لبرق الحمى عهد علي وموثق.. فلسفة العهد في الشعر في صدر الإسلام وما بعده
تاريخ النشر: 30th, October 2025 GMT
في أيام ماضية حدثتني إحدى جاراتنا، وكانت غير مسلمة، عن حفظها لعهد قطعته لأبويها، وكيف كانت تسعى وتجاهد في كل خطوة من خطى الحياة ألا تخون عهدها لهما، أذكر أن إعجابي بشخصيتها ازداد حينها وأنا أفكر في حماس الصبا كيف ينتزع الآخرون المختلفون عنا إعجابنا إذا ما تمثلوا أوامر الإسلام في حياتهم، وهي في حقيقتها بدهيات أخلاقية إنسانية، جاء الإسلام ليتممها ويحث على الالتزام بها فحسب.
في الإسلام يعرف المنافق من نكصه للعهود التي قطعها على نفسه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد أخلف، وإذا خاصم فجر". ومن هنا ازدادت مكانة العهد بعد الإسلام حين ارتبط بالعقيدة، وصار عقدة وثيقة من عقد الإيمان المتينة، فقد قال تعالى في سورة الإسراء/34: ﴿وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا﴾.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"في حديقة الشاي" لبدوي خليفة.. رواية تحاكي واقعا تاريخيا مأزوماlist 2 of 2الروائي الفلسطيني صبحي فحماوي يحكى مأساة النكبة ويمزج الأسطورة بالتاريخend of listفالعهد بين الإنسان وربه لا يطلع عليه سواهما، وقد جاء في القرآن الكريم أمر صريح بالوفاء بالعهود؛ ففي سورة الأنعام/152 يقول تعالى : ﴿وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾. ويقول سبحانه في سورة النحل/91: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون﴾.
ونهى عن نقض العهد بقوله عز وجل: ﴿ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ [النحل :95]. كما حذر من عاقبة نقض العهود فقال في سورة البقرة/27: ﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الأرض أولئك هم الخاسرون﴾.
ووصف الذين ينكثون وينقضون عهودهم فقال في سورة الأنفال/55-56: ﴿إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم فى كل مرة وهم لا يتقون﴾. ووصفهم بالفاسقين في سورة الأعراف/102 فقال عز وجل: ﴿وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين﴾.
إعلانوقد مدح الله تعالى في القرآن الكريم من يحفظون عهودهم ويوفون بها فقال في سورة الرعد/20-23: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق*والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب* والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولٰئك لهم عقبى الدار *جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ۖ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب﴾.
ووعدهم الله تعالى بالفردوس الأعلى في سورة (المؤمنون) فقال: ﴿والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون *والذين هم علىٰ صلواتهم يحافظون *أولٰئك هم الوارثون* الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ﴾. وفي سورة البقرة /177 يقول سبحانه وتعالى : ﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ۗ أولٰئك الذين صدقوا ۖ وأولٰئك هم المتقون ﴾.
وفي ذلك يقول سيد قطب في الظلال: "وعهد الله مطلق يشمل كل عهد، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق. والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان". ثم يكمل فيقول: "ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر.
سواء مع الرسول أو مع الناس. ذوي قرابة أو أجانب. أفرادا أم جماعات. فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق".
كل ما سبق يؤكد حرص الإسلام على الالتزام بالعهود التي تقطع، فالإنسان يعرف بكلمته، والأخلاق كلمة، والموقف كلمة، والرجولة كلمة. ومما يدل على أهمية الوفاء بالعهد أنه جاء في الدعاء المعروف بسيد الاستغفار عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
ونقض العهد يعد في الإسلام من الكبائر وفقا للعلامة ابن حجر الهيتمي، إذ قال: "ومما يدل على تأكد العهود وأن الإخلال بالوفاء بها كبيرة الحديث المتفق عليه : "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
العهد في شعر صدر الإسلام وما بعدهبقي العهد والوفاء قيمة أخلاقية عليا، تأثر بها الشعراء في ضوء تعاليم الإسلام التي شددت على وجوب الوفاء بالعهود، والإخلاص للوعود بالإيجاب والتنفيذ. كما صار للعهود في الإسلام أبعاد دينية وأخلاقية أشد متانة من ذي قبل.
