جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-27@17:06:02 GMT

الإهمال والرقابة

تاريخ النشر: 27th, October 2025 GMT

الإهمال والرقابة

 

 

محمد البادي

في كلّ عام، يُطلّ تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة كمرآةٍ تعكس ما خفي عن العيون من أوجه الأداء في مؤسساتنا الحكومية، كاشفًا مكامن الخلل، ومواطن القصور، ومظاهر الإهمال التي تتسلّل- أحيانًا- من أبواب اللامبالاة الإدارية أو ضعف الرقابة المالية.

إنّه تقرير لا يُقرأ كوثيقةٍ سنوية فحسب، بل كصرخة وطنية تنبّه إلى أن المال العام أمانة، وأن التفريط فيه، سواء عن قصدٍ أو إهمال، هو خيانةٌ لثقة الوطن وقيادته وشعبه.

لقد بات واضحًا أن بعض حالات الاختلاس أو ضياع الممتلكات العامة لا تنشأ من عبقريةٍ في الفساد، بقدر ما تنشأ من تراخٍ في المتابعة، وغيابٍ للضمير المهني، وضعفٍ في أنظمة المساءلة، مما يجعل الخطأ يتضخم حتى يتحوّل إلى نزيفٍ في جسد الدولة.

يُعدّ جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة أحد أهمّ أعمدة النزاهة في منظومة الحكم العُماني، فهو العين الساهرة التي تراقب أداء المؤسسات، وتُقوِّم الانحرافات قبل أن تتجذّر. يقوم الجهاز بدورٍ رقابيٍّ لا يقتصر على كشف المخالفات فحسب، بل يمتدّ إلى تحليل الأسباب، وتقديم التوصيات، وبناء ثقافة الحوكمة والشفافية داخل مؤسسات الدولة.

ومن خلال تقاريره السنوية، يُعيد الجهاز التذكير الدائم بأن المال العام ليس مالًا بلا صاحب، بل هو حقٌّ مشترك لكلّ مواطنٍ عُماني، وأنّ الحفاظ عليه واجب وطني وأخلاقي وديني في آنٍ واحد.

غير أنّ ما يظهر بين سطور التقرير يبعث على القلق، إذ تتكرّر بعض الملاحظات عامًا بعد عام، في إشارةٍ إلى أن الإصلاح الإداري ما زال يواجه عقبات، وأنّ بعض الجهات لم تُحوّل ملاحظات الجهاز إلى خطط عملٍ فعّالة، مما يُتيح الفرصة لتمدد الإهمال أو تسلّل الفساد بصورٍ مختلفة.

يبدأ الفساد غالبًا من ثغرةٍ إداريةٍ صغيرة، لا من عملية اختلاسٍ ضخمة. إنّ الإهمال الإداري هو البذرة الأولى التي تنمو في تربة اللامسؤولية، حتى تُثمر فوضى في القرار، وتسيّبًا في الأداء، وتراكمًا للأخطاء التي كان يمكن تداركها منذ البداية.

فحين يتأخّر الموظف عن إنجاز معاملاته، أو تُهمل جهة ما الردّ على مخاطباتها الرسمية، أو يُغيب مبدأ الكفاءة في التعيين والترقية، فذلك كلّه ليس مجرّد خطأٍ إداري عابر، بل خللٌ يفتح الباب لاختلالٍ أكبر.

لقد كشف تقرير جهاز الرقابة في غير مرّة عن تقصيرٍ إداريٍّ جسيم، تمثّل في سوء المتابعة، أو ضعف التخطيط، أو غياب التنسيق بين الوحدات الحكومية، وهي ممارسات لا تُهدر الوقت فحسب، بل تُبدّد المال والجهد وتُضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.

إنّ الإهمال الإداري لا يحتاج إلى نية فساد ليُدمّر، بل يكفي أن يغيب الحسّ بالمسؤولية، وأن تُدار المؤسسات بعقلٍ روتينيٍّ جامدٍ لا يرى في الوظيفة سوى حضورٍ وانصراف، دون روحٍ أو ضميرٍ أو هدفٍ وطنيٍّ سامٍ.

إذا كان الإهمال الإداري هو البوابة، فإنّ الإهمال المالي هو الطريق الذي يعبر منه الفساد إلى المال العام. فحين تضعف الرقابة على المصروفات، وتُهمل مراجعة الحسابات، أو تُمرَّر العقود دون تدقيقٍ كافٍ، يبدأ المال العام بالتسرّب خلسةً من بين أيدي الأمناء إلى جيوب العابثين.

