مرآة من دم وروح.. غزة في مواجهة سقوط العالم وفناء العرب
تاريخ النشر: 4th, November 2025 GMT
تفوق الملحمة الغزية، بطولة ومأساة، أي استنتاج يمكن الخروج به عن هذا العالم، نحن، وعالمنا القريب، وعالم البشر الواسع، بيد أنّه لا مناص من ملاحظة دلالة هذه الملحمة، على الوضع الموجب للمقت الذي بلغته البشرية انحدارا، وانزياح المعنى بنحو مريع عن العرب والمسلمين، ليسقط في هاوية خلف العالم كله. فقد ظلّ العرب والمسلمون يواسون أنفسهم، أنّهم وإن تخلّفوا عن الحضارة الغربية عسكريّا وسياسيّا وتقنيّا فإنّ لديهم ما يقدّمونه للبشرية، وهو ما ينقص هذه البشرية، أي الروح التي يُجلّونها للبشرية قيما وأخلاقا، وبهذه الروح يمكنهم استعادة مكانتهم في التدافع الحضاري.
وبالرغم من أنّ مسار التردي كان شديدا في سرعته، قبل يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بما يستوجب الملاحظة وتوقع مآله الأخير، إلا أنّه استعلن حقيقته النهائية في المرآة الغزية، مرآة من دم وموت ودمار وجوع وتشريد، وبطولة فريدة، كادت أن تكون وحيدة في العالم كلّه، إذ استثنت نفسها بأهلها مما يوجب المقت، فكانت بقية الروح، والآدمية، وآخر ما تبقى في البشر من معنى، وهذا ممّا يزيد الألم ألما، أي أن تكون هذه الدماء البريئة مرآة تكشف ذلك القبح، وأن تدفع هذه البقية الشريفة الثمن كاملا من ذاتها لاستنقاذ هذه الأمّة مما تسرع إليه في إعدام نفسها.
امتلكت فلسطين من هذه الجهة، من قبل نكبتها، أي منذ الانتداب البريطاني عليها، وتمييزها بوضع مختلف عن بقية جاراتها العربيات المصطنعات على عين سايكس- بيكو؛ الوضوح الشديد في وصف الراهن البشريّ، إذ لا يمكن أن تتشكل واقعة استعمارية بالنحو الذي حصل في فلسطين، في الزمن الذي حصلت فيه؛ إلا في وضع من الانحراف البشري شديد الشذوذ، وحين ضعف عربي/ إسلامي بالغ، يصل حدّ خروج العرب والمسلمين من التاريخ، وتجرّدهم من المعنى، وتحوّلهم إلى مجرد زائد لا يزيده النفط والمال وأعداد البشر وزنا في هذا العالم، فقط فلنضع "إسرائيل" في كفة، ودول العرب والمسلمين كلها في كفها، إنّها وبالرغم من أنّها لا يمكن لها أن تقاربهم في مالهم ونفطهم وثرواتهم وأعدادهم فإنّها تثقل في ميزان الفعل والتأثير وتطيش تلك الدول كلّها بلا وزن ولا تأثير.
كان الاقتراب من فلسطين، والفعل من أجلها، الشيء الوحيد الذي يمنح هذا الجسد الكبير المترهل الأمل، في أن يتحوّل إلى شيء ذي قيمة، أن يستعيد دوره بوصفه حامل الروح للبشرية، والأمين على آدميتها، لأنّه، من جهة يفترض به وراثة الرسالة الخاتمة، وإرشاد البشرية إلى الحقّ والصواب، ومن جهة ثانية هذا الذي يمكنه أن يقدّمه فعلا للبشرية، ومن جهة ثالثة لأنّ الواقعة الاستعمارية النافرة نتوءا في قلبه لا تأتي بالشرّ والأذى لا على سكان فلسطين وحدهم، ولكنها تأتي عليه بالتخلف والذلّ والتبعية وفقدان الوزن، ومن جهة رابعة لأنّه ليس له أن ينسى الأثر الاستعماري عليه بعدما قطعه الاستعمار عن أن تكون له إرادة حرّة في اختيار مستقبله ومصيره بلا فاعل خارجي، وقد تقلب عليه هذا الاستعمار من الاحتلال المباشر إلى ما هو أكثر شرّا، إذ جعل الاستقلال دالا على إمعانه في السخرية من هذا الجسد المترهل الكبير.
