عن المهاجرين الذين يريدون طرد المهاجرين!
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
يتصدر موضوع الهجرة النقاش في الدول الغربية باستغلال سياسي مفضوح من التيارات اليمينية المتطرفة وبتواطؤ مع قوى مهيمنة بالمال والإعلام تلعب لعبة نفاق مكشوفة بالتحريض والتضخيم واستغلال المخاوف الشعبية، وتجيير الحق في التعبير عن انشغالات مشروعة خاصة حول "الهجرة غير المشروعة" إلى باطل الانتهازية وسياسة فرق تسد، واستهداف خاصة المسلمين بإسلاموفوبيا وبنظريات مؤامرة متهافتة، وأبرزها نظرية "الاستبدال الكبير"، التي تروج إلى أن هناك مخططا لاستبدال السكان البيض في أوروبا عبر المهاجرين المسلمين.
لكن ما أثار استغرابي خلال متابعتي للموضوع هو أن كثيرا ممن يتصدر المشهد في المزايدة بموضوع الهجرة والتحريض على المهاجرين هم من المهاجرين وأبناء المهاجرين، وهناك نماذج كثيرة لعل أبرزها هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه، الذي صرح كم من مرة "متباهيا" أنه ابن وحفيد مهاجرين. فجد دونالد ترامب فريديرك هاجر من ألمانيا، وإن كان والد دونالد فريد ولد في نيويورك فإن والدته ماري آن ماكلويد ترامب قد ولدت في أسكتلندا (عام 1912) وهاجرت للولايات المتحدة وهي في الـ18 من العمر، قبل أن تتزوج بفريد وتنجب منه 5 أبناء (3 ذكور وأنثيين)، بينهم دونالد. ولم تحصل والدة الرئيس الأمريكي على الجنسية الأمريكية إلا عام 1942، أي وهي في الـثلاثين من العمر.
الزوجة الأولى لترامب إيفانا زيلينكوفا، مهاجرة من التشيك، كانت قد هاجرت في سبعينيات القرن الماضي، إلى كندا للهروب من بلدها الشيوعي المغلق آنذاك (تشيكوسلوفاكيا قبل انفصال البلدين)، وذلك عبر "زواج أبيض" مع مدرب تحلق على الثلج نمساوي. وقد انتقلت بعدها من كندا إلى الولايات المتحدة، حيث عملت في نيويورك كعارضة أزياء وهناك التقت بدونالد ترامب وتزوجا في 1976، وأنجبت منه ثلاث أبناء (دونالد جونيور، وإيفانكا، وإيريك)، قبل أن يعلنا طلاقهما عام 1990.
الزوجة الثالثة لترامب هي أيضا مهاجرة، وهي ميلانيا كناوس، وهي أيضا عارضة أزياء، وقد ولدت عام 1970 في سلوفينيا (التي كانت حينها جزءا من يوغسلافيا)، وقد هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 1996، وقد تعرفت خلال عملها كعارضة أزياء على دونالد ترامب وبدأت مواعدته رغم فارق السن بينها (ترامب من مواليد 1946)، ولم تعقد قرانها مع ترامب إلا عام 2005، وقد أنجبت منه ولدا (بارون) عام 2006.
وزوجة ترامب الثانية هي مارلا مايبلس المولودة في أمريكا، ولكنها هي أيضا من أصول مهاجرة، وقد تزوج بها عام 1993 بعد شهرين من إنجابها ابنتهما تيفاني، التي تزوجت بمايكل بولس بابن المهاجر اللبناني مسعد بولس، الذي عينه ترامب مع بداية ولايته الثانية مستشارا للشؤون الإفريقية. وقد ولد مسعد بولس في لبنان، وهاجر للدراسة في أمريكا، وهو مراهق، ثم هاجر بعدها إلى نيجيريا للعمل، وهو حاصل على جنسيتها إلى جانب الجنسية اللبنانية والأمريكية والفرنسية. وزوجة مسعد بولس سارة فضول هي كذلك من أصل لبناني وقد ولدت في بوركينا فاسو لعائلة لبنانية مهاجرة هناك.
