حوار ـ عاصم الشيدي / تصوير: فيصل البلوشي -

كنتُ محتارا كيف يمكن أن أوجّه دفة هذا الحوار، فهذا المراسل الحربي الذي أجلس الآن إلى جواره صاحب خبرة كبيرة، ليس في غرف الأخبار إنما في ساحات يحمل فيها الصحفي روحه على كتفه وينزل إلى الميدان لتوثيق الحقيقة في لحظة لا يعرف من أين ينطلق الرصاص ولكنه حتما يستقر في الصدور التي لا يفرق إنْ كانت صدور أطفال ما زالت طريقة أو نساء لا حيلة لهن في لحظة الحرب الغادرة.

دخل أسعد طه إلى البوسنة شابا يسوقه قلبه قبل عُدّته، ثم خرج منها محملا بما يكفي من أسئلة كفيلة بأن تثقله بقية حياته: لماذا تُباد المدن؟ وما الثمن الذي يمكن أن يجنيه أي طرف من أطرافها؟ كيف يمكن أن يستطيع صحفي قياس العدل بين رصاصة مدوية وحكاية يحمل صاحبها ثقلا كبيرا على عاتقه قادر أن يغير حياته وتقلبها رأسا على عقب. منذ تلك اللحظة الأولى، حيث رائحةُ البارود وارتباكُ اللغات وخطوطُ نار لا منطق لها، تكشّف له أن الخبر رقم يعبر، أمّا القصة فلها أثر يبقى طويلا جدا.

عاش حرب الشيشان فرأى السماء تُسقط مدنا كاملة، وشهد في سراييفو كيف تتبدّل حياة البشر بين قنّاص ووقفة أم أمام عظام ابنها. وفي كل مرة يقرر فيها أنه لن يعود إلى هذا الميدان يغريه وعد بحكاية جديدة فيعود بدهشة اليوم الأول.

اليوم، وهو يستعيد المشهد بكثير من الوقار، يضع الحرية في موضعها الأسمى: نعمة ومسؤولية وثمن. يعلّم الجيل الجديد وصيّة واحدة، كن صادقا، فلا قيمة لأي تقرير إن لم يكن صادقا!

وبين غزة التي تمنّى أن يكون فيها، وسريبرينيتسا التي لم تغادره، ظلّ يبحث عن «القصة» التي تشرح الحرب بما لا تقدر عليه النشرات.

هنا إذا حوار مع رجل عرف ميادين الحرب وعاش اختبارات الضمير فيها.

*******************************************************************************

•أعيدك إلى البدايات البعيدة: لماذا اخترت خطوط النار لا غرفة الأخبار؟

أسأل نفسي السؤال ذاته الآن بعدما كبرت. في حينها كانت الأحداث تدفعني دفعا. البداية كانت في البوسنة والهرسك؛ انجذبت لتغطية تلك الساحة رغم أني بلا خبرة عسكرية. لم ألتحق بالخدمة العسكرية في مصر لأسباب صحية، ولم تكن لدينا آنذاك الدورات التي يتلقّاها اليوم المراسلون في أوروبا والغرب لتعلّم التعامل مع بيئات الصراع.

كان الدافع عاطفيا ومعرفيا معا، رغبة قلبية شديدة في كشف منطقة معتمة. اكتشفنا فجأة أن في يوغسلافيا مسلمين، وفي البوسنة مجتمعا مسلما يُفعل به ما يُفعل. كنت أقيم في ألمانيا، وأذهب إلى سراييفو برًّا كل ثلاثة أشهر تقريبا أترصّد اندلاع الحرب، حتى وقعت فعلا وكنت هناك في بدايات عام 1992.

ورغم الخطورة، شعرت بسعادة بالغة لأنني أساهم في إزالة الغشاوة والتركيز على ما يتجاوزه الإعلام غير العربي وغير المسلم. ذلك الدافع نفسه حملني لاحقا إلى مناطق أخرى؛ إلى جبهات الحروب، ومناطق الصدمات والأزمات.