ففي صدر الإسلام نرى شاعر الرسول حسان بن ثابت يمدح الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله (صفية) وحواريه، بثباته على عهد الرسول وعهد الإسلام، مشيرا إلى التزامه بالنهج والوفاء لسنة النبي ﷺ؛ فيقول:
أقام على عهد النبي وهديه
حواريه والقول بالفعل يعدل
وفي سياق الغزل وأحاديث الهوى نستذكر قصيدة الشاعر الحجازي عمر بن أبي ربيعة مع محبوبته هند التي كانت تعد ولا تنجز، وتماطل ولا تفي، بدلال أنثوي جميل:
إعلانليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
كلما قلت متى ميعادنا
ضحكت هند وقالت بعد غد
أما عن العهد بين الأصحاب فيحدثنا الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني عن قلة الوفاء بين الأصحاب، وكيف عز الصاحب الحقيقي الوفي في زمنهم، فما لنا بهذا الزمن وقد طغت المنفعة والمصلحة على أدق العلاقات الإنسانية وأرقها وأسماها! يقول الحمداني واصفا حاله وهو يجول بطرفه بين الأصحاب عله يجد كريما أصيلا يمكن الاتكاء عليه بوصفه مثالا للوفاء والصحبة الحقيقية في زمن عز فيه الخليل، فيقول معلنا يأسه:
ومن ذا الذي يبقى على العهد إنهم
و إن كثرت دعواهم لقليل
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب
يميل مع النعماء حيث تميل
وصرنا نرى أن المتارك محسن
وأن صديقا لا يضر خليل
أكل خليل هكذا غير منصف
وكل زمان بالكرام بخيل
كيف تجلى مفهوم العهد في العصور الإسلامية المتأخرة؟في كتاب (أناشيد أبي مازن) تطالعنا قصيدة بعنوان "جدد العهد" للشاعر عبد الحكيم عابدين، صهر الداعية الإسلامي حسن البنا رحمهما الله، يتحدث فيها عن تجديد العهد في الإسلام قاصدا تجديد النية والعزم على التمسك بمبادئ الإسلام والذود عنها بتمثلها في مفاصل الحياة كلها، داعيا كل مسلم إلى تجديد العهد والربط بين القول والعمل وخدمة الإسلام بما يستطيع إليه سبيلا؛ فيقول:
جدد العهد وجنبني الكلام
إنما الإسلام دين العاملين
وانشر الحق ولا تخش الطغاة
فبصدق العزم يعلو كل دين
فتية الإسلام هيا
نتفانى في الجهاد
لنرى القرآن هديا
ساطعا في كل واد
وطني الإسلام لا أفدي سواه
وبنوه أين كانوا إخوتي
سجل الفتيان عهدا صادقا
أنهم للحق والعليا فدا
بارك اللهم هذا الموثقا
واستعدوا قد دنا يوم الندا
موقف الشعراء من نقض العهودنكث العهود مثلبة يحاسب عليها العرف المجتمعي والخلق الإنساني منذ العصر الجاهلي، وصار وقعه في الإسلام أقوى لأنه بطبيعة الحال يتوقع من المسلم الحق أن يتمثل بأوامر الله وسنته تمثلا دقيقا، ويبتعد عن كل ما يشوب المروءة ويعكر صفو الخلق القويم.
