أسطول الصمود وأسطول الخمود
تاريخ النشر: 7th, October 2025 GMT
صبحي حسن
الضحية الأولى للحروب هي الحقيقة، يُتجار بها كسلعة رغم الدمار والخراب وإزهاق النفس المحترمة. غزة اكتوت بالنار، وأنتجت لنا الطوفان، حرّكت العالم يمينًا وشمالًا، غربًا وشرقًا، أخذت المبادرة بنفسها منذ انطلاقتها بيدها وحدها، بأفلاذ أكبادها، بحياتها، ببيوتها وشوارعها بأزقتها وبثمارها، كل ذلك على حساب أرضها وكرامتها وعزتها.
من الأنشطة والفعاليات التي أفرزها الطوفان، وكان له تأثير مدوٍّ ومؤثّر، أسطول الصمود، وربما وأنا أكتب هذه المقالة، قد حُسم أمر الأسطول بالهجوم على سفنه واختطاف من فيهم من النشطاء رجالًا ونساء دون وجه حق، ومصادرة السفن وما فيها من مساعدات. يا للمفارقة والفضيحة، الصهاينة يقولون إن حماس أخذت رهائن في حرب مشروعة في السابع من أكتوبر، وهم في الواقع أسرى حرب، وهم اختطفوا النشطاء والمتضامنين مع غزة، وفي مياه دولية لا تخصهم، من على متن سفنهم بقوة السلاح وبغير وجه حق، بحجة أنهم مخربون!
نحن في الحقيقة أمام حالة فريدة من نوعها من تاريخ البشرية المعاصر لم تحدث من قبل. تجمعت فيها الإنسانية بكل معنى الكلمة بعيدًا عن التنظيرات الأيديولوجية، والدينية، والجغرافية، والعرقية، والمذهبية، وبعيدًا عن العنتريات العسكرية. هل هذه مفارقة أن يكون الطوفان ويتكوّن الأسطول؟ كلاهما يتبعان البحر والماء، أهل غزة تشبثوا بالتراب والأرض، وأهل الأسطول نزلوا البحر من الأرض، لكي يتضامنوا مع الطوفان!
هناك الكثير من التحديات التي واجهت هذه السفن، منها عامل الطقس والأجواء المتقلبة، وأعطال تقنية، والتزود بالوقود، بالإضافة إلى التحديات الأمنية والاستفزازات التي واجهوها من قبل الكيان الصهيوني، استهدفت سفنهم لكي لا تصل إلى وجهتها قبل وبعد التحرك، فحاصرهم بطائراته المسيّرة استفزازًا، وعطّل عليهم الاتصالات، وهدّدهم بحياتهم. من المؤسف والمخجل أن يتجشّم أصحاب الأسطول هذا الجهد وهذه المشقة في سبيل كسر الحصار، وهناك أكثر من معبر على بعد عدة أمتار من غزة يختصر كل هذه المعاناة.
مشاهد طوفان نوح عليه السلام التي ذكرها القرآن الكريم كثيرة، تقشعر منها الأبدان وتهزّ المشاعر والوجدان، إليكم مشهدًا من هذه المشاهد:
بعد أمر الله تعالى نبيه نوح عليه السلام أن يبني سفينة، وعند اكتمالها، جاء الأمر الإلهي بتطهير الأرض، ففار التنور، وانبجست من الأرض عيون، وأمطرت السماء بشدة، فالتقى ماء السماء بماء الأرض، وتحولت الأرض إلى بحر كبير يصعب تخيله، وصل فيه إلى مستويات طاولت الجبال، وقبل الغرق الكامل، كانت هناك مواجهة رهيبة بين الأب والابن، ربما اختصرت قصة نوح بأكملها.
الأب هو نوح عليه السلام، وهو فوق السفينة ينظر من حوله، وهناك الابن خارج هذه السفينة مع آخرين من أمثاله، وهو يحاول الهرب، وهو يرى الطوفان والماء رؤيا العين. تسلّق جبلًا عاليًا خوفًا على حياته، وهو يظن أن ذلك سوف ينقذه. الأب ينظر إليه بعين الشفقة، قد ملكته عواطف الأبوة الجياشة، حتى إنه ناداه بكل حنان ومحبة وعطف: "يا بني"، وترجاه أن يركب معهم، وبيّن له أنه لن ينقذه أحد مع أمر الله تعالى، وطلب من الله تعالى أن ينقذه، حتى جاءه النداء الإلهي الحاسم: ﴿إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح﴾ هود: 46.
