اليوم العظيم في الشرق الأوسط لم يأتِ بعد
تاريخ النشر: 17th, October 2025 GMT
تفاصيل كثيرة ومهمة ميّزت قمة شرم الشيخ بمصر الخاصة بتثبيت اتفاق وقف الحرب في غزة. وليس مبالغة القول إن هذه القمة رغم محدودية وظيفتها فإنّها كانت مملوءة بالدروس، وبالمعلن عنه وبالمخفي من النوايا والمخططات، حتى المسكوت عنه كانت نبرته أعلى من المصرّح به.
إن الملاحظة الأولى التي تسترعي الانتباه هي مدى التدحرج الهائل الذي عرفته أهداف النضال من أجل القضية الفلسطينية: فهذه القمة لم تثبت فقط اتفاق وقف الحرب الذي هو تثبيت مشروط بواقع خالٍ من ضمانات الحد الأدنى، بل إنها قمة تثبيت ظاهرة التدحرج في مطالب القضية الفلسطينية.
لنوضح أكثر: الهدف الأول للنضال الفلسطيني كان استرجاع الأرض كاملة كما هي في خريطة 1948 وبعد تراكم الخيبات واشتداد عود الكيان الإسرائيلي والتفاف الشتات اليهودي حوله، اختل كثيراً ميزان القوى فتبنى عقلاء منطقة الشرق الأوسط هدفاً واقعياً يطالب بحدود يونيو (حزيران) 1967. وإلى حدود ما قبل حرب غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كان التجاذب بين شقين في المنطقة: الأول راديكالي متمسك بالهدف الأولي والأصلي للقضية الفلسطينية، والثاني يتفاوض ويتحرك وفق بوصلة حل الدولتين. وبالمناسبة نشير إلى أن أطروحة الطرف الثاني، كانت تمثل أكثر ما يمكن القبول به من تنازلات، ومن الإذعان لموازين قوى الواقع، ولتحول الكيان الإسرائيلي إلى أمر واقع في المنطقة.
هذا باختصار شديد التضاريس الكبرى لأهداف النضالية الفلسطينية.
الصدمة المتوقعة، هو أن الموضوع الرئيسي والمتعلق بحل الدولتين تم السكوت عنه في خطابي ترمب، وأصبح بقدرة قادر كل الإنجاز يدور حول ما وصفه الرئيس الأميركي «بالحدث الأعظم في الشرق الأوسط»، والمتمثل - وهنا وجاهة الصدمة ووجهها - هو وقف حرب غزة!
إننا أمام إعادة ترتيب أهداف النضالية الفلسطينية بشكل يخلط الأوراق ويروج لحالة من الغموض المقصود. بل إن مقولات عدة لترمب إلى جانب تصرفاته تؤكد أن حل الدولتين الذي يعد ظلماً للحق الفلسطيني وأقل ما يمكن الإذعان له والقبول به، قد أصبح هذا الحل على ما يبدو، في البيت الأبيض وطبعاً في إسرائيل، من الماضي الذي تجاوزته الأحداث.
هناك مراوغة وغموض وتهرب. حصلت الحرب على غزة وطالت كي تحقق إسرائيل أهدافها وهي كسر عظم أهالي غزة وتدميرها بالكامل وتنشيط سوق الأسلحة كونها من أهم مهن الولايات المتحدة، وحالياً وبعد أن انتفت المصلحة بأبعادها المتعددة من الحرب على غزة تم الانتقال إلى مصلحة من نوع آخر تُعنى بإعادة الإعمار ورهاناته وتكلفته.
والأنكى من كل هذا، أنه حتى وقف الحرب يتم انتهاكه يومياً، علاوة على أن تغيّب إسرائيل عن القمة يحتمل معنى عدم إلزاميتها بذلك، حتى ولو كان الرئيس الأميركي الحاضر الأقوى في القمة التي حرص في الجمع بينها وبين إلقاء خطاب المساندة والدعم في الكنيست الإسرائيلي وتحديداً في لحظة الإفراج عن الرهائن، إضافة الى كل ما يرمز له ذلك من مدلول سياسي فج يرفض حتى التظاهر بالحياد!
أي إعمار والحرب يمكن أن تعود في أي لحظة ولأتفه سبب؟ هل يمكن الإعمار والقضية لم تحل بوضوح ولم تتم تسوية حل الدولتين؟
في الحقيقة إن التركيز على مسألة الإعمار فيه قفز على المنطق وإملاءات الواقع. فأي إعمار والحرب يمكن أن تعود في أي لحظة ولأتفه سبب؟ هل يمكن الإعمار والقضية لم تحل بوضوح ولم تتم تسوية حل الدولتين؟
لقد تم طرح حل الدولتين لفائدة تفخيم قرار وقف الحرب، والحال أن هذا القرار صاغته عشرات آلاف الأرواح من أطفال غزة ونسائها ورجالها الذين قتلوا والأحياء الذين تم تجويعهم. كما أن هذا القرار هو نتاج ضغط أحرار العالم والشعوب التي لم تتوقف عن المظاهرات والاحتجاج. فاللجوء إلى إيقاف الحرب على غزة حصل عندما انفضحت جرائم إسرائيل ولم يعد ممكناً استمرار رئيس الولايات المتحدة في إشعال الضوء الأخضر لها.