إلى جانب ترامب فإن أبرز المحرضين ضد المهاجرين، وخاصة المسلمين، هو أغنى رجل في العالم، الجنوب إفريقي (المولد) المهاجر إلى كندا ثم أمريكا، إيلون ماسك، الذي حوَّل منصة "تويتر"، التي غير اسمها إلى "اكس" إلى أداة لبث سموم اليمين العنصري المتطرف وخطاب الكراهية والتحريض ضد المهاجرين، رغم أن ماسك نفسه مهاجر، وله موقف منافق من الهجرة، حيث يعتمد في أعماله على المهندسين المهاجرين!.وإلى جانب ترامب فإن أبرز المحرضين ضد المهاجرين، وخاصة المسلمين، هو أغنى رجل في العالم، الجنوب إفريقي (المولد) المهاجر إلى كندا ثم أمريكا، إيلون ماسك، الذي حوَّل منصة "تويتر"، التي غير اسمها إلى "اكس" إلى أداة لبث سموم اليمين العنصري المتطرف وخطاب الكراهية والتحريض ضد المهاجرين، رغم أن ماسك نفسه مهاجر، وله موقف منافق من الهجرة، حيث يعتمد في أعماله على المهندسين المهاجرين!.
وإيلون ماسك من رعاة وممولي أبرز الوجود المعادية للهجرة والمسلمين بشكل خاص، تومي روبنسون خريج السجون المتطرف المعادي للهجرة والإسلام، في بريطانيا، والذي لديه سجل إجرامي في التحريض على العنف والكراهية.
والمفارقة أن تومي روبنسن، اسمه الحقيقي ستيفن ياكسلي لينون، ليس إنجليزيا خالصا، فوالدته مهاجرة إيرلندية، كما اعترف هو نفسه. وقد أخذ اسم "روبنسون" من اسم زوج أمه بعد انفصال والدته عن والده، عندما كان صغيرًا.
وكان روبنسن نظم الشهر الماضي مظاهرة كبيرة قد شارك فيها العديد من الوجوه اليمينية واليمينية المتطرفة البريطانية والأوروبية والأمريكية المعادية للإسلام، من بينها رئيس حزب "استرداد" اليميني المتطرف الفرنسي إريك زمور، الذي كان مرفوقا بعضو الحزب وأحد "أبشع وجوه" اليمين المتطرف "جان مسيحة"، القبطي المصري المولد (عام 1970)، واسمه الحقيقي حسام بطرس مسيحة، والذي هاجر لفرنسا مع عائلته وهو في الثامنة من العمر، ولم يحصل على الجنسية الفرنسية إلا عام 1990، وغيَّر حينها اسمه إلى جان مسيحة.
والمفارقة أن "زمور"، وأصل عائلته من يهود الجزائر، أثار السخرية عندما قال في كلمته في تجمع مظاهرة لندن، مخاطبا الحضور: “نحن وأنتم عرضة لنفس مسار الاستبدال (السكاني) الكبير لشعوبنا الأوروبية من مهاجرين جاؤوا من الجنوب، ومن ثقافة إسلامية. وأنتم ونحن مستعمرون من مستعمراتنا السابقة".
واللافت أن لقب "زمور" يعني بالأمازيغية "زيتونة"، وأصل عائلته من يهود الجزائر، وقد هاجرت إلى فرنسا في نهاية الخمسينات فقط (حيث ولد هناك)، بينما يزايد على معاداة المهاجرين والعرب المسلمين بالذات. وقد انتقد المؤرخ اليهودي الفرنسي (الذي ولد في الجزائر) بن جامين سطورا، مزايدات زمور، الذي وصفه بأنه "يهودي عربي"، عكس ما يدعي أي من اليهود الذين عاشوا في المنطقة العربية، وكثير منهم لجأوا خاصة للمنطقة المغاربية من إسبانيا بعد انهيار حكم المسلمين في الأندلس (الذي عاشوا فيه برفاه وخدموا حتى كوزراء فيه)، وذلك فرارا من البطش المسيحي الكاثوليكي لمحاكم التفتيش خلال ما سميت بحروب الاسترداد المسيحية الرهيبة. والمفارقة أن إيريك زمور، أطلق اسم "الاسترداد" على حزبه، ويزايد بالدفاع عن هوية فرنسا باعتبارها مسيحية كاثوليكية، مع الحديث عن تهديد المهاجرين المسلمين لـ"اللائكية" (العلمانية الفرنسية)، والدفاع عن اليمين الفرنسي المتطرف المعادي تاريخيا لليهود، والعميل للاحتلال النازي لفرنسا، والمتواطئ معه في إبادة والتنكيل باليهود في فرنسا (أثناء الحرب العالمية الثانية)!