وكلما ابتعد هذا الجسد المترهل الكبير عن فلسطين، كلما صار إلى لا شيء، في مفارقة صارخة، تكاد تنسف المنطق نفسه، لاجتماع الشيء وضده في حقيقة هذا الجسد الكبير، فهو كبير ولا يكاد يُرى في الوقت نفسه، ثقيل إلا أنّه خفيف بلا وزن، في حالة معبرة عن استحقاق المقت، فإنّ هذا الابتعاد الماضي في طريقه، لم يكن ماضيا صوب أيّ شيء ذي مغزى، فالدول التي أمعنت في التخلي عن فلسطين، لم تزدد بذلك قيمة سياسية، ولا نهضة اقتصادية، ولا يمكن عدّ الاقتصاد الريعي المستند إلى الثروات الطبيعية صعودا ذا قيمة، ما دام أصحابه غير قادرين على التعبير عن أنفسهم، لا خارج الشرط الأمريكي، بل الآن خارج الشرط الإسرائيلي نفسه، في افتقاد كامل للذات.
فقدُ الذات هذا يتخذ ملامح شديدة الخفة كما في المكايدات العربية البينية، حينما تدفع الحكومات لجانها الإلكترونية لمكايدة دول أخرى، ويصبح المجال الفني حقلا لاصطناع الوزن الزائف لدولة مقابل أخرى، كما في حكاية الممثل المصري محمد سلام، الذي اتخذ موقفا نبيلا منبعثا من عاطفته تجاه الغزيين المطحونين بالإبادة بحيث سلبت منه عواطفه هذه قدرته على التمثيل في مسرحية في "موسم الرياض"، الأمر الذي أجلسه في بيته سنتين، وهو موقف لا يستحق إلا الاحترام، بيد أنّ الرداءة حينما تبلغ منتهاها تقطع العجب من أن يَعدّ عربيٌّ ذلك إساءة له، ثم تردّ له دولته أخيرا الاعتبار في سياق المكايدة للدولة التي تأذت من موقفه الأخلاقيّ ذاك.
غير بعيد عن هذا استعادة التأسيس الاستعماري للوطنيات العربية الراهنة، بالطمس الكامل، أو الضمني، لما جعل للعرب قيمة في هذه المنطقة، أيّ الرسالة الخاتمة، بوصفها رسالة، رسالة ماضية في العالمين، حافظة لهم الروح الآدمية، وهكذا يجري تجاوز ما مَنح لهذه المنطقة قيمتها ومعناها ووهب لها دورها ووظيفتها، إلى ما قبل ذلك، إلى الوثنيات الغابرة، والأزمنة البائدة، وهو أمر باتت تتنافس فيه دول هذه المنطقة، لا لأجل الاتصال بالتاريخ، وإعادة فهمه واستكشافه، بل للتأكيد على أمرين: تلك الوطنيات بما هي انفصال قيمي وأخلاقيّ، بقدر ما هي انفصال سياسي، والثاني: القطيعة عمّا يمكن أن يقطع ذلك الانفصال ويعيد الجامعة الأخلاقية، والرابطة الروحية، لسكان هذه المنطقة، وبهذا يصير البعد عن فلسطين شرطا ضروريّا لأجل ذلك الانفصال، وهو أمر يتطلب أن يصير الإسلام ضدّ الإسلام، بخلق نسخ منه يعاد تكييفها لخدمة هذا الخطّ، أي خطّ نبذ الرسالة والقيم والأخلاق والرابطة الإيمانية والمسعى لاستنقاذ البشرية.
صحيح أنّ موازين القوى لم تكن خادمة لمن يفترض فيهم ملاحظة ذلك والعمل ضدّه، ألا أنّهم أيضا لم يكونوا على قدر المسؤولية، بمختلف أطيافهم وأطرافهم، فإنّ ما أنتجوه من فقه استضعاف وضرورة؛ تحوّل إلى مبادئ تأسيسية أعادت صياغة حركتهم، وهكذا صار عند بعضهم الالتحاق بهذا الخطّ غاية النجاح، بينما من عاند الواقعة الصهيونية في فلسطين، بدا أثناء المواجهة الأخيرة وكأنه غفل ردحا من الزمن عن مقتضيات المواجهة من التيقظ الدائم.