كل الخوف ألّا نستثمر في الدماء التي سالت والجهود التي بذلت وضغط العالم الذي دعم غزة وأهلها. والخوف الأكبر أن يتعامل معنا الطرف الخاسر كأنه هو من ربح الحرب، والحال أن غزة والقضية الفلسطينية هما الرابحان. إنه الربح الرمزي المتحقق بالأرواح والدم، الذي دفع قائمة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية لأن تطول لتبلغ قرابة 147 دولة.
لذلك فإن اليوم العظيم الذي تحدث عنه السيد ترامب ليس يوم توقيع تثبيت وقف الحرب على غزة في شرم الشيخ، بل إن هذا اليوم لم يأتِ بعد ولن يأتي إلا إذا تم تنفيذ حل الدولتين وفق حدود يونيو 1967.
أما السلام فإنه يتحقق بمجهودات الجميع. وإذا كانت الولايات المتحدة جادة في مسألة السلام فلتتوقف عن مد إسرائيل بالأسلحة، وليتم منع بيع الأسلحة لها تماماً كما يتم السعي حالياً إلى نزع السلاح عن «حماس». فالسلام لا يتحقق بنزع السلاح عن طرف ومد أحدث الأسلحة للطرف الآخر.
أغلب الظن أنه حتى المنطق بات يشترط أن تكون قوياً كي تفرضه؛ لأن بالقوة يمكن في الراهن السياسي الدولي أن تفرض فكرة مجنونة وموقفاً ظالماً، وتصمت عما تريد وتصرح بما تريد. إنها جدلية الإرادة والقوة التي لم تعد تشترط العقل والمنطق.
الشرق الأوسط
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة غزة الاحتلال خطة ترامب المرحلة التالية مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرب على غزة الشرق الأوسط حل الدولتین وقف الحرب
إقرأ أيضاً:
حان وقت التغيير في الشرق الأوسط..
لقد تحقّق المطلب الأساسي، وهو الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين.
غير أنّ خطة السلام الأمريكية ما زالت تعتمد على قضايا أوسع من مجرد وقفٍ لإطلاق النار، إذ تشمل مجمل المشهد في الشرق الأوسط. ولهذا، تمارس واشنطن أقصى ضغوطها على حركة حماس، بينما تحاول في الوقت نفسه التقارب مع مواقف الدول العربية الكبرى، وفي مقدّمتها السعودية وقطر ومصر.
لكن هذه الخطة المعقدة محمّلة بالتحفّظات، كما أنّ النهج الأمريكي القديم تجاه المنطقة يتداعى. فمنذ عام 1945، اعتمدت الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط على ثلاثة أعمدة وهي: شراء النفط، وبيع الأسلحة، وتغيير الأنظمة. وفي الدبلوماسية، فضّلت واشنطن اتفاقات السلام الثنائية مثل الاتفاق بين إسرائيل ومصر عام 1979، وبين إسرائيل والأردن عام 1994، واتفاقات أوسلو مع السلطة الفلسطينية (1993-1995).
وفي عهد الرئيس الحالي، واصلت الولايات المتحدة البناء على «اتفاقات أبراهام» (2020- 2021)، وهي سلسلة اتفاقيات لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدة دول عربية، شملت إعلانًا عامًا واتفاقاتٍ ثنائية مع الإمارات والبحرين والمغرب.
لكن مبيعات الأسلحة تبقى جوهر الهيمنة الأمريكية؛ إذ توفّر واشنطن ما بين 60 و80 بالمائة من واردات السلاح الفتّاكة لحلفائها (مثل إسرائيل والكويت والسعودية)، وما بين 50 و60 بالمائة لبقية دول المنطقة (كالإمارات والعراق وقطر).
وتستند هذه الهيمنة أيضًا إلى الاعتماد على المساعدات. فمنذ عام 1946 وحتى 2023، قدّمت الولايات المتحدة نحو 373 مليار دولار كمساعداتٍ خارجية للشرق الأوسط. قبل مأساة غزة، تركزت معظم هذه الأموال في أربع دول هي: إسرائيل (139 مليار دولار)، ومصر (83 مليارًا)، والعراق (70 مليارًا)، والأردن (24 مليارًا).