وقد أبدع الشعراء في صدر الإسلام وما بعده في تصوير قبح نكث العهود إبداعا يجعل المتلقي ينفر من هذا الفعل نفورا عظيما، فنقض العهود يجعل الإنسان يسبح في مستنقع من اللا معنى، إذ يتوقع نقض العهد، وإخلاف الوعد، والغدر في أي وقت ومن أي شخص، فتصبح الثقة أشبه بغيمة بيضاء بديعة المنظر، توهم المرء بقربها وفيئها، لكن سرعان ما تبغته باسوداد جوفها وهطلها الشديد من غير ميعاد أو نذير، فيخرج المرء من وهم الفيء إلى بلل الفجأة الذي يحمل غبار الجو وأتربته، ويترك آثارا من الطين في النفس، لا يمكن جلاؤها بغير الغيث اللطيف الوفير الذي يأتي بعد جلاء السماء ونقاء الهواء!
وفي تصوير هذا الشعور بنكث العهود وما يخلفه في نفس المرء يقول الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى:
لشتان من يدعو فيوفي بعهده
ومن هو للعهد المؤكد خالع
ويؤكد الفكرة نفسها الشاعر كعب بن مالك فيقول:
فدونك واعلم أن نقض عهودنا
أباه الملا منا الذين تبايعوا
ثم يأتي بعد ذلك الشاعر العباسي أبو العلاء المعري، المعروف بفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، مؤكدا وناصحا، أنه ينبغي على المرء أن يتجنب الوعد إن لم يجد من نفسه أهلا له، فإن في ذلك مجلبة للذم، وقدحا في الأخلاق؛ إذ يقول:
تجنب الوعد يوما أن تفوه به
فإن وعدت فلا يذممك إنجاز
واصمت فإن كلام المرء يهلكه
وإن نطقت فإفصاح وإيجاز
وإن عجزت عن الخيرات تفعلها
فلا يكن دون ترك الشر إعجاز
وقال شاعر آخر واصفا حال الناس بين وفي وغدار، وأصيل وخائن أفاك، وبين صادق مصدق ومنافق كذاب:
الناس من الهوى على أصناف
هذا نقض العهد وهذا واف
إن نقض العهد بحسب الوصف القرآني أشبه بنقض الغزل بعد إعداده وإحكامه، فقد قال تعالى في سورة النحل/ 92: ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون﴾.
فمن ينقض عهده كتلك الحمقاء الخرقاء التي تغزل ثم تنقض غزلها، وقيل في التفسير إن الوصف في الآية الكريمة يعود إلى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد، التي كانت تنقض غزلها بعد جهد ودأب، فلا يبقى بين يديها غزل تعتد به، ولا صوف ينتفع به.
وقد كانوا في الجاهلية يعقدون العهود بجانب نار يوقدونها، فيذكرون خيرها، ويدعون بالحرمان من خيرها على من نقض العهد، وحل العقد، كما جاء في قول العسكري: "وإنما كانوا يخصون النار بذلك لأن منفعتها تختص بالإنسان، لا يشاركه فيها شيء من الحيوان غيره".
وقال الزمخشري أيضا: "كانوا يوقدون نارا عند التحالف، فيدعون الله بحرمان منافعها، وإصابة مضارها على من ينقض العهد، ويخيس بالعقد، ويقولون في الحلف: الدم الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا، ما بل بحر صوفة، وما أقام رضوى بمكانه".