إنّ التفاهة الطافحة من مواقع التواصل الاجتماعي العربية، ورعاية أصحابها بوصفهم مؤثّرين، لم تكن فقط نتاج قوّة رأس المال العاري من أيّ قيمة سوى المال، وحراسة دول القطيعة مع الرسالة لهذه التفاهة ورعايتها، ولكنها أيضا نتاج ضعف مقاوميها، لأنّ التفاهة في جانب منها تسللت إليهم، إذ غلب عليهم التكيف والمداراة حتى صارت الفهلوة منهجا، وهو شأن الكثير من الإسلاميين، بينما اكتسحت الأنانيات والعصبويات والغرور آخرين، وهكذا تبدو آخر السرديات الكبرى في البشرية -التي ظلّت تتشبث بدورها عبر سكان هذه المنطقة- وكأنّها اليوم تذوي بعدما فشل أهلها في حملها وإنفاذها عملا في امتحان غزة.
x.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه العرب فلسطين غزة فلسطين غزة عرب مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه المنطقة هذا الجسد من جهة ا یمکن
إقرأ أيضاً:
محمد عمر: الأردن عقبة أمام مصر في كأس العرب.. ويجب استمرار حسام حسن حتى كأس العالم
أكد محمد عمر، عضو اللجنة الفنية باتحاد الكرة، أن منتخب مصر المشارك في بطولة كأس العرب يمتلك المقومات التي تؤهله لتقديم أداء قوي وتحقيق نتائج إيجابية في البطولة.
وقال عمر، في تصريحاته عبر برنامج "نمبر وان" الذي يقدمه الإعلامي محمد شبانة على قناة "CBC"، إن اختيار حلمي طولان لقيادة المنتخب جاء بعد مناقشات موسعة داخل اللجنة الفنية، مؤكدًا أنه مدرب قدير وصاحب خبرة طويلة في إدارة المباريات، وكان هو من رشح طلعت يوسف لتولي المهمة في البداية، لكن ضيق فترة التعاقد التي لا تتجاوز شهرين جعل الأمر صعبًا من الناحية العملية.
وأضاف أن الكابتن علاء نبيل اقترح أثناء الاجتماع أن يتولى حلمي طولان المهمة بنفسه، قائلًا: "طالما المدة قصيرة وفي مدربين كبار موجودين، فخلي حلمي طولان هو اللي يستلم المنتخب"، وهو ما وجد ترحيبًا من المهندس هاني أبوريدة، ليتم الاستقرار رسميًا على طولان مدربًا للمنتخب.
وأوضح عمر أن حلمي طولان وافق على قيادة المنتخب بعد بعض الضغوط، ثم قام بتشكيل جهازه المعاون بنفسه، مشيرًا إلى أنه يمتلك ميزة كبيرة في التعامل مع اللاعبين وإدارة المباريات تحت الضغط.
وأكد أن طولان حقق نتائج مميزة في الفترة الماضية، لكنه سيواجه تحديات كبيرة في كأس العرب، خاصة أمام منتخب الأردن الذي سيشارك بالفريق الأول، مشيرًا إلى أنه منتخب قوي وقد تكون له أفضلية من حيث الانسجام، إلا أن طولان يتمتع بخبرة وذكاء تكتيكي يمكنه من تجاوز هذه العقبات، وأن منتخب مصر قادر على المنافسة والتتويج باللقب.
وتحدث عمر أيضًا عن المنتخب الأول بقيادة حسام حسن، مؤكدًا أنه حقق الأهداف المطلوبة حتى الآن من خلال التأهل إلى كأس الأمم الإفريقية وكذلك تصفيات كأس العالم، مشيرًا إلى أن المعسكرات الطويلة هي التي تصنع الفارق وتُسهم في تطوير أداء المنتخب، كما حدث في تجارب سابقة ناجحة.
وأضاف أن المنتخبات الإفريقية عندما تواجه منتخب مصر تكون منهزمة نفسيًا بنسبة 50% قبل المباراة، لأن المنتخب المصري يُعد عقدة قوية للمنتخبات المنافسة.
وختم محمد عمر حديثه بالتأكيد على أن حسام حسن تطور بشكل واضح سواء من الناحية الفنية أو في التعامل النفسي مع اللاعبين، مشيرًا إلى أنه يتعامل مع كل مباراة بطريقة تناسب المنافس، وأنه يجب أن يستمر في قيادة المنتخب حتى كأس العالم بغض النظر عن نتيجة بطولة الأمم الإفريقية المقبلة.