وهناك في بريطانيا نموذج آخر أجده أكثر مفارقة لهؤلاء المهاجرين أو أبناء المهاجرين الذين يحاولون أن يكونوا نسخة بائسة من اليمينيين العنصريين، ابن المهاجر المسلم محمد ضياء الدين يوسف، وهو رئيس حزب "ريفورم" اليميني الذي يقوده كـ"شركة خاصة" نايجل فاراج، صديق ترامب وهو أيضا من أصول مهاجرة.
ويضع فاراج ابن المهاجر المسلم محمد ضياء الدين يوسف كواجهة لإعطاء صورة أن الحزب ليس عنصريا أو معاديا للمهاجرين المسلمين رغم سجله الموثق في هذا. ويحاول يوسف أن يلعب هذا الدور فهو ولد في بريطانيا لوالدين مسلمين جاءا من سيرلانكا، ويقول إنه ملتزم دينيا، غير أن الدور الذي يقوم به لا بطولة فيه بل بدور "كومبرس"!
*كاتب جزائري مقيم في لندن
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الغربية الغرب رأي مهاجرون سياسات قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
أوروبا العجوز تفقد الثقة في النفس.. وتجنح لليمين
في أكثر من بلد أوروبي يبدو اليمين المتطرف صاعدا بقوة في تأثيره السياسي والاجتماعي، متنامي الحضور في البرلمانات، متسيدا للنقاشات العامة، واضح التأثير في الإعلام واستطلاعات الرأي.. بلغ السلطة في بعض البلاد، ويطرق بابها في اكثر من بلد في القارة العجوز.. ولعله يبلغها في أكثر دول القارة خلال سنوات قليلة.
يقول أوروبيون كثر، وهم يواجهون ما تواجهه دول القارة العجوز من أزمات متنامية.. تناقص في الثقة في النفس وضبابية في رؤية المستقبل والمصير واستفحال الديون، وتدهور في الخدمات العامة، وغلاء الأسعار، وتراجع حالة الرفاه عامة في معظم دول القارة.. يقولون لقد جربنا اليسار وجربنا اليمين، عقودا طويلة، منذ الحرب العالمية الثانية، على الأقل، ورأينا فشلهم جميعا في استعادة مكانة أوروبا الدولية ورفاهيتها، فلماذا لا نجرب أقصى اليمين؟ لماذا لا نعطيهم فرصة في الحكم لننظر كيف يفعلون؟
هذا السؤال المحوري في السياسة الأوروبية يتفاعل بقوة مع دعاية اليمين المتطرف، إذ تصوره تلك الدعاية قادرا على حل معضلات دول القارة خلال أسابيع أو أشهر على أقصى تقدير.. حتى قال نايجل فراج في بريطانيا إنه سيحل مشكل دخول المهاجرين للملكة المتحدة عبر القنال الإنجليزي خلال نصف شهر لا غير.. وهي دعاية تظل صادقة عند البسطاء من الناس حتى يثبت بطلانها.. كل ذلك يرشح اليمين المتطرف للحكم في تقديرنا في أكثر من بلد أوروبي خلال خمس إلى عشر سنوات لا أكثر.
حمار الهجرة القصير
يعتبر ملف التخويف من الهجرة، أهم الملفات التي يركز عليها اليمين المتطرف، حتى بات كثيرون من نشطائه يصفونها بالغزو البطيء الناعم، محذرين من استبدال الهوية الاجتماعية والدينية للمجتمعات الأوروبية بهويات هجينة بديلة.. ورغم أن الكثير من مراكز البحث الأوروبية المرموقة تعتبر الهجرة، وخاصة هجرة الكفاءات، ضرورية للحفاظ على الحد الادنى من النمو الاقتصادي ومعالجة أخلال نقص الولادات واستفحال الشيخوخة، في ظل تزايد طول أعمار السكان، وتدهور وضع مؤسسات الضمان الاجتماعي.. إلا أن خطابها العاقل لا يلفت الأنظار، تحجبه الدعايات الصاخبة لليمين المتطرف، حيث الحلول في زعمه موجودة، والعلاج ممكن وسهل، لا يحول بين الناس وبينه إلا مؤامرات اليسار المتطرف واليمين التقليدي الفاشل المتمسك بالحكم، حارما أوروبا من قوى ستجلب لها السعادة والقوة والثقة بالنفس، خلال زمن وجيز.