*******************************************************************************

•هل جاء هذا النداء من طفولتك في السويس، من عيشك قرب الحرب وسماع دويّها، وكأنك كنت تتمنّى تغطية «حرب السويس» مثلا؟

حرب السويس كانت عام 1967، حين وصلت القوات الإسرائيلية إلى ضفاف القناة، وأنا ابن السويس. ربما عندي ثأر شخصي فوق الثأر العام تجاه الكيان الإسرائيلي. لكن في البوسنة كان الأمر مختلفًا؛ هناك وقعتُ في حبّ المكان. تعاملتُ معها كما تتعامل مع صديق أو حبيب يمرّ بأزمة: تقول لنفسك سأقف معه مهما كان الثمن. هذا الشعور تجاوز الدافع المهني البحت. أنا من أنصار أن أتّبع قلبي؛ قد يورّطك قلبك، لكنك تشعر بسعادة لأنك تفعل ما تؤمن به. هكذا كان الأمر.

*******************************************************************************

•قلتَ في أحد حواراتك إن «الحرب الأولى لا تُنسى». بعد كل هذه السنوات، كيف تتذكّر اللحظة الأولى... رائحة البارود عند دخولك غمار الحرب؟

صحيح؛ الحرب الأولى لا تُنسى، مثل الحبّ الأول. اكتشفت ذلك مؤخرا وأنا أقدّم أمثلة في الندوات والدورات؛ وجدتُ أن معظم أمثلتي من البوسنة. شاركت في تغطية حروب بعدها، لكني كنت فيها «ضيفا»: أسبوعا أو أسبوعين، ثلاثة، شهرا... ثم أغادر. أمّا البوسنة فكانت الفارقة؛ قضيتُ فيها جلَّ زمن الحرب تقريبا.

حين أسترجع البدايات أبتسم؛ بدأت الحرب في سراييفو، خرجتُ يومها وقلت لنفسي: لن أعود. الحروب الأهلية شرسة جدا، بلا خطوط واضحة؛ لا تعرف الحدود الفاصلة بين الطرف والآخر، من معك ومن ضدك. كانت فوضى كاملة، وكنت "أجنبيا" لا أعرف أحدا ولا أتقن اللغة. تلك التجربة، بكل التباسها وخطرها، هي التي بقيت في الذاكرة. أما «الرائحة الأولى»، فرائحتها عالقة بذاكرتي مع الصورة نفسها: بداية البوسنة.

*******************************************************************************

•كم من الوقت قضيتَ في البوسنة قبل اندلاع الحرب؟

نحو عامين. ذهبتُ إلى البوسنة أول مرة عام 1990، ثم صرتُ أتردّد عليها حتى اندلاع الحرب. كنتُ في سراييفو عند البدايات، وغادرتها بمعجزة على رحلة استثنائية إلى ألمانيا قبل فرض الحصار وإغلاق المطار مباشرة، ثم قرّرتُ العودة.

أتذكّر جيدا أيام العودة الأولى، مفاجآت لا تنتهي، وقلّة خبرة بما يجب وما لا يجب فعله. في الحرب الأهلية لا توجد خطوط واضحة؛ العدو قد يكون في البيت المقابل، والقنّاص في كل مكان ولا تدري من أي جهة تأتيك الرصاصة. مررتُ أول مرة عبر جبل «إيجمان» المطلّ على سراييفو، دخلتُ مع الناس إلى تلك المناطق، ركبتُ في رحلة العودة في شاحنات محملة بالأبقار فلم تكن هناك أماكن متاحة. كانت الأيام قاسية، ومع ذلك شعرتُ بسعادة غريبة؛ كأنني أحقّق شيئا كبيرا أو أحاول أن أفعل ما أؤمن به.

*******************************************************************************

•هل يتحوّل الخوف مع الوقت إلى جزء من تشكيل المراسل الحربي، أم يبقى حاضرا رغم عشرات المواجهات مع الموت والرصاص والبارود؟

هذا سؤال مهم. كثيرون يتصورون أن المراسل الحربي «سوبرمان» لا يخاف. هذا غير صحيح. الخوف يلازمك ويعتصر قلبك، وربما تترك آثاره أمراضا جسدية ونفسية لاحقا. كنت أغطي شهرا في البوسنة، ثم أخرج أسبوعا أو عشرة أيام لأزور عائلتي في لندن، وفي كل مرة أقول: هذه آخر مهمة، لماذا أعود؟ وما إن أصل البيت واستحم بماء ساخن وأشعر بالطمأنينة، حتى أجد نفسي بعد يوم واحد أهيئ حقائبي للعودة.

الخوف لا يغيب عند المواجهات. لكنه شيء مختلف عن الجُبن. الجُبن شيء يشلّ حركتك، أمّا الخوف فمشاعر طبيعية ـ كالجوع ـ لا تُدان عليها.