لم يغب في العصور اللاحقة لصدر الإسلام الحديث عن الوفاء للمحبوب، بل ظل حاضرا حضوره في الجاهلية وأكثر، فها هو الشاعر الأندلسي ابن فركون يحدثنا عن عهود هواه التي تتجدد باستمرار، فلا ينقضها ولا ينكثها، بل يزداد وفاء لها مع تقادم الليالي والأيام، مهما اشتدت آلام الهوى وعذاباته، إذ يرى نفسه فاق مجنون ليلى في وفائه وصدقه وثباته على عهد المحبوبة:
إعلانعهود غرامي لا تزال جديدة
وأربع جسمي عافيات دوارس
فمن قاسني فيما أقاس من الهوى
بقيس وليلى أخطأته المقايس
ومثله في الوفاء للمحبوبة، وصدق الود، وإنجاز الوعد، الشاعر العثماني منجك باشا، إذ يقول:
أحبتنا لئن زالت عهود
لكم فعهودنا أبدا تدوم
وإن طار الفراق بنا تركنا
قلوبا في دياركم تحوم
لكن الشاعر الأندلسي ابن حيوس كان له رأي آخر، فقد ذهب إلى أنه ما للنساء وعود، لا سيما في زواريب العشق والهوى:
أما الحسان فما لهن عهود
ولهن عنك وما ظلمن محيد
وفي العصر الأيوبي يطالعنا الشاعر المعروف بلقبه (بلبل الغرام الحاجري)، وهو حسام الدين عيسى بن سنجر بن براهم الحاجري، الشاعر الذي اشتهر أيضا برقة ألفاظه، وحسن معانيه، يعود أصله إلى بلدة حاجر في الحجاز؛ يطالعنا بحديث الشوق إلى الديار، وتجديد العهد والميثاق والوفاء للوطن الذي تتجاذبه الأشواق إليه كلما هب نسيم من قبله، فيقول:
لبرق الحمى عهد علي وموثق
إذا لاح نجديا بدمعيي أشرق
أراه بعين حين يلمع مدمع اش
تياق وقلب خافق حين يخفق
وفي حديث العهد أستذكر قصيدة للشاعر العراقي عبد الستار بكر النعيمي، كان قد كتبها لابنته التي سماها (عهد)؛ يقول فيها:
عهدا بأني سوف أفديك
بالروح بعد الله أحميك
لا زلت طفلة سبعة ركضت
في ساحتي والقلب يحييك
يا عهد، عهد صفائنا أزل
إن مت فالذكرى تسليك
لا تذكري إلا جميل أبي
ك لأنه ما يوم يبكيك
إن مت فالذكرى تسليك
لا تذكري إلا جميل أبي
ك لأنه ما يوم يبكيك
في كل فجر أذرعي انتصبت
أدعو إله الكون يحميك
الله أسأل -عهد- يا كبدي
لصلاح أمرك –عهد- يهديك
ومن بديع صدق العهد لدى الشعراء في العصر الحديث وثباتهم وحضهم عليه، والتغني بما يجلبه على صاحبه من مكارم ما كتبه الشاعر المصري وحيد حامد الدهشان:
باق على العهد لا يسلو أحبته .. وليس في شرعه غدر ولا ضجر
من قلبه فجرت أنهار عاطفة .. تسقي الأحبة عذبا ليس ينكدر
باق على العهد والإيمان رايته.. والحب دستوره يملي فيأتمر
باق على العهد روح الصدق .. تسكنه لا بالكنود ولا فظ ولا أشر
في وجه إخوانه تنساب بسمته .. قربى إلى ربه يا حظ من ظفروا
الوفاء بالعهد سمة أصيلة من سمات الشخصية المسلمة، ويعني البعد كل البعد عن الكذب والغدر والخيانة، والمسلم الحق يدعو إلى دين الله بأخلاقه التي تربى عليها من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبأفعاله وتصرفاته التي يحفظ بها شرف المسلم وصدقه وأمانته.
إن الوفاء بالعهد من أعظم الأخلاق التي تفتح قلوب الآخرين للإسلام. رزقنا الله وإياكم الوفاء والأوفياء على طول الطريق مهما تشعبت المفارق واختلطت المشاهد، وتاهت الأفكار، وصعب الثبات، وتزلزلت الأركان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات صدر الإسلام فی الإسلام على العهد عهد الله العهد فی فی سورة على عهد
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: وسَّع لنا سيدنا النبي أمرَ الحياة لأن الإسلام لكل زمانٍ ومكان وأمرنا بعدم الاختلاف
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان سيدُنا رسولُ الله ﷺ قال: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»، وقال: «إذا رأيتم خلافًا فعليكم بالسواد الأعظم، ومن شذَّ شذَّ في النار»، وقال: «لا تجتمع أمتي على ضلالة». أخذ هذا المعنى ابنُ مسعودٍ، فقال: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن).
