عربي21:
2025-11-06@07:20:17 GMT

النصر والهزيمة.. التحدّي المعرفي

تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT

سارت العلوم العسكرية والاستراتيجيا في تحديدها للنصر مسارا شائكا، وتأرجحت المدارس العسكرية (لا سيّما الغربية) في تعريف النصر وتحديده. تبّنت أبرز قوى الهيمنة الدولية والتسلط نظرية القوّة المرتكزة على العناصر المادية في تحليل وتفسير واستشراف العلاقات الدولية وموضوعاتها، وفي مقدمها موضوعة الحرب التي حازت على اهتمام استثنائي (ضمنا النصر والهزيمة).

لم تُعر قوى الهيمنة هذه كثير اهتمام للنظرية المقابلة لقوى المقاومة والتحّرر، فبالنسبة لهؤلاء لا أثر ملموسا أو محتسبا ومكمما للحق والعدل والإرادة والمشروعية، ولا حتى الشرعية القانونية. الأصل من وجهة نظرهم معادلات القوّة وموازين القوى، وليس الحديث في المشروعية أو القانونية أو غيرها أكثر من وسيلة يلجأ إليها الضعيف.

لم يقتصر الأمر عند أصحاب هذه النظرة من قوى الهيمنة أن تجاهلوا نظريات جغرافيا المقاومة النقيضة لهم، بل ذهبوا لرفض أي آخر حتى ضمن حضارتهم. فتلك الرؤية التي صارت تسمى في القرن الماضي بالمدرسة الواقعية تراها أقصت عن الساحة حتّى آراء ومدارس وضعية أخرى، وجعلت حضورها مقتصرا على الجدالات الأكاديمية التخّصصية في أفضل الأحوال؛ ربما لأن هذه المدارس لديها نظرة مختلفة عن الواقعية في تعريفهم لمعنى القوّة وحدودها وعناصرها وعواملها، وكيف يتم البناء الاجتماعي والسياسي الدولي والعالمي، كالمثالية والبنائية والإنكليزية والتعّددية والبنيوية وحتّى بعض النسوية.

بالعودة لموضوعة الحرب باعتبارها أحد أبرز موضوعات العلاقات الدولية كما قدمتها الواقعية (دون أن ينسى القارئ أن الواقعية هي أيضا أيديولوجيا ونظرة مسبقة وتصور للعالم وما فيه، ترى العالم الخارجي عالم فوضى وتوّحش وأشبه بغابة).

في القرن الماضي شهدت العلوم العسكرية تطورات في استكشاف محددات النصر والهزيمة ربطا بتجارب العقود الأخيرة، آخر الآراء عند المدارس العسكرية رأى أن النصر يتحقق بمقدار القدرة على تقديم خطاب وسردية مقنعة أكثر من العدو، وقبلها تحدثت بعض المدارس بأن تحقيق الأهداف الاستراتيجية هو المحّدد وليس التكتيك، وذهبت ثالثة للحديث عن كسر إرادة العدو وإخضاعه وليس فقط الانتصار العسكري عليه، ورابعة ميزت بين الخسائر العسكرية وفقدان التوازن، فالأخير هو المهم. وهناك من يرى أن كل الحروب تحقق أهدافها بمقدار ما تزيد من نسبة الوعي العالمي للعدالة والإرادة للتحرر، فكل حرب تكون نتيجتها دفع نظرية التحرر والعدالة قدما وتبنيهما عالميا كخيار إنسانيّ تكون في جوهرها انتصارا.

أمّا بالنسبة للاقتصاد كأحد أدوات الصراعات وعدّة الحروب المستخدمة بقوة اليوم من رواد المدرسة الواقعية، فاصطدم بـ"صمود" في الخصم و"التكيف" بتحويله إلى فرصة أحيانا، ويعود ذلك إلى أنّ تعريف الرضى والسعادة والكرامة بين المجتمعات أمر متفاوت، وأيضا طبيعة ونوعية الشعوب والمجتمعات وثقافاتها، إذ إن بعضها قد ينقل الضغط إلى فرصة للاعتماد على الذات بدل الانصياع.

إنّ هذا التذبذب والافتقار في القدرة على التعريف لمعنى النصر والهزيمة ونجاعة الأدوات لا يرتبط بعجز تخصصي عسكري أو عجز عقول اقتصادية، بقدر ما هو أبعد من ذلك وأعمق، إنه عجز في إدراك نوعية التحّولات التي أصابت كل شيء من حولنا، فجعلت المفاهيم المستخدمة ماضوية وكذلك المصطلحات، فهي لا تستجيب للوضعيات الجديدة والتحول والتأرجح الذي يضرب عالمنا.

