"فلنزهر حيثما زُرِعنا"
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
هلال بن سعيد بن حمد اليحيائي **
كم نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى فترة تنوير للعقول، ورفعٍ للهمة، وإزالةٍ للشكوك والهموم التي تثقل كاهل الإنسان العربي، ذلك الإنسان الذي يعيش تحت وابل من المحتوى المتدفق، الذي في كثيرٍ منه لا يُصلِح بل يُفسِد العقول، خصوصًا عقول الشباب من طلابٍ وباحثين عن عمل وموظفين ورواد أعمال لقد جاءت ثورة التقنية وسهولة التواصل وسرعة انتقال البيانات- خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي- لترسم، بكل أسف، صورة قاتمة وسوداوية تُشخّص واقعنا على أنه بيئة طاردة للمواهب، وغير جاذبة للاستثمار، وأن القوانين في أغلبها ليست في صالح الناس.
في كتاب "لقطات من العقل" للكاتب الأمريكي وعالم النفس الإدراكي جاري كلاين وهو عبارة عن لمحاتٍ أو لقطات من الحياة العملية، جاءت نتيجة عملٍ متواصلٍ لمدة ثلاثين سنة في دراسة القرار الطبيعي في الحياة الواقعية، أي طريقة تفكير الناس في الواقع وكيفية اتخاذ القرار في المواقف المعقدة والغامضة ، وخلاصة ما أراد أن يوصله جاري كلاين هو أن الذكاء الحقيقي لا يُقاس بالامتحانات، بل بالقدرة على الفهم والملاحظة والتصرّف السليم في المواقف الصعبة والمعقدة؛ فالخبرة والمرونة الذهنية هما الركيزتان الأساسيتان في التعامل مع متغيرات الحياة، ومنها في إحدى لقطاته الذهنية، تحدّث الكاتب عن أحد المفاهيم الخاطئة التي ينبغي تصحيحها، وهي عبارة "اتبع شغفك"؛ إذ كثيرًا ما يتمّ الإشارة إليها في الخطب الطلابية في المدارس والجامعات، أو من خلال برامج التحفيز الذاتي والخطب الجماهيرية التي تحثّ على الذكاء والمثابرة والتفاني في الحياة. ويعتقد الكاتب جاري كلاين أنّ هذه العبارة سلبية ومحبِطة للناس، وقد أشار إلى مجموعةٍ من الأسباب أو التحديات، منها قلّة الخبرة؛ فالطالب الذي تخرّج حديثًا وما زال يعيش في الأمنيات التي كان يردّدها منذ طفولته، عليه أن يدرك أنّ تحقيقها يتطلّب منه الجهد والعمل والمثابرة في الحياة الواقعية فحينما كان يُسأل في صغره: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟، كان يجيب مثلًا: طبيبًا، أو مهندسًا، أو طيّارًا، ولكن هذه الوظائف تحتاج إلى جهدٍ ومثابرةٍ وتفانٍ في الحياة العملية، ولا يمكن الوصول إليها بمجرد الشغف أو التمنّي .
وهناك تحدٍ آخر، وهو الجهل الذي يبقى الشاب يعيش معه، فيحمل شغفًا ورغبة في إيجاد مسار وظيفي لا يرضي سقف توقعاته، وقد يأخذ هذا البحث سنواتٍ أو عقودًا من عمره تائهًا حتى يجده. وكل ما يُطرح عليه من مساقاتٍ مهنية يرفضها بحجة أنها لا تتوافق مع الشغف والرغبة التي تسيطر على عقله ومن التحديات أيضًا حب الذات والعيش مع النفس، دون أن يدرك الشاب أنه يجب أن يعيش الواقع، والحياة الاجتماعية القائمة على العمل الجماعي وخدمة الناس، وفي خدمة الناس وتوفير ما يحتاجونه من خدمات، يستطيع الإنسان أن يكسب المال، وهذا أمر يجهله كثير من الشباب الباحث عن عمل فالذي يعيش في شغفه وحياته النرجسية لن يستطيع تقديم أي خدمة يراها الناس ذات قيمة، وتستحق الدفع لها برواتب وحوافز مجزية. خذ مثلًا العاملين في القطاعات الصحية من أطباء واختصاصيين وفنيي الأشعة والعلاج الطبيعي، أو العاملين في قطاع الطاقة من مهندسين وغيرهم، وكثير من الأعمال التي تقدّم خدمةً للناس وتستحق الأجر المناسب مقابل ما يقدّمونه.
لذلك علينا أن نفكّر ونبدع ونعمل في أيّ فرصة عمل تُتاح لنا، أو نتأقلم مع الفرص المتاحة في السوق، فهي كثيرة، وعلينا اغتنام الفرص بدلًا من انتظار الأمنيات التي تتوافق مع شغفنا، إذ قد يطول الانتظار ويضيع العمر في الترقّب.
