في عامها الـ30.. هذا سر خلطة الجزيرة أمام محاولات إسكاتها
تاريخ النشر: 1st, November 2025 GMT
بفيض من الألم والفخر، تمضي شبكة الجزيرة نحو عامها الثلاثين، وهي مثقلة بذكريات مراسليها الشهداء، لكنها ماضية بخطى واثقة، كما لو أن كل دم أريق من مراسليها وذويهم، صار وقودا جديدا يمدها بالحياة.
وفي تقرير أعدّه ماجد عبد الهادي، تبدو الجزيرة، وهي تستقبل عقدها الثالث كمن يقف على حافة الألم لتعلن ميلادا جديدا، يجمع بين الحزن النبيل والعناد المهني.
ففي عامها التاسع والعشرين وما سبقه، واجهت الشبكة حربا غير مسبوقة على الصوت والصورة والحقيقة، قُتل مراسلوها في غزة، أُبيدت عائلات بعضهم، وسُوِّيت بيوتهم أرضا، لأنهم اختاروا أن يبقوا شهودا على الإبادة لا شركاء في الصمت.
في غزة، لم تكن العدسات تُوجَّه من خلف خطوط الأمان، بل من قلب النار، كان المراسلون هناك يصوّرون تحت وابل القذائف، وهم يعلمون أن كل بثّ قد يكون الأخير.
التغطية مستمرةبعضهم نعى نفسه قبل أن يُستشهد، فقد قالوا على الهواء مباشرة: "التغطية مستمرة عبر شاشة الجزيرة، حتى لو تم اغتيال أنس واغتيال جميع الزملاء"، ولم تكن الجملة شعارا بل وصية ممهورة بالدم، التزمت بها القناة كما لو كانت عهدا لا يُكسر.
وما بين دمعة الفقد ووهج الشهادة، حافظت الجزيرة على صورتها صوتا يخرق جدار الصمت العربي والدولي، كما فعلت دائما منذ انطلاقتها الأولى في أواخر التسعينيات، حين وُصفت بأنها الحجر الذي حرك بركة الإعلام الراكدة.
فمنذ اللحظة التي انطلقت فيها من الدوحة، كسرت احتكار المنابر الرسمية، وفتحت الفضاء لصوت جديد جريء، يواجه السلطة بالسؤال، ويمنح الشعوب حق النظر إلى نفسها في المرآة بلا تزييف، لكنها لم تنجُ من شكوك العالم العربي ولا من مكر خصومها.
في بداياتها تساءل كثيرون: كيف لقناة تنطلق من بلد خليجي صغير أن تمتلك هذا القدر من الحرية؟ كان الظن أن التجربة ستُكبح سريعا، غير أن من عملوا على تأسيسها سمعوا وعدا واضحا بأن حرية الكلمة فيها لن تقلّ عن نظيراتها في أكثر دول العالم انفتاحا.
فلسفة عملذلك الوعد تحوّل مع السنوات إلى فلسفة عمل وأسلوب حياة، وإلى ما يمكن أن يُسمّى "سر الخلطة" الذي صنع أسطورة الجزيرة، وفي ربع قرن ونيف، تحوّلت الشبكة إلى مدرسة صحفية كبرى خرّجت أجيالا متعاقبة.
إعلانجاء بعد الجيل المؤسس شبابٌ لم يكونوا قد وُلدوا عند انطلاقتها، فأصبحوا الوجوه الجديدة التي يراها الملايين اليوم على الشاشة، في أعينهم يلمع الحلم ذاته، وفي أصواتهم صدى الجيل الأول الذي تعلّم أن الصحافة موقف قبل أن تكون مهنة.
لكن المفارقة المؤلمة أن كثيرا من هؤلاء الشباب سقطوا شهداء في غزة، لأنهم تمسكوا بالدرس الأصعب: أن تقول الحقيقة ولو تحت القصف.
ورغم الجراح، لم تتوقف الجزيرة عن المضيّ قدما، لم تختر أن تحيي ذكرى الشهداء بصمت ثقيل، بل فتحت منابر جديدة في فضائها الرقمي، لتتسع لأصوات أكثر وأقلام أشدّ حرية.
وضوح وثباتمن هناك يواصل المئات من زملاء أنس الشريف، وإسماعيل الغول، وحمزة الدحدوح، وعلي الجابر، ومحمد الحوراني، وطارق أيوب، مسيرتهم، حاملين الكاميرا والميكروفون راية ضد النسيان.
وفي كل مرة حاولت فيها آلة الحرب إسكاتها، ازداد صوت الجزيرة وضوحا. وفي كل مرة أُطفئ فيها مكتب أو هُدّد مراسل، ولدت نافذة جديدة تُطلّ على الحقيقة، فشبكة بهذا التاريخ لا تنكسر، لأنها لم تُبنَ على الخوف، بل على الجرأة، ولم تُخلق لتساير، بل لتُسائل وتكشف وتواجه.
وها هي الجزيرة بعد أعوام من الصعود والمحن، تقف على أعتاب عقد جديد، بدماء شهدائها وشغف شبابها ونبض جمهورها الممتد في 4 جهات الأرض، وتمضي بخطى ثابتة في زمن يتراجع فيه الإعلام عن دوره، لتبقى شاهدة وشهيدة في آن، تدفع ثمن كلمتها غاليا، لكنها لا تساوم على معناها.