يعتبر ملف التخويف من الهجرة، أهم الملفات التي يركز عليها اليمين المتطرف، حتى بات كثيرون من نشطائه يصفونها بالغزو البطيء الناعم، محذرين من استبدال الهوية الاجتماعية والدينية للمجتمعات الأوروبية بهويات هجينة بديلة..لقد حذرت المفوضية الأوروبية من تناقص اليد العاملة في القارة بنحو مليون عامل سنويا، من 265 مليون في 2022 إلى نحو 258 مليون في 2030. وقدر مركز Joint Research Centre التابع للمفوضية أن يتقلص عدد اليد العاملة بنحو 42.8 مليون حتى عام 2070، ما يعني أن عدد الشباب الأوروبي، الذي يدخل سوق العمل كل عام لا يكفي لتوفير اليد العاملة المطلوبة ماهرة أو عادية للمؤسسات الاقتصادية العطشى لليد العاملة، إلا أن اليمين المتطرف الشعبوي لا يرى ذلك، ولا يكاد يرى إلا أخطار الهجرة، دون أن يرى الكثير من فوائدها.. أو هو يرى فوائدها لكن رغبته الجارفة في التموقع في السلطة تجعلها عنده غير ذات فائدة وخطرا على النقاء العنصري لدول القارة.
الديون والعجز الاقتصادي
في ميدان الاقتصاد يكمن تفسير نمو اليمين المتطرف. فأوروبا في أزمة اقتصادية مستفحلة، وثقتها في نفسها تتقلص، وحضورها وتأثيرها الدولي في تراجع.. وهذه ظروف مثالية للتقوقع على الذات، وجنوح المجتمعات الخائفة من المستقبل نحو اليمين.. كثير من دول أوروبا، وخاصة الكبيرة منها، فاقت ديونها ناتجها الخام بأكثر من مائة في المائة.. ففي فرنسا بلغ الدين العام 114% من الناتج المحلي، بمبلغ مقداره 3416 مليار يورو، وخدمة دين في حدود 62 مليار يورو سنويا، ويتوقع أن تبلغ خدمة الدين 100 مليار يورو عام 2029.
إيطاليا بلغ دينها العام 135.3% من دخلها القومي الخام، بمعدل 3.07 تريليون يورو وخدمة دين تبلغ 3.69% من الناتج المحلي. وإذا احتسبنا حجم الدين العام والخاص قد نتفاجأ بأنه يبلغ 6.7 تريليون يورو أي ما نسبته 313% من الناتج المحلي الخام للبلاد.
أما بريطانيا فبلغ دينها العام 101.3% من الناتج المحلي أي 2.8 تريليون جنيه او ما يعادل 3.5 تريليون دولار، وتبلغ خدمة الدين 111.2 مليار جنيه سنويا. أما إذا جمعنا حجم الدين العام والخاص فالمبلغ يصل إلى اكثر من 8 تريليون جنيه، وهو مبلغ مخيف إذا قورن بحجم اقتصاد المملكة وناتجها الخام.
وأما إسبانيا فيبلغ دينها العام 101.8% من ناتجها المحلي الخام، مع خدمة دين تقدر ب2.8% من الناتج الخام للبلاد. وتبلغ ديون بلجيكا العامة 104% من ناتجها الخام مع 2.02% خدمة دين من الناتج الخام. وتعتبر ألمانيا أفضل حالا، ولكن دينها العام يبلغ 2.69 تريليون يورو بنسبة 62.5% من ناتجها الخام. لكننا إذا أضفنا ديون الشركات والأسر في ألمانيا فإن الرقم يقفز إلى 195.5 من الناتج الخام للبلاد.
في هذه الديون تكمن مشكلة أوروبا.. فدولها لم تعد قادرة على توفير الرفاه لشعوبها، إذ تستهلك خدمة الديون اموالاً طائلة كانت توجه من قبل للخدمات العامة والبنية التحتية.. وقريبا ستبدأ آثار الديون تؤثر على استقرار دول القارة، وفرنسا نموذج حي في عدم الاستقرار، بخمس حكومات في عامين، وتشتت البرلمان وإصابته بالشلل، بحيث لم يعد قادرا على اتخاذ قرار يعالج مشكلة المديونية المتفاقمة.. ولا يرى عتاولة اليمين المتطرف ذلك، فيرجعون المشكلة فقط للهجرة والأجانب الذين يتمتعون بالإعانات الاجتماعية أو يسرقون الوظائف من الأوروبيين "الأقحاح".