هؤلاء الذين ركبوا الصمود ونزلوا البحر طواعية، يتجشّمون المشاق، تركوا أهاليهم ودنياهم ورفاهيتهم، لكي يلتحقوا بأهاليهم في غزة... إنهم من أهلهم... وهم أهلهم. ما يجمع أهلهم في أوطانهم وبيوتهم هو ما يجمعهم مع أهلهم في غزة، إنه الانتماء الروحي، والإنساني، وفوق ذلك انتماؤهم في العقيدة والأخوة الإسلامية.
أن يكون بين أصحاب الصمود عرب وخليجيين لهو شيء يدعو إلى التفاؤل وتنامي روح المسؤولية والإحساس بآلام الآخرين، فقد تركوا كل شيء وراء ظهورهم لكي يستقبلوا بوجوههم المخلصة أحبتهم وإخوانهم وأهلهم في غزة، ليقولوا لهم وجهًا لوجه: ها نحن معكم، فتقبلوا منا القليل... نفتخر بكم جميعًا.
كم من مجهود بُذل للإعداد لهذا الأسطول من توعية وإعداد لوجستي وجمع التبرعات للتموين، كلها أموال من أهل الخير، خالية من أية منّة أو مقابل أو ريب. وهناك الإعداد الإعلامي، وإعداد لخطط ومسار تحركهم، وقد أبلغوا حكوماتهم وأهاليهم، ليكونوا على علم ويقفوا من خلفهم يساندونهم تحسبًا لأي طارئ. قد بذلوا أيامًا، بل ربما شهورًا من التواصل والسفر والعناء والصبر وتحمل المشاق لهذا الإعداد، خططوا لكل شيء للرحلة: مسارها وتموينها والطعام والوقود والاتصال والتصوير والاتصالات، ليتواصلوا مع أهاليهم والعالم، لينقلوا لنا صورة مباشرة، ويسجلوا ويوثقوا ما يواجهونه في مسيرهم، ونقل تقارير عن الرحلة، كل حسب قدرته ووسعه. إنه مجهود ضخم وكبير رغم تنوع البلدان والمشارب.
نحن هنا أمام صناعة إنسان جديد، يبتعد عن الدنيا وهي تطلبه، لا يسعى إلى المجد أو البطولات الوهمية، إنهم ذاهبون إلى حيث أرادوا أن يكونوا بأرجلهم وقناعتهم التي كوّنوها طوال طوفان الأقصى. إنهم ليسوا من أسطول الخمود الذي مُلئ وشُحن بالكراهية والحقد والعُقد النفسية، الأسطول الذي لا يبالي ما يحدث ويلزم الصمت، بل ربما يكتم الفرح في قلبه لما يحدث في غزة.
سفينة نوح عليه السلام أخذت معها الخُلّص من المؤمنين الذين نبذوا حياة الذل والخنوع والشهوات، ليذهبوا مع نبيهم حيث شاء الله سبحانه وتعالى لهم أن يكونوا، وسفينتهم تصارع الأمواج العاتية... سفينة الصمود طفت على بحر الحرية والثبات والحياة الحرة الكريمة. إن الذي طفا على سطح الماء بالقوارب وواصل مسيرته إلى هدفه غير مبالٍ بالأمواج والتهديدات والأقوال المثبطة للعزائم من إعلام الخمود، هم ثلة آلت على نفسها الصمود وسط طوفان الفساد والانحطاط.
سفينة نوح أبحرت إلى حيث أراد الله لها أن تستقر في نهاية رحلتها المثيرة، سفينة الصمود أبحرت إلى غزة، قبلة الأحرار والبطولات والشجاعة والثبات والإنسانية في أجل صورها. نشطاء الصمود ذهبوا إلى غزة يريدون مساندتهم، والتعلم من كتاتيبهم ومدارسهم وجامعاتهم المدمّرة معنى الصمود الأكبر، معنى الحياة والإنسانية. الشمس تحرقهم كما تحرق أهل غزة وهم في العراء، حركة القوارب والسفن تصيبهم بدوار البحر، يعيشون القلق والانتظار والتلهّف والفرح للقاء أحبتهم في غزة، أية مشاعر. الشمس تحرقهم كما تحرق أهل غزة وهم في العراء، حركة القوارب والسفن تصيبهم بدوار البحر، يعيشون القلق والانتظار والتلهف والفرح للقاء أحبتهم في غزة، أية مشاعر مختلطة هذه التي حملها هذا الأسطول. في الطرف الآخر، أهل غزة يُمطرون ويُقصفون بالحقد والكراهية والانتقام، وبإرادة دولية، سُدّت عليهم آفاق السماء وأقطار الأرض.