تلك هي "خلطة الجزيرة" التي لا تُكتب في وصفة سرية، بل تُسقى من عرق الميدان ووهج الحقيقة، أن تبقى الكلمة حرة، مهما كلّف الثمن.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات التقارير الإخبارية
إقرأ أيضاً:
شائعة لكنها قاتلة للتغيير.. الحِكم الخمس وراء فشل الشركات
عادة ما تفشل مشاريع التغيير داخل المؤسسات ليس لأن السوق أقوى منها، بل لأن القيادة تنجر إلى أساليب وحكم تبدو منطقية ومريحة في اللحظات الأولى، لكنها تثمر نتائج سلبية في النهاية.
وفي تحليل بمجلة "الشركات السبّاقة" (Fast Company) الأميركية المتخصصة في الأعمال والابتكار، يعرض الكاتب رون كاروتشي 5 زلاّت شائعة تسهم في فشل ما بين 70 إلى 80% من مشاريع التحول في المؤسسات والشركات.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2خدعوك فقالوا: الوظيفة عبودية العصر الحديثlist 2 of 2الهداية من الله.. فما دورنا؟ 5 خطوات عملية لتربية الأبناء بنجاحend of listاعتمد الكاتب على منهجية ثلاثية، حيث يعرض الذريعة ثم تأثيرها السلبي على الواقع، وفي النهاية يقدم وصفة عملية لعلاج الأزمة.
أولا: نجاح الأمس ليس وصفة اليوميصل قائد جديد مع توقع واضح: كرر إنجازاتك. فينقل الوصفة كما هي، متجاهلا اختلاف السوق والثقافة والمنافسين.
تعتبر التجربة السابقة مفيدة كمبادئ نتعلم منها بناء الثقة ومعالجة المقاومة وتعديل الخطط، لكنها ليست قالبا جاهزا للنجاح دائما.
فالبداية الصحيحة أن تقرأ السياق، تسأل وتستمع وتلاحظ الفروق الدقيقة، وهكذا تتحول خبراتك إلى رصيد يضيف ولا يُفرض دون وعي.
ثانيا: التغيير ليس خيارا لطيفاالإرهاق يدفع بعض القادة إلى تأجيل المواجهة، فالمواعيد تتمدد، والأداء الضعيف دائما له تبرير، ومقاومة التغيير تترك على أمل أن تزول وحدها.
وبناء على ذلك، تصل سريعا رسالة خاطئة إلى الفريق بأن الالتزام مستحب ولكنه ليس واجبا، لذلك فإن العلاج الواضح هو إشارات مبكرة على الجدية، ومتابعة علنية للتقدم والتراجع، وربط المكافآت بعواقب فعلية عند الإخلال. فالاتساق أهم من الشعارات، والعدل في المحاسبة يعيد الثقة لمن يعملون بجد.
ثالثا: التطبيع مع الخلليدخل قائد جديد عازما على الإصلاح، لكن المقاومة تشده تدريجيا إلى النمط القديم، والنتيجة هي تكريس لأوضاع معطوبة وبالتالي يتراجع النجاح.
يبدأ إصلاح هذا الخلل بفك الشفرة: لماذا يصبح اجتماع ما بعد الاجتماع أهم من الاجتماع الرسمي؟ لماذا تتحول الملاحظات المهنية إلى حساسيات شخصية؟
إعلانبعد ذلك، يتم ضبط المسار المطلوب، من خلال نقاش مهني بلا شخصنة، وتفاؤل منضبط لا وعود فضفاضة، واختبار للأفكار لا للأشخاص. فالتقدم ولو بخطوات صغيرة يمنع الاستسلام والتطبيع مع الخلل.
رابعا: التمسك بالعناصر السيئةتأجيل قرار صعب بحق مسؤول قديم يبدو وفاء أو حذرا، لكنه يكلف المؤسسة كثيرا، ويستهلك وقت الإدارة، ويحبط المتميزين، ويرسل رسالة مفادها أن المعايير قابلة للتفاوض.
لا شك أن القرار مؤلم، لكنه يحرر العمل ويثبت أن السلوك المطلوب ليس شعارا. ليس كل شخص مناسبا لرحلة التغيير، وإبقاؤه في موقع يفشل فيه ظلم له وللفريق.
خامسا: الذوبان في ظل المديرالتعلم من مدير مباشر مهم، لكن البقاء طويلا في فلك قائد واحد يصنع نسخة مكررة لا إبداعا أو نجاحا. لذلك فعند الاختبار وضغط السوق قد تكتشف المؤسسة أنها أعادت إنتاج الماضي في حين أنها تحتاج أسلوبا جديدا لمرحلة جديدة.
فالحل العملي يكون بتدوير المواهب مبكرا عبر وظائف وأقاليم مختلفة، والتجارب المتنوعة توسع الرؤية وتبني قيادات أكثر مرونة وصدقا مع نفسها.
التحول الحقيقيفي كل حالة من الحالات السابقة، يتراجع القائد من صانع للسياق إلى أسيره، لذلك عليك أن تكسر الحلقة بقرار واضح، وهو أن تكون أنت معيار التغيير وما يلزمه من سلوكيات جديدة وثقافة مغايرة، وأن تكتب قواعد عمل بسيطة ومعلنة، وأن تتحمل كلفة القرارات الصعبة مبكرا قبل أن تتضخم لاحقا.
التحول الحقيقي لا يحتاج شعارات كبيرة بقدر ما يحتاج شجاعة يومية، وقراءة صافية للسياق الجديد، ومحاسبة عادلة بلا تتردد، وضبطا لثقافة العمل قبل أن تخضع أنت لها، وقرارات صعبة في وقت مبكر، وحركة مستمرة تصنع خبرة جديدة بدل تكرار القديمة. عندها تنجح في التحرر من الزلاّت الشائعة التي غالبا ما تُعيق النجاح في التغيير.