وقد أشار تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية للدولة في أكثر من مناسبة إلى مخالفاتٍ ماليةٍ مقلقة، تتنوّع بين سوء التصرف في الاعتمادات، وصرف مكافآت دون وجه حق، وغياب المستندات المحاسبية الدقيقة، وكلّها مظاهر تعكس خللًا في منظومة المتابعة والمساءلة.

إنّ المال العام ليس أرقامًا في دفاترٍ حكومية؛ بل هو عَصَب التنمية ووقود المشاريع التي ينتظرها المواطن. وإهماله أو التهاون في حمايته يعني المساس بمصالح الشعب بأسره. وما يزيد خطورة الإهمال المالي أنّه لا يُكتشف إلا بعد أن تتسع الفجوة وتتعاظم الخسائر، فيتحوّل الخطأ الصغير إلى قضيةٍ كبيرة، والملاحظة إلى ملفّ تحقيق.

ولذلك، فإنّ بناء منظومة مالية شفّافة لا يتحقق فقط بالقوانين، بل بثقافة مؤسسيةٍ تؤمن أن الأمانة ليست شعارًا يُرفع، بل سلوكًا يُمارَس، وأنّ المال العام أقدس من أن يُهدر أو يُتلاعب به.

الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بتبادل الاتهامات؛ بل بمواجهة الخلل بشجاعةٍ، ووضع الحلول بصدقٍ وإرادةٍ حقيقية. وإذا كان تقرير جهاز الرقابة الإدارية والمالية قد كشف عن مواطن القصور، فإنّ ذلك لا يعني الإدانة بقدر ما هو فرصة لإعادة البناء وتصحيح المسار.

إنّ أولى خطوات الإصلاح هي ترسيخ مبدأ المساءلة والمحاسبة بلا استثناء، بحيث لا يكون المنصبُ غطاءً، ولا تكون الوظيفةُ حصانةً، فالقانون يجب أن يُطبَّق على الجميع بعدالةٍ وشفافية. كما ينبغي تطوير أنظمة الرقابة الداخلية في كل جهةٍ حكومية، وربطها إلكترونيًا بآليات متابعة دقيقة تتيح الاكتشاف المبكر لأي تجاوزٍ مالي أو إداري.

لكن الإصلاح لا يكتمل بالأدوات التقنية وحدها؛ بل يحتاج إلى إحياء الضمير الوظيفي، وتعزيز ثقافة الانتماء للمصلحة العامة، فكل موظفٍ هو حارسٌ على أمانة الوطن في موقعه. ولا يمكن لأي جهاز رقابي أن ينجح ما لم يكن في قلب كل موظفٍ "رقيبٌ من ضميره" قبل أن يكون عليه رقيبٌ من مؤسسته.

إنّ وطننا يستحق إدارةً واعية، وموظفًا نزيهًا، ومؤسسةً تعمل بشفافيةٍ وإخلاص، لأنّ الرقابة ليست غايةً في ذاتها، بل وسيلةٌ لحماية التنمية وصيانة إنجازات النهضة العُمانية التي أرسى دعائمها القائد، وحمل مسؤوليتها أبناء هذا الوطن المخلصون.

إنّ تقارير جهاز الرقابة الإدارية والمالية ليست مجرّد أوراقٍ تُقدَّم سنويًّا، بل هي نداء ضميرٍ وطنيٍّ عميق، يدعو إلى أن نقف جميعًا أمام مسؤولياتنا بشجاعةٍ وأمانة. فالإهمال- أيًّا كان نوعه- ليس خطأً إداريًّا عابرًا، بل شرارةٌ صغيرة قد تُشعل نار الفساد إن لم تُطفَأ بالوعي والمحاسبة.

وحين نُدرك أنّ المال العام هو مالُ كلّ مواطن، وأنّ الحفاظ عليه هو حفاظٌ على مستقبل الأجيال، سنفهم أنّ الرقابة ليست عقوبةً؛ بل درعُ حمايةٍ للوطن من نزيف الهدر واللامسؤولية.

ومن هنا، فإنّ بناء منظومةٍ إداريةٍ وماليةٍ نزيهةٍ يبدأ من الفرد، ويتكامل في المؤسسة، ويترسّخ في الدولة، ليبقى عُمانُنا نموذجًا في النزاهة والعدالة وحُسن الإدارة.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

العلامة مفتاح يحث على تعزيز الدور الرقابي والمحاسبي لحماية المال العام

الثورة نت /..