*******************************************************************************

•وأنت في الميدان، من يوجّهك أكثر: المهنية الصحفية أم الإحساس الإنساني؟ أنت صحفي، لكنك، أيضا، إنسان وسط ساحة حرب؟

دعني أقول إن الحسّ الإنساني كان البوصلة. هو الذي يمنحني الصبر؛ فأنا لا أتعامل مع المهمة بوصفها عملا مهنيا بحتا بقدر ما أستحضر كل المشاعر الإنسانية التي تدفعني لأقول مع الضحايا: هذه هي الحقيقة، هذا ما يجري هنا.

في البوسنة التقيت، للمرة الأولى مهنيا، بعشرات الصحفيين الأجانب. وجدتُ كثيرين يلتزمون الجانب المهني البارد: يتعاملون مع الضحايا مثل ضحايا الاغتصاب، والتعذيب، والجرحى، بوصفهم أرقاما: كم مات، كم اغتُصب؟ كما لو كان الأمر جداول. أما أنا فكنتُ أشعر أن الضحايا جزء مني؛ وهذا كان يضغط عليّ بشدة ويحدّد زاوية نظري واختياراتي الميدانية. المهنية ضرورية، نعم، لكنها عندي محمولة على كتف الشعور الإنساني.

*******************************************************************************

•هل كان تعاطفك نابعا أيضا من أنّ البوسنة بلدٌ مسلم؟ ولو كانت المأساة في مكان آخر لا تؤمن بقضيته، هل كان سيختلف الأمر؟

سيختلف في درجة التعاطف، نعم. أنا لا أؤمن بفكرة «الحياد» بهذا المعنى. تعاطفتُ أكثر لأنهم مسلمون، لكن خارج مناطق المسلمين أنا مع المظلوم. هذا، في اعتقادي، صلب الدين.

*******************************************************************************

•هل يمكن أن تضحي بمشهد نادر في الميدان، قد لا يتكرر ثانية، لدافع إنساني؟

إذا كان المشهد يؤذي أصحابَه، نعم. أضع ذلك في الاعتبار بشدة، وأستأذن الناس قبل التصوير والنشر. البعد الإنساني عندي مركز الثقل. ولا أراه تضحية كما قد يبدو؛ بالعكس، أكسبني هذا قيمة ورؤية وطريقة عمل، وأكسبني ثقة الناس. أحيانا يسألني بعض أفراد الفريق: «صورنا ولم ننشر؟» لكنني أضع نفسي مكان الضحايا؛ لذلك، إن مسَّ المشهد كرامتهم، أتنازل عنه وأمضي.

*******************************************************************************

•تتحدث عن الحياد، لكن للاستيضاح: هل يمكن أن تكون محايدا وأنت على يقين بعدالة طرف في الصراع الذي تغطيه؟

ذلك «الحياد» خيانة. جعلوه فضيلة وأنا أراه خيانة. نعم، كن موضوعيا: لا تنسب إلى الظالم ما لم يفعل، ولا تُحمِّل المظلوم ما لم يقع عليه. لكن بصورة قاطعة أنا مع المظلوم.

*******************************************************************************

•هل خذلتك الكلمة أو الكاميرا يوما ـ لم تستطيعا حمل فظاعة ما رأيت وإيصاله بالقدر الكافي؟

ربما أكثر ما شعرت بذلك كان في الشيشان. كانت حربا شديدة الشراسة؛ أسبوع هناك يعدل أشهرا في البوسنة. في البوسنة، رغم أن بعض الجراحات للضحايا كانت تُجرى بلا تخدير وبأدوات ناقصة، ظلّت ثمة بنية تحتية لبلدٍ كان في قلب أوروبا. أما الشيشان فشيء آخر: كانت جمهورية منهكة.

ومشهد دخولي جروزني لأول مرة لا يُنسى: بنايات عالية مدمَّرة بفعل الطيران، وكميات من الصواريخ المغروسة في الأرض لم تنفجر لقدمها. تقف في الشارع وتعدّها: واحد، اثنان، ثلاثة... مشهدٌ يصعب ترجمته. حالة الخوف عند الناس لا تنقلها الكاميرا ولا الكلمات مهما حاولت ومهما استدرجت الشهادات. وأظن أن زملاءنا اليوم في غزة يختبرون المشكلة نفسها: فظاعاتٌ لا تنعكس كاملة في التقارير التلفزيونية، مهما بذل الصحفيون من جهد.