وعلى الإنسان أن يبادر إلى العمل الفعلي، فكما يُقال: كل ناجح تفوّق في حياته لأنه بدأ مبكرًا، وابتعد عن منطقة التفكير المفرط والتردّد، فهما طريق الفشل ومن أيّ عملٍ يُبادَر إليه، يكتسب الإنسان مهاراتٍ حياتية وقدراتٍ جديدة تؤهله مستقبلًا ليكون الأكفأ والأجدر، بخلاف من يظلّ باحثًا عن عمل لا يملك من الخبرة والمعرفة إلا الشهادة العلمية فلتكن رسالتنا: "أن نُزهر حيثما زُرِعنا، ونُثمر حيثما أُتيح لنا أن نكون".
** رئيس مركز بهلا الثقافي للعلوم والابتكار
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
المجلات العلمية بين التوثيق التاريخي وإثراء الحياة الثقافية
للمجلات العلمية دور بارز في صناعة الثقافة والمعرفة المستدامة؛ لأنها تشكل رافدًا أساسيًا من هذه المعرفة، وتؤدي غرضًا للتوثيق التاريخي للأطوار التي يمر بها المجتمع والحالة الثقافية والفكرية التي يعيشها، لاسيما تلك التي تناقش المجالات المعرفية والفكرية بحيادية واستقلالية لا تتدخل فيها الأجندة التي يُمكن أن تؤدي إلى نشر أوراق لا قيمة علمية لها؛ وبالتالي فإن محاولة دراسة أو تتبع تأثير المجلات العلمية على الحياة الثقافية وإسهامها في توثيق التطور المجتمعي مهمة لتحسينها ومعرفة جوانب النقص أو التحسين الممكنة، أو محاولة وصف كيفية إسهامها على الأقل وأهمية استقلالها العلمي.
تنقل المجلات العلمية الأبحاث المكتوبة من التخصصية الضيقة إلى الفضاء الثقافي العام، بحيث يُمكن لغير المتخصص أن يقرأ في الموضوع دون الحاجة اللازمة لمعرفة التخصص معرفة دقيقة، وعلى الرغم من أن المقالات عادة تناقش أو تحاول سد فجوات معينة في موضوع الكتابة، إلا أنها لا تتعمق تعمقًا مبالغًا فيه تخصصيًا، سوى في بعض المجلات العلمية أو بعض المقالات، أما الغالب فيمكن للقارئ العادي قراءته، وبالتالي، فإن دور المجلات العلمية هنا هو أن تنقل النقاش أو الحوار من الدوائر الضيقة التي يُمكن أن تكون في غرف الأكاديميا أو المحاضرات الجامعية، إلى النقاش الثقافي الأوسع الذي يشارك في تحسينه أو تجويده أو نقده الجميع، دون الحاجة إلى الرخصة الأكاديمية أو العلمية، لكن هذا لا يدعو أيضًا أن يكون النقاش نابعًا من توجهات أو نظرات تنميطية مسبقة، وإنما يكون نقاشًا يحاول الوصول إلى الموضوعية ولو بشكل قليل، ويسهم في وضع لبنة في بناء النقاش.
هذا يسمح للباحثين والمجتمع أن يتحاوروا بشكلٍ علمي وقادر على البناء المعرفي بشكل أكبر، إذ نقل النقاشات وما يدور فيها إلى المجتمع يطور الحاسة النقدية ويسمح بزيادة «التقدم» المعرفي. فضلا عن ذلك، فإن المجلات العلمية تشكل ذاكرة معرفية تحفظ التحولات الفكرية والاجتماعية للأمم، إذ إن هذه الدراسات المكتوبة في المجلات تتيح للباحثين المستقبليين أن يستخدموها مصادر لتتبع التطور الذي شهدته المجتمعات وما جرى فيها من نقاشات ومطارحات فكرية وعلمية والسياقات المحلية والعالمية التي أدت إلى هذه النقاشات، فعلى سبيل المثال يُمكن دراسة الحالة العلمية والمعرفية للمنطقة خلال الإبادة الجماعية لغزة بعد 2023 من خلال تتبع المقالات والدراسات العلمية المنشورة في المجلات التي كتبت حول هذه المسألة، والمقارنة بين مجتمع وآخر أو دولة وأخرى في المواقف والقرارات.