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان النبي ﷺ وسَّع لنا أمرَ الحياة؛ لأن الإسلام لكل زمانٍ ومكان، يخاطب كلَّ البشر؛ ولذلك قال ﷺ: «من سنَّ سنّةً حسنة فله أجرها، وأجرُ من عمل بها إلى يوم الدين، ومن سنَّ سنّةً سيئة فعليه وزرُها، ووزرُ من عمل بها إلى يوم الدين». فأمرنا أن نُوسِّع على العالمين.
واشار الى ان الأزهرُ الشريف هو حصنُ أهلِ السنة والجماعة، وأهلِ المشرب الصافي، وهو الذي علَّم العالمين والناسَ أجمعين في الشرق والغرب، ودعا إلى الله تعالى تحت عنوان قوله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.
شرَّفنا ربُّنا بأن جعلنا أمةً وسطًا، ووسطَ الجبل أعلاه، ووسطَ القوم أعلاهم نسبًا وعلمًا؛ فجعلنا في أعلى الجبل نشاهد الناس أجمعين، ويرانا الناس أجمعون؛ لأن الإسلام جاء رحمةً للعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
مذهبُ الأزهر هو العلم، لأن الله سبحانه وتعالى أعلى من شأن العلم، فبدأ وحيَه بقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
وقال عز وجل: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وقال سبحانه: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾. وقال جل شأنه: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾.
وتحت هذا العنوان تعلَّم الأزهر وعلَّم، ووضع منهجًا دقيقًا للعلم يتلقّاه الطالبُ عن شيخه: عقيدةً، وشريعةً، وأخلاقًا، بعلومٍ يتخصّص فيها، وعلومٍ مساعدةٍ تُعينه على الإدراك.
افتقد بعضُ الناس هذا المنهج، ورأوا أن يتعلّموا على سريرهم في بيوتهم من الكتاب، من غير منهجٍ ولا صحبةِ شيخ، فوقفوا عند رسوم الإسلام، ولم يُدركوا مراميه ومعانيه، ووقفوا عند الظاهر ولم يُدركوا حقائق الأشياء وحقائق الأحكام، ووقفوا عند الجزئي ولم يُدركوا الكلّي، وقدَّموا الخاصَّ على العام، ومصلحتَهم على مصلحةِ الأمة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
منهجُ الأزهر بعيدٌ عن الغلو؛ لأنهم سمعوا رسولَ الله ﷺ وهو ينهى عن الغلو في الدين، فاتبعوه، أحبّوه، وذابوا ذوبانًا في حبِّ الله ورسوله وأهلِ بيته وأوليائه الصالحين. نهَوا عن الغلو في الدين واعتبروه انحرافًا عن طريق سيدِ المرسلين، كما كان العلماءُ على مرّ التاريخ.
ولكن خَلَفًا من الناس ضيّعوا الدين، والغريب أنهم يحفظون القرآن ويدّعون الدعوةَ إلى الله ورسوله! كيف هذا التلبيسُ والتدليس؟ ماذا نفعل في هؤلاء؟، ارجع إلى الكتاب والسنة؛ فإن رسولَ الله ﷺ لا يتركك وحدك، فرأيناه يقول ﷺ: «سيخرج من أمتي أقوامٌ أحداثُ الأسنان، سفهاءُ الأحلام، يقولون من كلامِ خيرِ البرية، لا يجاوز إيمانُهم تراقيهم».
ما هذا؟ يتكلمون بالحديث؟ نعم. لكن رسولَ الله ﷺ غاضبٌ عليهم؟ نعم؛ لأنهم أصحابُ فتنةٍ وغلوٍّ وتشددٍ، وإغلاقٍ للإسلام على المسلمين؛ فكانوا حجابًا بين الله وخلقه، وفتنةً للناس.