*******************************************************************************

•في التعامل مع الصحفيين ـ مع ما يُفترض من "حصانة" مهنية ـ أيُّ حرب رأيتُها أكثر احتراما لهذه الحصانة خلال تغطياتك؟

حيث يكون طرفٌ مسلمًا، لا حصانة. يُعامِلونك كعدو. في البوسنة كان هذا عائقا مهنيا دائما: لا أستطيع دخول المناطق الصربية، وحتى المناطق الكرواتية كانت موصدة أحيانا بحسب تقلُّبات العلاقة مع المسلمين ـ تحالف اليوم وعداء غدًا ـ فأُحاصَر في المناطق المسلمة.

لا أنسى حادثة قبل تحول التوتر إلى حرب معلنة بين المسلمين والكروات: مررنا على نقطة تفتيش كرواتية، فتشوا كل شيء، ثم أدخلونا السجن طول الليل. صباحا جاء المسؤول. كان معنا إمام مسجد يتكلم العربية فصار المترجم بيني وبين "القائد". تبيَّن أنه عمل فترة في العراق، فتفاءلتُ: ربما يميل إلينا. جلس بهدوء غريب، يدخّن، وقدَّمتُ له أوراقي الصحفية كلّها. لم يُعرها أي اهتمام. قال: "لا تعني لي شيئا. أنت عندي ـ سواء كنت صحفيا أو طبيبا ـ بندقية مسلمة تتحرّك من نقطة إلى أخرى، وتلعب بمهنتك". ثم أطلق سراحنا. لكن عبارته لخصت القاعدة: هناك، لا تُرى كصحفي؛ تُرى كهويّة تُجرّد مهنتك من حصانتها.

*******************************************************************************

•في مقالك «ما لا يخبرنا به المراسل» في جريدة الشرق قلتَ: «الحكايات أقوى من الأرقام». متى اكتشفت أن الحرب لا تُفهم إلا بالحكايات؟

اكتشفت ذلك في أواخر حرب البوسنة. في البداية، على استحياء، كنتُ ما زلت أؤمن بالتقرير التلفزيوني: معلوماتٌ وأرقام سرعان ما تُنسى بعد سماعها. أمّا القصص فتبقى في الذاكرة. حتى أنا، وقد تقدّم بي العمر، إن سُئلت عن بلدٍ غطّيته، قد لا أتذكر التفاصيل المعلوماتية، لكنني أتذكّر الأحداث بوصفها حكايات: يوم كذا كنّا هناك، فعلنا كذا، التقينا فلانا.. القصة هي التي تظل.

أول عمل لي عن البوسنة مع MBC، كنتُ أجتهد في إقناع المسؤولين بأهمية القصة القصيرة ـ دقيقتان فقط ـ لكنها تُروى كحكاية. أحيانا يترددون أو يرفضون، وأحيانا يقبلون.

•لأن الأخبار، بعد فترة، تصبح مملة؟

بالضبط. الأرقام تُنزَع وتُستبدَل، فتتبخّر من الذاكرة؛ أمّا الحكايات فتبقى. لذا اتجهت إلى الفيلم الوثائقي، وتبنّيتُ السرد القصصي كاملا، وصرت مخلصا له.

*******************************************************************************

•أحيانا أكون داخل المشهد نفسه وقد اعتدتُ عليه، فلا يثير دهشتي. وأستغرب دهشتك أنت لأنه جديد عليك. أليس كذلك؟

صحيح. حتى في غزة مؤخرا، كنتُ أتحدّث مع باحثين وزملاء هناك وأسألهم: ما الذي تريدون أن تصرخوا به للعالم؟ بالنسبة إليهم صار كل شيء «حياة يومية». أمّا أنا ـ لو وصلتُ هناك الآن ـ فسأندهش من كل تفصيلة: كيف يحدث هذا.. وكيف ذاك؟ الدهشة ميزة الغريب، والاعتياد قيدُ المقيم.

*******************************************************************************

•ما القصة التي ظلّت تسكنك رغم السنين؟ ومن هي الشخصية التي لم تستطع نسيانها؟

القصص كثيرة، لكن ثَمّة قصتان لا تفارقانني.