8 مليارات نسمة يعيشون على الكرة الأرضية بمساحة تعادل 510,066,000 كيلومتر مربع، مع مواردها الوافرة التي أنعم الله عليها، عاجزون أن ينقذوا مليونين من البشر يعيشون على مساحة 300 كيلومترًا ونيفًا، ولأكثر من سنتين؟! لا يمكن أن يحصل ذلك ولدينا مجلس الأمن، لا يمكن أن يحصل ذلك ولدينا الأمم المتحدة، لا يمكن أن يحصل ذلك ولدينا محكمة العدل الدولية وغيرها الكثير. لا يمكن أن يحصل ذلك ولدينا دول تهرول مسرعة لإنقاذ ومساعدة دول أخرى وإن لم تكن معها على وفاق، عندما يحصل زلزال أو كوارث طبيعية في بلدانها... فلسطين تحديدًا، الحجر يبكي لمأساتهم والبشر في وادٍ.
قلة قليلة من البشر مثل أهالي غزة، إن وُجدوا، وقفوا بثبات وصمود في وجه ثمانية مليارات نسمة بمواردهم وبذخهم وترفهم وأدواتهم العسكرية! إنه الصمود مقابل الخمود.
ما جدوى الحياة في الوقت الذي نأكل فيه، ويجوع آخرون؟ ما جدوى الحياة في الوقت الذي نكون فيه آمنين في بيوتنا، ويكون الآخرون على الأرض من دون سقف يحميهم، يركضون من مكان إلى مكان ويُقصفون تحت حرارة الشمس وهم غير آمنين؟ ما جدوى ما نقوم به من أعمال في حياتنا اليومية الروتينية، إن لم يكن لها نصيب لمساعدة إخواننا في غزة بأي شكل من الأشكال؟
تحية وسلام وإكبار وإجلال لكل الصامدين في الصمود، وهم على أسطولهم يُبحرون أو واصلون إلى هدفهم أو مختطفون. سلام وإكبار وإجلال لكل الصامدين في الصمود الذين يعلموننا معنى الصمود. تحية وسلام وإكبار وإجلال لكل الصامدين الذين تركوا مشاعرهم وعواطفهم في البر وركبوا البحر وهم يلتحفون الصمود. هذا هو المشهد العام، مشهد الإنسانية، ومشهد الحيوانية، مشهد الصمود ومشهد الخمود.
﴿وقل رب أنزلني منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين﴾ (المؤمنون: 29)
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إسبانيا تستقبل ناشطين من أسطول الصمود وتونس تطالب بالإفراج عن البقية
وصل إلى العاصمة الإسبانية مدريد، الأحد، 29 ناشطًا من المشاركين في أسطول الصمود العالمي الذين تعرضوا لهجوم واحتجاز من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي أثناء إبحارهم في المياه الدولية نحو غزة، في محاولة لكسر الحصار المفروض على القطاع.
وعلى متن رحلة من تل أبيب إلى مدريد، وصل الناشطون المفرج عنهم، وبينهم 21 إسبانيًا، والباقون من البرتغال وهولندا. وكان في استقبالهم في مطار "أدولفو سواريز باراخاس" حشد كبير من المتضامنين، بينهم شخصيات سياسية معروفة مثل رئيسة بلدية برشلونة السابقة آدا كولاو، وعضو مجلس بلدية المدينة عن حزب اليسار الجمهوري الكتالوني جوردي كوروناس، إضافة إلى نواب من منطقة بلنسية.
وردّد الحضور في المطار هتافات مؤيدة لفلسطين من بينها "فلسطين حرة" و"نتنياهو مجرم" و"إسرائيل دولة محتلة"، وسط أجواء تضامن واسعة عبّرت عن دعم الرأي العام الإسباني للناشطين.