تراجع الولادات وأزمة نظم الرعاية والتقاعد
يعتبر تهرم القارة العجوز إحدى أكبر مشكلاتها، وهي مشكلة غير قابلة للحل في المدى المنظور، بل إنها مشكلة تتفاقم عاما بعد عام.. إيطاليا أكثر دول القارة ضعفا في نسب الولادات، بمعدل 1.18 طفل لكل امرأة، وهو معدل أقل بكثير من معدل 2.1 طفل لكل امرأة حتى يمكن أن يتجدد عدد السكان.
ولا تبعد ألمانيا كثيرا عن إيطاليا فمعدل الولادات فيها في حدود 1.35 طفل لكل امرأة. ويبلغ المعدل في بريطانيا 1.44 طفل لكل امرأة. وتعتبر فرنسا أفضل حالا بقليل، إذ تبلغ النسبة فيها 1.66 طفل لكل امرأة. ويرجع الفضل في ذلك للمهاجرين فيها، فلهم الفضل في تلك الزيادة.
إن نسب الولادات الضعيفة لكل امرأة في أوروبا تعني أن القارة من دون مهاجرين جدد ستدخل في نسق تراجع كبير للسكان يهدد القارة بالانقراض، وهو امر يحتاج زمنا طويلا حتى يصير واقعا.. لكن المؤسسات الاقتصادية لا تستطيع الانتظار طويلا في ظل استفحال المنافسة الدولية، ما يجعلها عطشى لليد العاملة، التي توفرها الهجرة شرعية أو غير شرعية..
قطاع نظم الرعاية الصحية وصناديق الضمان الاجتماعي هو الآخر في امس الحاجة لأيدي عاملة شابة، توفر استدامة صناديق التقاعد والتامين والرعاية الصحية، بضخ أموال جديدة فيها تمكنها من دفع مستحقات التقاعد والتأمين والرعاية الصحية. وكلما تناقص عدد العمال الشباب كلما تفاقمت أزمة الصناديق. وبما ان الولادات تقل عاما بعد عام، وأعمار السكان تزيد طولا بسبب الرعاية الصحية ومحاربة الأمراض، فإن الأزمة تستفحل مع الزمن، ولا حل لها إلا بالهجرة.. لكن عيون اليمين المتطرف عمياء لا ترى شيئا من ذلك.
تحول الثروة نحو الصين
إذا ابتعدنا قليلا عن التفاصيل ونظرنا للصورة الكبرى في العالم نكتشف أن دول أوروبا لم تعد دولا مصنعة مثلما كانت قبل عقود، تستورد الخامات الرخيصة وتصدر المنتجات المصنعة، غالية الأثمان، فتتوفر لها ثروات هائلة، توظفها في التعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية، وتسمح للدول بضمان رفاه شعوبها.. لقد انتقلت معظم تلك الصناعات خلال العقود الخمسة الماضية نحو الصين خاصة ودول جنوب شرق آسيا عامة، ومعها انتقلت الثروات، ما جعل دول أوروبا، التي تراجعت مداخيلها بتراجع هيمنتها على الصناعة في العالم، تستدين لتحافظ على الحد الأدنى من إنفاقها على جودة الخدمات العامة وقوة البنية التحتية. لكن طريق الاستدانة محفوف بالكثير من المخاطر. وقد رأيناه في فرنسا يتسبب في عدم استقرار سياسي وتعيين خمس حكومات في اقل من عامين.. وعدم الاستقرار السياسي يصيب البلد الذي يعاني منه بالعجز عن التحرك في الوقت المناسب ويربك كل علاج ممكن.
إن نسب الولادات الضعيفة لكل امرأة في أوروبا تعني أن القارة من دون مهاجرين جدد ستدخل في نسق تراجع كبير للسكان يهدد القارة بالانقراض، وهو امر يحتاج زمنا طويلا حتى يصير واقعا.. لكن المؤسسات الاقتصادية لا تستطيع الانتظار طويلا في ظل استفحال المنافسة الدولية، ما يجعلها عطشى لليد العاملة، التي توفرها الهجرة شرعية أو غير شرعية..الطريف أن هذه التحولات الدولية الكبرى لا يراها الشعبيون في اليمين المتطرف، فهم يبحثون عن تشخيص بسيط للداء الأوربي، فلا يرونه إلا في الحمار القصير سهل الركوب وهو الهجرة والمهاجرون الأجانب، وخاصة العرب والمسلمون منهم.