الأولى من البوسنة: طفلة مع أمّها وأخيها الأصغر رافقناهم لزيارة قبر والدها المقاتل الشهيد. قصة بسيطة بلا «اختراع»، لكن تفاصيلها لا تُنسى. احتضنت الطفلة القبر طويلا، والأم تشدّها لنمضي، وهي تأبى. كانت أول زيارة بعد انقطاع. وضعتُ نفسي مكانهم: ماذا لو كان هذا ابني أو ابنتي؟ هذا المشهد يسكنني منذ أكثر من ثلاثين عاما.

الثانية نساء سربرنيتسا: كانت الأمم المتحدة تجمع العظام التي عُثر عليها دوريا، فيُستدعى الأهالي للتعرّف. سافرنا بالحافلة من سراييفو إلى توزلا لمدة ثلاث ساعات. لفتني صدق المشاعر: في البداية يتهامسن ويضحكن، ثم حين اقتربنا من المدينة بدأْنَ يكبّرن بتكبيرات العيد، تتبدّل الملامح وتشتدّ الأعصاب. دخلنا القاعة التي تحوي بقايا بشر، مجرد عظام موضوعة على الطاولات. يُطلب من كل أمّ أو زوجة أو أخت أن تمرّ بين العظام لعلّها تتعرّف على شيء يقودها للتعرف على هوية من تبحث عنه كأن يكون خاتما أو بقايا قميص.. إلخ. تتخيّل أمًّا تفتّش عن عظام ابنها، أو زوجة تبحث عن بقايا زوجها. مشهد يفوق الوصف. بعضهن تعرّفن، وبعضهن لم يستطعن. الغريب أنّ اللواتي لم يتعرّفن على بقايا أحبابهن كن يستقبلن "التعزية"، وهنّ بدورهن يباركن للآتي وجدن بقايا أحبابهن! أتعلم لماذا؟ لأن الأشدّ إيلاما من الفقد ألا تعرف أين الجثّة. حين تعرف، ينقضي جزء كبير من الألم.

*******************************************************************************

•كيف أثّرت فيك تلك المشاهد، على حياتك اليومية وعلى نومك، مع مرور السنين؟

وقتها لا تشعر كثيرا. الآن.. بعد هذه السنين، تظهر المشكلة. اكتشفتُ لاحقا «أزمة ما بعد الصدمة»، تراكمات خلّفت ندوبا عميقة في القلب والمشاعر، وتركت سؤالا واحدا يطاردني: لماذا؟ لماذا حدث كل ذلك؟ ما الثمن؟ لا أرى شيئا يستحق أن يتم الصراع عليه بهذا الشكل الدامي.

كنت أمزح أحيانا في البوسنة: بلد بهذه الجمال، منْ يملك هذا الجمال وينخرط في حرب؟ اصعد الجبل، دع الخضرة من حولك، ولا تُرِد من الدنيا شيئًا. ومع ذلك كان للأمر تأثيرات نفسية شديدة: حزن عميق ملازم. أضحك وأمزح، نعم، لكن شيئا ثقيلا يبقى في القلب.. ويؤرّق النوم.

*******************************************************************************

•ماذا تعلّمت عن نفسك من هذه التجارب ـ عن الموت، وعن معنى الحرية، وعن الإيمان؟ هل تبلورت لديك رؤية أعمق لهذه الثيمات: الحرب، الإبادة، الحرية؟

أظنّ نعم، وهي نعمة من نعم الله عليّ. منذ أن انغمست في عملي وضعتُ نيّة واحدة: ألا أمرّ على شيء من دون تفكر. لا أتعامل مع الأحداث كآلية ميكانيكية: «حصل كذا» ثم نمضي؛ بل أسأل: لماذا؟ أين؟ ماذا بعد؟

الحربُ وما يرافقها أعادت تشكيل مفاهيمي. كثير ممن شهدتُ معاركهم قالوا إنهم يقاتلون من أجل الحرية، والحرية عندي لا تتجزأ: قد تقاوم ظالما لتقع في قبضة ظالم آخرـ هيئة، جماعة، مؤسسة، فكرة، أو شخص. كنتُ أحاول تجنب هذا الفخ. الحرية، في يقيني، أكبر نعمة، لكنها مُكلِفة.

أما الموت، فالتجربة تعلّمك هشاشة المقام على ظهر الأرض؛ كل شيء مؤقّت. تفقد عزيزا في لحظة، أو تفقد حياتك في لحظة، فيتبدّل ترتيبُ أولوياتك كلها. حتى شؤوني الشخصية صرت أراها على مهل: لن نبقى، سنزول.