وبما أنّ الشرق الأوسط هو أكبر متلقٍّ إقليمي للمساعدات الأمريكية، كان من المتوقع أن تظهر نتائجها في ارتفاع الأمن وتحسّن الدخل الفردي، لكن العكس هو ما حدث. بل إن الشراكة العسكرية بين واشنطن وتل أبيب أدّت إلى آثارٍ مدمّرة على الدول العربية المجاورة. هذه الاضطرابات الشديدة جاءت مصحوبةً بسنواتٍ ضائعة، بل عقودٍ، لم يتحسن فيها الدخل الفردي في الدول التي تعتمد على المساعدات الأمريكية.
اضطرت مصر إلى مواجهة هذا الجمود من عام 1965 حتى 1975، ثم مجددًا في العقد الثاني من الألفية. وخسرت الأردن عقدًا كاملًا بعد حرب 1967، ثم أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الثمانينيات، ومرة أخرى في بدايات العقد الماضي. حتى إسرائيل نفسها لم تسلم من فترات الركود، كما ظهر في احتجاجات -غلاء المعيشة- الواسعة بعد تعثّر عملية السلام.
وفي إيران والعراق، تصاعدت الأزمات منذ حربهما الطويلة (1980-1988) حين زوّدتهما واشنطن بالسلاح معًا. ففي العراق، حيث دعمت الولايات المتحدة انقلاب 1963، كان متوسط الدخل الفردي عام 2010 مساويًا لما كان عليه في عام 1978. أما في إيران، التي شهدت أول انقلاب أمريكي- بريطاني عام 1953، فقد كبّلت العقوبات الأمريكية اقتصادها ومنعت أي نمو في الدخل الفردي ربع قرنٍ بعد الثورة الإسلامية، ثم تكرّر الجمود في العقد الماضي.
وفي سوريا، التي أطاح انقلابٌ مدعوم من واشنطن عام 1949 بمسارها الديمقراطي، بقي الدخل الفردي قبل أحداث 7 أكتوبر 2023 على حاله كما كان عام 1981، أي قبل 44 عامًا. أما في فلسطين، فقد عاد الدخل الفردي إلى مستواه في أوائل السبعينيات. وفي اليمن، ظل كما كان قبل 55 عامًا.
وعلى النقيض من هذا المسار، برزت الصين خلال العقد الأخير وسيطا سلميّا موثوقا في الشرق الأوسط. فإلى جانب استثماراتها الكبيرة في دول أنهكتها عقودٌ من الانقلابات والتدخلات الأمريكية، حققت بكين سلسلة إنجازاتٍ دبلوماسية لافتة.
فالدول المحورية في المنطقة، مثل مصر والسعودية وتركيا، تستند إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية لتعزيز البنية التحتية والتنمية. وتبقى السعودية من أكبر مورّدي النفط للصين، وقد بدأت تبيعه بعملاتٍ متعددة. ولسنواتٍ طويلة غذّت واشنطن العداء بين السعودية وإيران، لكن في مارس 2023، استأنفت الدولتان علاقاتهما الدبلوماسية بوساطةٍ صينية.
وفي يوليو 2024، أدّت الصين دورًا حاسمًا في إعلان بكين الذي وقّعته 14 فصيلًا فلسطينيًا لتوحيد الصف الوطني. وبعد شهرٍ واحد، دشّنت بكين ما وصفته بـ«طريق الحرير الثاني» في المنطقة. وفي يوليو 2025، وسّعت الصين ومصر تعاونهما الثنائي في مختلف القطاعات الاقتصادية.
منذ عام 1945، زعزعت واشنطن استقرار دول الشرق الأوسط، وأشعلت حروبًا وانقلابات للحفاظ على هيمنتها. وحدها الحروب التي تلت أحداث 11 سبتمبر 2001 كلّفت أكثر من 8 تريليونات دولار وأودت بحياة أكثر من مليون إنسان. وقبل حرب غزة، كانت المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل تبلغ 3.8 مليار دولار سنويًا، لكنها ارتفعت بعد 7 أكتوبر 2023 إلى 23 مليار دولار. وفي غزة واليمن، جعل هذا الدعم واشنطن شريكًا في هجماتٍ أودت بحياة عشرات الآلاف. فمنذ 2023 وحتى 2025، قُتل أو جُرح نحو 250 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، فيما نزح أكثر من 5.3 مليون شخص في المنطقة بسبب الحروب الإسرائيلية بعد ذلك التاريخ.
يمكن مقارنة هذه الكارثة بسياسات الصين في الشرق الأوسط، التي تركز على خفض التصعيد وتحقيق الاستقرار عبر الاستثمار والتنمية والتحديث.
لقد حان وقت التغيير الفعلي في الشرق الأوسط، وقت التنمية الاقتصادية الحاسمة بقيادة الصين ودول الجنوب العالمي. فـحروب الإبادة ليست حلا لتحديات القرن الحادي والعشرين.
دان ستاينبوك مؤسس مجموعة (ديفرنس)، ومؤلف كتابيْ «عقيدة الإبادة» (2025) و«سقوط إسرائيل» (2024).
عن صحيفة: تشاينا-دايلي الصينيّة