الإدانة تشمل أحزاب الوسط واليسار
ليس المشكل في شعبوية اليمين المتطرف وحده.. فأحزاب اليسار التقليدي واليمين المحافظ تتحمل نصيبا وافرا من المسؤولية عن انجراف أوروبا نحو اليمين المتطرف. فمنذ سنوات بعيدة كان اليمين المتطرف في فرنسا يقرع أبواب الحكم. وانتقلت الجبهة الوطنية من حزب هامشي إلى حزب بالغ الفعالية والتأثير في فرنسا، حتى بلغ مرشح الجبهة المتطرفة الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية في ثلاث مرات، كانت الأولى في 2002 بترشح جون ماري لوبان في مواجهة جاك شيراك، وتكرر الأمر في 2017 بترشح ابنته مارين لوبان في مواجهة إيمانويل ماكرون، وحصل الأمر ذاته أيضا في 2022.
اماً عن نسب التصويت لتيار اليمين المتطرف فانتقلت من 18% في 2002 إلى 34% في 2017. وبلغت النسبة 41% في 2022، أي قريبا من نصف سكان البلاد وناخبيها. أما عن كيف بلغ اليمين المتطرف ذلك في فرنسا، ويوشك ان يبلغه في باقي دول القارة فالسر يكمن في نفاق أحزاب الوسط واليسار. فرغم ان الدرس الفرنسي كان سابقا زمنيا وواضحا في المآلات الكارثية لسياسة الميل نحو اليمين للحصول على أصوات المتطرفين، فإن الطبقة السياسية الفرنسية فشلت فشلا ذريعا في العلاج، بل زادت الطين بلة، ويتكرر الأمر اليوم في دول أوروبية كثيرة تجنح أحزابها لليمين طمعا في الأصوات، فإذا بها تخسر مواقعها، وتقوي اليمين المتطرف أكثر.. فبدلا من أن تواجه تلك الأحزاب خطاب اليمين وتكشف بالأرقام والإحصائيات العلمية الدقيقة حاجة دول القارة واقتصاداتها ومؤسسات التقاعد والرعاية الصحية فيها للهجرة والمهاجرين، فإنها تعمد إلى تبني سياسات اليمين المتطرف، وتجعلها سياسة دولة، بالهجوم المتكرر على المهاجرين والتضييق عليهم، وتحويل النقاش العام إلى نقاش محموم عن أخطار الهجرة ومضارها، فتكون النتيجة عكسية بإعطاء مزيد من المصداقية لخطاب اليمين المتطرف، لا تقليص تأثيره.
انظر مثلا في بريطانيا، فمنذ أن تولى حزب العمال الحكم في المملكة المتحدة صيف 2024 والحزب يتبنى خطاب اليمين المتطرف، إذ يبالغ في الحديث عن إنجازاته في طرد المهاجرين. الأغرب أنه كلف وزيرة داخلية من أصول باكستانية، لا يكاد يكون لها حضور في الإعلام إلا لتعداد إنجازاتها وإنجازات وزارتها في الحرب على الهجرة وطرد المهاجرين.. وكل ذلك يعطي مصداقية أكثر لحزب الإصلاح اليميني المتطرف وخطابه عن خطر الهجرة والمهاجرين، وهو ما يجعل الحزب يطرق أبواب الحكم بشكل أعنف، ما لم يغير الحزب الحاكم سياسته وينجح في تحسين الوضع الاقتصادي للناس ولو قليلا.
لكن أوروبا قد تكون محظوظة، فما يجري في الولايات المتحدة، التي يحكمها اليوم رئيس يميني متطرف، من تطورات سيئة في ميادين الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية، وما تسببه السياسات الحمائية المجنونة التي يفرضها الرئيس ترامب، من ارتفاع التضخم وفقدان الثقة في الاقتصاد الأمريكي وفي عملة الدولار، قد تفتح أعين الأوروبيين على خطر اليمين المتطرف على دول القارة قبل فوات الأوان.