*******************************************************************************

•خلال عملك في مناطق الحرب، هل بنيت علاقات إنسانية ثم رأيت أصحابها يُقتلون وتعرّضوا لأهوال الحرب، فعشتَ فقدهم كأنك فقدت عزيزا؟ وهل شعرت بأنك جزء من الحرب؟ وهل يزورك الحنين إلى الميدان؟

بحكم الحركة اليومية والانتقال من بلد إلى آخر، نادرا ما تتكوّن علاقات طويلة، لكنك ترى، خصوصا الشباب، مَن يفقدون حياتهم بلا جواب على «لماذا؟». مشاهد الشهداء تؤلمك بشدة.

قبل فترة كنتُ في البوسنة. المصوّر التركي الذي يعمل معي في سراييفو سألني: «وأنت تعرف أنك قد تموت في أي لحظة.. كيف كنت تفعل ذلك ولديك عائلة؟» هذا سؤال أطرحه اليوم على نفسي: كيف فعلتُ ما فعلت؟ ربما لم يعد عندي الآن ذلك الجنوح، أو جنون الشباب، ثم إن قواعد الحرب تغيّرت، وكذلك قواعد التغطية.

قبل غزة كنت أقول: لا رغبة شخصية لديّ في الذهاب إلى هذه المناطق. أثناء غزة تمنّيت لو كنت هناك. أُكبر كثيرا زملاءنا الذين غطّوا ـ قُتل من نخبتهم كثيرون، والجيل الشاب قليل الخبرة عوّض بالشجاعة الفائقة ـ وأرى أن لا مقارنة بين الحروب التي غطّيتها وحرب غزة؛ فهي شيء آخر.

ومع ذلك، يبقى في داخلي شغف البحث عن الحكايات المخبّأة، البعيدة عن الكاميرا. أقول لنفسي: لو كنتُ هناك.. ربما كنتُ أجد ما ينبغي أن يُروى.

*******************************************************************************

•لو أتيح لك أن تعلم قيمة واحدة للمراسلين من الجيل الجديد ماذا ستكون؟

الصدق.. إلى أقصى حدّ ممكن. لا تنسب للظالم ما لم يفعله، ولا للمظلوم ما لم يقع عليه. أنا أؤمن بعالم الغيب.. حين تكون صادقا ومخلصا، يصل المعنى إلى الناس؛ أمّا إن قدّمت أفضل صورة ومونتاج، وكتبتَ أبلغ مقال، بلا صدق.. فلن يلامس شيئا في قلوبهم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی البوسنة فی سراییفو فی لحظة یمکن أن

إقرأ أيضاً:

صوت القبيلة من الميدان.. وقفات حاشدة في المحافظات تجدد العهد بالجهاد وتفويض السيد القائد

يمانيون|تقرير: محسن علي
شهدت محافظات يمنية عدة، شملت أمانة العاصمة ومحافظة صنعاء، الحديدة، ذمار، حجة، البيضاء، ريمة، ومأرب وعمران، وقفات جماهيرية حاشدة عقب صلاة الجمعة، تحت شعار موحد هو “وفاءً لدماء الشهداء.. التعبئة مستمرة والجهوزية عالية”, وقد عكست هذه الوقفات، التي شارك فيها الآلاف من أبناء القرى والعزل والمديريات، موقفاً شعبياً موحداً ومستمراً يشدد على الثبات على خط الجهاد والمضي في نصرة القضايا المركزية للأمة.

التأكيد على نصرة غزة والجهوزية العالية
أكد المشاركون في جميع الوقفات أن خروجهم هو “جهاداً في سبيل الله وابتغاءً لمرضاته”، وتأكيد على “العهد والوعد في استمرار نصرة غزة والأقصى وكل فلسطين”.
وشددت البيانات الصادرة عن هذه التجمعات على رفع الجاهزية لمواجهة الأعداء ومخططاتهم في الاستباحة للمنطقة والأمة.
وفي هذا السياق، أكد أبناء محافظة صنعاء أنهم “بهويتهم الإيمانية لن يحيدوا ولن يميلوا حتى النصر الموعود”، مؤكدين “الإستمرار في إعداد العدة والتعبئة بوتيرة أكبر وعزم أقوى ورفع الجاهزية”.
كما خاطبوا العدو الأمريكي والإسرائيلي وأدواته ومرتزقته بالقول: “نحن على استعداد كبير وجاهزية عالية أكبر من أي وقت مضى لمواجهة أي تصعيد في غزة وفلسطين واليمن وكل المنطقة”.
وقد أكدت وقفات الحديدة والبيضاء وحجة وذمار وريمة ومأرب على ذات المعاني، مشددة على الاستمرار في التحشيد والتعبئة والتدريب والتأهيل استعداداً لأي تصعيد.