ولذلك، وعلى الرغم من أنهم يتحدّثون بالقرآن والسنة، إلا أنهم ليسوا علماء، ابحثْ: من هذا؟ من شيخه؟ ما الكتبُ التي قرأها؟ ما الإجازة التي استجازها؟ هل ذهب فتعلَّم سنينَ طوالًا؟ أم أنه العلمُ المغشوش، والمعلوماتُ الفاسدة، والأهواءُ الباطلة؟
روى ابنُ حِبَّان عن سيدِنا النبي ﷺ أنه قال: «إن أخوفَ ما أخاف عليكم رجلٌ من أمّتي قرأ القرآن، حتى إذا رُوِّيت عليه بهجتُه»؛ أي ظهرت عليه بهجةُ القرآن في وجهه وسمته، فمن قرأ القرآن امتلأ جوفُه نورًا، وبدأ هذا النورُ يحيط بسمته، فإذا رأيناه رأيناه صاحبَ سمتٍ طيّبٍ وهيئةٍ مقبولة؛ هذا فعلُ القرآن لقارئيه.
قال ﷺ: «إن أخوفَ ما أخاف عليكم رجلٌ من أمّتي قرأ القرآن، حتى إذا رُوِّيت عليه بهجتُه، مال على جارِه بسيفه، وقال: أشركت».
قالوا: يا رسول الله، أيُّهما أحقُّ بها؟ -أي بالنار والعقوبة- الرامي أم المرمي؟ قال ﷺ: «بل الرامي». رجلٌ قرأ القرآن من غير علمٍ، ومن غير فهمٍ، فتصدَّر به من غير إجازةٍ من علماء الأمة، فضلَّ طريقَه، لأنه اختلطت عليه الأوراق، ظنَّ أن كلَّ بيضاء شحمة، وأن كلَّ حمراء لحمة، وأن كلَّ سوداء فحمة، فاختلط عليه الأمر، فلم يعد يُميِّز بين التمرة والجمرة.
كلُّ مؤهلاته أنه قرأ القرآن! نعم، ينبغي علينا جميعًا أن نحفظ القرآن، وأن نقرأه ونتلوه بالليل والنهار، على سبيل التديُّن لا على سبيل علمِ الدين؛ فهناك فارقٌ بين «علم الدين» و«التديُّن».
إذا أردتَ العلم فاذهب إلى الأزهر وتعلَّم؛ فالأزهر لا يفرّق بين رجلٍ وامرأة، ولا بين أبيضَ وأسود، ولا بين مصريٍّ وغيرِ مصريّ، بل فتح أبوابَه للجميع.
فبعضُ الجهلة ظنّوا حديثًا ما على معنى معيَّن لم يفهمه هكذا العلماء، وهو حديث: «اتّخذوا قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد». فظنّوا أن المسجد هو الجامع، بينما المسجدُ هو «موضعُ السجود».
فرمَوا المسلمين بالشرك، واتهموا الأضرحةَ بالوثنية، بالرغم من أن النبيَّ ﷺ مع ضجيعيه أبي بكرٍ وعمرَ في ضريحٍ كبير! هل تريد أن تتّبع النبيَّ ﷺ؟ اتبعِ النبيَّ إذًا، ولا تقلْ ما لا تعلم حسبُنا الله ونِعْمَ الوكيل فيك وفيما اعتقدت. أَغْلِقْ على نفسِك الأبواب، هذا شأنُك، لكن سيدَنا النبيَّ ﷺ لم يفعلْ ذلك؛ فقد كان في مكة، وجلس فيها ثلاثَ عشرة سنة، ولم يقرُبْ أبدًا من أصنامِ المشركين؛ فما بالك بقبورِ أهلِ البيت الموحّدين! وما بالك بقبورِ أولياءِ الله الصالحين! وما بالك بقبورِ العلماءِ المتّقين المنتجبين عبر العصور!
هذا عمى قلبٍ، وسوءُ فهمٍ، وتشويهٌ للإسلام، ودعوةٌ إلى الغلوّ، والإسلامُ بريءٌ منه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.