نحن نساعد ضمن الإمكانيات، ومجلس الجنوب ساعد في إزالة الردم المتأتي من الدمار، وهناك أهال أزالوه بأموالهم والمجلس عوضهم، وهم ينتظرون آلية لتعويض من رمم أو أعاد البناء على نفقته الخاصة. هناك ورش لكن للأسف ختمتها القوى الأمنية بالشمع الأحمر من بينها واحدة عمل صاحبها على حفر بئر لتجميع المياه".

ومنذ حرب الإسناد التي أطلقها حزب الله يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى تاريخ وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، استشهد أكثر من 4 آلاف لبناني، بينهم 736 امرأة و222 عاملا صحيا ومسعفا و248 طفلا، وفق وزارة الصحة اللبنانية. كما تم تسجيل نزوح أكثر من مليون و200 ألف شخص، وتدمير آلاف المباني، وتحولت قرى بأكملها إلى أنقاض.

مقالات مشابهة

  • عامان على طوفان الأقصى... الشرق الأوسط بين حرب مفتوحة وتحولات عميقة
  • برلماني: مصر والسعودية محور الاعتدال العربي وشراكة استراتيجية تضمن استقرار المنطقة
  • قطر تُعلن حضورها القمة "الروسية العربية" في موسكو
  • البرلمان العربي : حريصون على تفعيل التعاون مع البرلمان التشادي وتشاد تمثل جسرًا مهمًا لتعزيز العلاقات العربية الأفريقية
  • أبرز الشخصيات التي اغتالتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر وحتى الحظه
  • أبرز الشخصيات التي اغتالتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر
  • وزير الاقتصاد اللبناني: مصر ركيزة لاستقرار المنطقة العربية وداعم رئيسي لتعزيز العمل العربي المشترك
  • فيديو.. عقبات أمام مبادرات لبنانية لإعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية
  • غريتا ثونبرغ.. السويدية التي تثير هستيريا إسرائيل
  • مناوي يطلق رسائل حاسمة ويضع القوى الوطنية أمام اختبار حقيقي