 

تجديد التفويض والعهد للقيادة
شكل تجديد العهد والولاء للقيادة الثورية محوراً أساسياً في بيانات الوقفات. فقد جدد المشاركون العهد مع الله تعالى ولقائد المسيرة القرآنية السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي على “الثبات على خط الجهاد في سبيل الله.
وفي محافظات ذمار وريمة وحجة ومأرب، تم تجديد التفويض المطلق للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في “اتخاذ ما يراه مناسباً في تعزيز الثبات على خط الجهاد في سبيل الله ونصرة المظلومين والمستضعفين”.
كما أكدت البيانات في أمانة العاصمة والبيضاء على دعم رئيس هيئة الأركان العامة اللواء الركن يوسف إسماعيل المداني، مشيرة إلى أن القبائل اليمنية تقف “عوناً وسنداً ومدداً” للقيادة ولن تتخلف أو تتراجع.

 

السير على درب الشهداء
أكدت الوقفات على المضي “على درب الشهداء العظماء الذين بذلوا دماءهم الزكية في المعركة المقدسة ‘الفتح الموعود والجهاد المقدس'”.
وقد خصت البيانات بالذكر الشهيد القائد الجهادي الكبير الفريق الركن محمد عبدالكريم الغماري، وكل الشهداء العظماء في اليمن وفلسطين ولبنان وإيران والعراق.
وقد عاهد المشاركون على أنهم “لن يحيدوا ولن يميلوا عن نهجهم حتى يتحقق النصر الموعود.

تحذيرات للجبهة الداخلية والأعداء
تضمنت البيانات تحذيرات واضحة لكل من “تسوّل له نفسه المساس بالجبهة الداخلية خدمة للعدو الصهيوني والأمريكي”. وأكد المشاركون الوقوف إلى جانب الأجهزة الأمنية في اتخاذ ما يلزم للحفاظ عليها. كما دعت البيانات الجهات المعنية إلى “إنزال أقسى العقوبات ضد المتورطين في الخيانة والعمالة خدمة للأعداء.
كما وجهت الوقفات رسالة إلى الأشقاء في فلسطين وغزة، مجددة التأكيد على ما قاله قائد الثورة منذ اليوم الأول لمعركة “طوفان الأقصى”، وهو أنهم “لستم وحدكم، ولن تكونوا وحدكم”، وأن اليمن سيستمر في الدعم والمساندة في “هذه الجولة وكل جولات الصراع القادمة مع العدو الصهيوني حتى يتحقق الوعد الإلهي بزوال الكيان المجرم.

 

موقف من الموقف العربي
في محافظة البيضاء، أضاف المشاركون في وقفاتهم هتافات “الاستنكار للموقف العربي المخزي والإسلامي المنكسر المتهاون”، مؤكدين مباركتهم “الصمود والثبات الأسطوري للمجاهدين في قطاع غزة.

وقفات حاشدة لقبائل اليمن وفاء لدماء الشهداء Prev 1 of 16 Next

مقالات مشابهة

  • الطفلة ريتاج التي جلست بجوار الرئيس السيسي: أتمنى الاستمرار في مصر.. وإنهاء الحرب على أهلي في فلسطين
  • ”التعليم“ تعيد هيكلة إداراتها.. 5 مناطق تقود الميدان التربوي-عاجل
  • «بيقولها كلام عمره ما قالهولي».. زوجة تطلب الطلاق للضرر بعد اكتشاف خيانة زوجها الإلكترونية
  • الرئيس السيسي: كانت لدينا ثقة بانتهاء الحرب في غزة
  • هل تستحق عُمان خيانة الأمانة؟!
  • الطائرات المسيرة الأميركية تتابع الميدان في غزة
  • صوت القبيلة من الميدان.. وقفات حاشدة في المحافظات تجدد العهد بالجهاد وتفويض السيد القائد
  • منها الاهتمام بالنوم والحس الفكاهي.. نصائح لتقوية جهاز المناعة
  • عاجل | مراسل الجزيرة: غارة من مسيرة إسرائيلية على سيارة في بلدة تول جنوبي لبنان