وفي عمان، شهدت الحياة الثقافية ظهور العديد من المجلات التي تنشر دراسات محكّمة، ينبغي الالتفات لها وتتبعها ودراستها. وقبل الإشارة لعينات تمثيلية من المجلات العمانية، لابد من ذكر مجلة الغدير التي صدر أول عدد لها في 1977 على يد أحمد الحارثي رئيسًا للتحرير، وأحمد الفلاحي مديرًا للتحرير، وتوقفت في 1984، وهي بحاجة لإعادة البحث فيها أو إنتاجها لما تمثله من قيمة علمية وثقافية في وقتها. من ضمن العينات التمثيلية للمجلات في العصر الحديث مجلة التسامح التي صدرت لأول مرة في 2003 عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وكان الهدف المعلن منها كما ورد في العدد الأول أنها ترسخ «الإسلام الذي يقوم على التسامح وحق الاختلاف وتعددية وجهات النظر» و«إعادة الاعتبار للاجتهاد بوصفه مسألة حيوية في الفكر الإسلامي من أجل تجديد ذاته في مواجهة العصر ومتغيراته» و«العمل على إصلاح مواطن الخلل في الفكر الإسلامي» وكانت تعنى بالخطاب الإسلامي في العموم وشؤون الحياة المعاصرة كما ورد في الصفحة الأولى من العدد الأول، والتي تحول اسمها لاحقًا لمجلة «التفاهم». ومجلة نزوى، المجلة الأكثر شهرة على الأرجح، التي صدرت لأول مرة في 1994 عن دار جريدة عمان للصحافة والنشر(آنذاك)، وتذكر في العدد الأول أنها جاءت «كمتطلب ثقافي ضروري في مسار الثقافة العمانية ومحاولة بلورة خصوصيتها وأصواتها وروافدها المتعددة» (ص4)، واستطاعت مجلة نزوى أن تصدر حتى الآن مائة وثلاثة وعشرين عددًا، آخرها كان في يوليو، 2025، واستقطبت العديد من الكتّاب والباحثين وأصبحت مقروءة بشكل كبير في الدول العربية على العموم. وآخر المجلات العلمية التي صدرت مجلة الدراسات الاستراتيجية والدفاعية عن أكاديمية الدراسات الاستراتيجية والدفاعية بوزارة الدفاع، صدر العدد الأول منها في إبريل 2025، والهدف من صدورها هو «نشر بحوث عالية الجودة في مجالات الدراسات الاستراتيجية والدفاعية بهدف تعزيز الحوار العلمي وتقديم المعرفة في هذه المجالات»، وقد نشرت عدة دراسات محكمة في المجلة.
من خلال النماذج السابقة يُمكن تبين أن المجلات العلمية تحفظ السجلات الفكرية والتحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وعليه فإنها توثق لفترات تاريخية يُمكن أن تكون مصادر أولية للباحثين الذين يودون تتبع التطور الفكري والمعرفي للمجتمع خلال الفترات المختلفة، فعلى سبيل المثال، يُمكن تتبع التطورات الفكرية والمعرفية والمجتمعية والسياسية من خلال تتبع الموضوعات المطروحة في مجلة نزوى من العدد الأول في 1994 وحتى العدد الأخير في 2025، وإذا افترضنا وجود مجلات عديدة تناقش مجالات مختلفة يصبح التتبع أكثر ثراء وقوة.
وإذا كانت الصحف اليومية تشكّل ثراء راهنًا أو لحظيًّا بما يُكتب فيها من مقالات رأي أو حول القضايا وجوانب الثقافة، فإن المجلات العلمية تُعنى بالعمق التحليلي والمعرفي، وليست بالضرورة مرتبطة براهنية زمنية معينة، إلا بمقدار الفترة التي تشتغل عليها الدراسة الموضوعة في المجلة، وبالتالي فإن وجود الصحف لا يغني عن المجلات المتخصصة، إضافة إلى أن المجلات تفترض سياسات تحكيمية ومعايير علمية أكثر دقة من الصحف اليومية، مما يجعلها أكثر ثراءً وقوة.
بالنسبة للمجلات العمانية، فمن الانتقادات التي يُمكن توجيهها إليها، أنها ليست مستقلة في أغلبها، إذ الأغلب يتبع مؤسسة حكومية معينة تمثّل الممول الرئيس، ولعدم وجود مراكز أبحاث مستقلة، فإن المجلات المستقلة غير موجودة تقريبا، ومن المهم والضروري أن تكون المجلات العلمية مستقلة حتى تحافظ على مصداقيتها وقوتها، إذ هي لا تتبع أي أجندة معينة، وبالتالي تتخذ من المنطلق المعرفي أساسًا لها، وكذلك حتى لا ترتبط بالضرورة بشخصيات معينة، تنتهي بانتهاء فتراتهم الوظيفية، ولذلك فالاستقلالية بالنسبة للمجلات العلمية مهمة وضرورية، وهذا يتعلق أيضًا باستقلالية لجان التحكيم فيها حتى تضمن قبول المقالات ذات المنهجية العلمية الجيدة، وهنا تتكون مشكلة أخرى يُمكن أن تواجه هذه المجلات وهي القدرة على الموازنة بين الجاذبية الثقافية والصرامة الأكاديمية، بحيث إنها تبقى مقروءة وتؤثر في الحياة الثقافية للمجتمع ولا تبقى في معزل عنه، وفي الوقت ذاته تلتزم بالمعايير الأكاديمية التي تحفظ جودتها ودقتها ومصداقيتها، وقد استطاعت العديد من المجلات العربية أن تحافظ على هذه الموازنة وتكوّن جمهورًا دائمًا لها.