ناقش القائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء العلامة محمد مفتاح، خلال زيارته اليوم للجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة مع رئيس الجهاز علي العماد، سير نشاط الجهاز ومساره الرقابي على وحدات الخدمة العامة.

وركز اللقاء على تعزيز الدور الرقابي والمحاسبي للجهاز، خاصة الرقابة المصاحبة للأنشطة الإدارية والمالية في عموم وحدات الخدمة العامة، لما تمثله من أهمية في التصدي المبكر لأيما اختلالات أو انحرافات في الأداء المالي والإداري للوحدات العامة.

وأكد القائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء، أهمية توطيد وتطوير الدور الرقابي والمحاسبي وتحقيق أثره الحيوي في مكافحة الفساد وحماية المال العام.

وأوضح أن كافة وحدات الخدمة العامة ملزمة بالتعاون التام مع الجهاز لإنجاح مهامه، معبرًا عن الشكر والتقدير للدور الذي يقوم به الجهاز في حماية المال العام.

بدوره أشار رئيس الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة العماد، إلى المهام المنجزة من قبل الجهاز خلال الفترة الماضية في إطار ممارسة دوره الرقابي وكذا التطوير الداخلي لقدرات الكادر العامل.

وأفاد بأن الجهاز سيكون عونًا للحكومة في التصدي المبكر لأي تجاوزات مالية أو ادارية.

إلى ذلك حضر القائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء خلال الزيارة جانبًا من ورشة العمل الداخلية التي يقيمها الجهاز بمشاركة قيادة ووكلاء الجهاز ومدراء العموم، والتي تركز على الرقابة المصاحبة وأهميتها في معالجة وتصحيح الاختلالات أولًا بأول.

وتحدث العلامة مفتاح، مؤكدًا على المسؤولية الدينية والوطنية والأخلاقية الواقعة على عاتق الجهاز بكافة كوادره في مسار مكافحة الفساد وترجمة التوجيهات العليا في هذا المجال.

وتطرق إلى الآثار التدميرية الكارثية التي يخلفها الفساد المالي والإداري على الدول والشعوب .. مشددًا على أهمية حضور الدور الفاعل للجهاز في الرقابة المصاحبة على الأداء المالي والإداري لوحدات الخدمة العامة.

وأوضح أن الحكومة ستكون دومًا عونًا للجهاز للاضطلاع بمهامه وواجباته الرقابية وعند مستوى المسؤولية في التعامل مع مخرجاته بما يحقق تطلعات الجميع في معالجة الاختلالات في الأداء المالي والإداري.

ولفت القائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء إلى الفساد الذي شاب أداء الدولة خلال الفترة السابقة لثورة الـ 21 من سبتمبر المجيدة وحالة العبث بالمال العام من قبل الفاسدين والمفسدين وانعكاس ذلك سلبيًا على المجتمع وإفقار المجتمع.

وبين أن حكومة التغيير والبناء شرعت منذ يومها الأول وتنفيذًا للموجهات والتوجيهات العليا في مناقشة آليات البناء والتطوير المؤسسي للدولة وتبسيط وتسهيل النظر والبت في معاملات المواطنين والمضي في مواجهة الممارسات المضرة والمسيئة للوظيفة العامة.

وتمنى العلامة مفتاح لقيادة الجهاز وكافة مسؤوليه وكوادره الوظيفية التوفيق والنجاح في مهامهم الرقابية والمساهمة الفاعلة في ترجمة تطلعات الجميع لمكافحة الفساد.

مقالات مشابهة

  • مفتاح يحث على تعزيز الدور الرقابي والمحاسبي لحماية المال العام
  • العلامة مفتاح يحث على تعزيز الدور الرقابي والمحاسبي لحماية المال العام
  • "جهاز الرقابة".. سيف على رقاب الفساد
  • نائب:الرئاسة البرلمانية ترفض استجواب سراق المال العام
  • مرايا رقابية وانعكاسات شراكة وشفافية
  • الدولة ومكافحة الفساد
  • من سرق البيض؟!
  • نجّار يُقيّد طفلته ويحرقها لتأديبها على سرقة مبلغ من المال بكفر الشيخ
  • كيف يتحول المال العام الى دعاية انتخابية؟