Gaza flotilla: 21 Spanish activists return, allege "abuse" by Israel pic.twitter.com/p43DBu6sCl — CGTN (@CGTNOfficial) October 6, 2025
كما حضرت وزيرة الصحة الإسبانية مونيكا غارسيا غوميث، وزعيمة حزب "بوديموس" أيوني بيلارا، وعدد من ممثلي أحزاب اليسار، الذين أدانوا بشدة ما وصفوه بـ"الاختطاف غير القانوني" الذي ارتكبته إسرائيل بحق المشاركين في الأسطول.
وقالت الوزيرة غارسيا في تصريحات للصحفيين: "نحن نشكر كل من ساهم في إعادتهم، وندين بشدة اختطاف إسرائيل غير القانوني لهؤلاء الناشطين"، مشيدة بالحراك الشعبي في إسبانيا ضد "الإبادة الجماعية" في غزة.
من جانبها، وصفت بيلارا إسرائيل بأنها "دولة إرهابية"، مطالبة حكومة مدريد بقطع جميع العلاقات معها والإفراج الفوري عن بقية أعضاء الأسطول.
ووفق تقارير إعلامية، فإن من عادوا إلى مدريد هم من وقّعوا وثيقة فرضتها السلطات الإسرائيلية، تتضمن إقرارًا بالدخول إلى المياه الإسرائيلية "بطريقة غير قانونية"، بينما رفض 28 إسبانيًا آخرون التوقيع وما زالوا قيد الاحتجاز.
وقال وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس إن حكومته تتابع أوضاع المحتجزين يوميًا للتأكد من حصولهم على الغذاء والرعاية الصحية، مشددًا على أن بعضهم يتمتع بصفة برلمانية تفرض على إسرائيل التزامات قانونية خاصة.
???? Una multitud de personas acude al aeropuerto Adolfo Suárez Madrid-Barajas para recibir al primer grupo de 21 de españoles de la Flotilla detenidos por Israel
✈️ Allí está @Belu_Jimenez7 pic.twitter.com/Pl7izl8AUc — Cadena SER (@La_SER) October 5, 2025
اعتصام في تونس
وفي العاصمة التونسية، واصل عشرات النشطاء اعتصامًا مفتوحًا أمام السفارة الأمريكية لليوم الثالث على التوالي، للمطالبة بالإفراج عن معتقلين تونسيين ضمن الأسطول ذاته.
وجاء الاعتصام بدعوة من "تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين" و"الشبكة التونسية للتصدي لمنظومة التطبيع"، رفضًا لما وصفوه بـ"الصمت الدولي على احتجاز ناشطين سلميين".
وقالت عضوة هيئة تسيير أسطول الصمود المغاربي، جواهر شنة، إن المحامين تمكنوا من زيارة جميع المشاركين التونسيين في المعتقل الإسرائيلي، مؤكدة أن "معنوياتهم عالية وأن إضرابهم عن الطعام مستمر".
وأضافت شنة أن عملية ترحيل المشاركين المغاربيين باتت وشيكة، دون تحديد موعد دقيق، لكنها أكدت أن الاتصالات متواصلة مع المنظمات الحقوقية الدولية.
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي أفرجت في وقت سابق عن عشرة ناشطين تونسيين وصلوا مطار قرطاج الدولي، فيما لا يزال 15 آخرون رهن الاحتجاز، يواصلون إضرابهم المفتوح عن الطعام احتجاجًا على "المعاملة القاسية" التي يتعرضون لها داخل السجون الإسرائيلية، وفق بيانات "أسطول الصمود المغاربي".
وأفادت تقارير سابقة بأن المحتجزين من دول المغرب العربي، وخاصة التونسيين، تعرضوا لاعتداءات جسدية ومعاملة غير إنسانية داخل المعتقلات، فيما طمأن الأسطول المغاربي عائلاتهم بأن جميع النشطاء حصلوا على قرارات بالترحيل، وستتم إعادتهم تباعًا إلى بلدانهم.
وكان الاحتلال استولى مساء الأربعاء على 42 سفينة تابعة لأسطول الصمود أثناء إبحارها في المياه الدولية نحو غزة، واعتقل مئات النشطاء قبل أن يبدأ بترحيلهم الجمعة.
ليومهم الثالث على التوالي..
أحرار وعِظام تونس يرابطون أمام السفارة الأمريكية في اعتصام مفتوح لحين تحرير جميع أبطال #أسطول_الصمود وعودتهم✊#مع_المقاومة pic.twitter.com/MjkFT2O0Me