إذ ذاك، كانت الدولة هي النموذج العقلاني المؤسسي، وكان للأمن تعريفه المحدد، وكان للأمن إزاء الخارج مؤسسته وللأمن إزاء الداخل مؤسسته، وللسياسة مؤسستها وللقضاء مؤسسته، كذلك الاقتصاد وللرأي العام، وكانت الدولة هي مؤسسة المؤسسات. لقد كانت خطوط التمييز واضحة، وكان ينظر للمجتمع من منظور مجموع مجتمعات جزئية متمّيزة الأدوار والوظائف، بينما اليوم لم يعد بمقدورنا أن نفرّق بشكل واضح بين الداخلي والخارجي، ولا بين المدني والعسكري، ولا بين الحدود الجغرافية والحدود السياسية أو الثقافية، ولا بين الاستخدامات المدنية والعسكرية للتقانة، ولا بين الخصوصية التعليمية وتلك الأمنية، ولا بين وبين.. الخ، أصبح العالم أكثر تداخلا وتعقّدا وتراكبا، وابتعدت الدولة عن أن تكون صيغة بيروقراطية عقلانية نظامية كلاسيكية، ولم تعد الفواعل هي تلكم التقليدية -أي الدولة- فحسب، بل صرنا أمام مجموع متزايد ومرّكب ومتداخل ومتوالج من الفواعل. أما التحليل السياسي بالمنظومة (وحدة الدولة فالنظام الإقليمي فالنظام الدولي)، فلم يعد ملبيا، ولم يعد أمرا بسيطا تحديد الفعل السياسي ودائرته -وطنية إقليمية دولية- فتداعيات الفعل السياسي التي قد يقوم بها فرد بمفرده صارت أحيانا تتجاوز الحدود الوطنية، وقد تؤثر إقليميا وعالميا بمعزل عن نيته، فالعلاقة بين القصد والأثر أصبحت غير متناسبة أحيانا.

ولم تعد دعاوى أن الدولة أنتجت النظام الدولي أو أنّ النظام الدولي أنتجها شافية في إجاباتها، لقد ظهر أنّ العمليات الاجتماعية أعقد من ذلك بكثير، والتقسيم الذي نتخّذه هو اعتباري أكثر منه حقيقي وواقعي.

لذلك نقول إن التحولات التي تصيب عالمنا تعاني من خطورة التعاطي معها بسببية "خطية" كما تعمد المدرسة الواقعية، ففي ذلك اختزالية تعمينا عن رؤية الواقع وتفسيره بحقيقته.

في هذا العالم لا يصّح أن نرى الواقع بعيون مدرسة واحدة فقط، ولا أن يفرض علينا "المهيمن واللص" منظوره لتقييم وتفسير الأمور؛ لأنه قد يتداعى عن ذلك تقييد تفكيرنا وإدخالنا في شرنقة العجز والإحباط، بحيث نتيه عن الفرص وعن نقاط قوتنا، فالمنظورات ومناهج تفسير الواقع لها أهّم الأثر في فهمنا لذواتنا ومقدراتنا وتحديد تموقعنا والتعاطي مع المستقبل.

إنّ أحد تحدّيات عالمنا العربي ونخبه هو تبنّي منظور المدرسة الواقعية وإهمال حتى تلكم المدارس الوضعية التي تتقدّم اليوم في الغرب، ناهيك عن إهمالهم للمدرسة الدينية ومذهبها السياسي في تفسير للصراع والواقع والمستقبل، وكذلك نظرية المقاومة التي تطرحها جبهة المقاومة وفق فهم معين للدين والإنسان، فهل يا ترى هم جربوا منظورات لغير المدرسة الواقعية وفشلوا؟!

إن الهيمنة التي تصيبنا هي هيمنة ثقافية فكرية قبل أي شيء، تجرنا لقيد إلى قيد. نعم، إنّ المثالية والبنائية والانكليزية وغيرهم كلها مدارس وضعية وهيمنية، لكن يمكن أن نستفيد من زوايا منها كونها لا ترى العالم من منظور القوة المادية (عسكرية وتقنية واقتصادية) فقط، بل يعطون "المعيار والقانونية والخطاب والهوية والبناء الاجتماعي" أهمية كما القوة المادية، ويمارسون قراءة نقدية للواقعية ويستشهدون بما يكفي من المُثلات من التاريخ الحديث إلى واقعنا المعاصر لتفكيكها. بالنسبة لهذه المدارس، فإنّ التزام المعيار أو إنتاج الشرعية القانونية وإيجاد القبول هو أساس، وإلا تبقى القوة تعيش تحّدي الصراع وتبقى الطاعة تعيش تحدي القبول، أي أن تستحيل واجبا وقبولا. فأي جهة لا تستمد الشرعية من المعيار (كالقانون) تكون إكراها ولا تعرف الاستقرار الذي هو الغاية حتى للمهيمن.

يبقى هناك ما يمكن الحديث عنه حول نظرية التعقد التي هي محل اهتمام كبير في الغرب، ونظرية المقاومة التي نومن بها، وهما ما نتركهما لمقال ثان.

في الختام، لأنّ معركة مصيرية ومعقدّة وربما الأعقد في تاريخ صراعنا مع الصهيونية وحكومات الغرب، ولأنّها لم تعد معركة جماعة أو فئة بعينها بل صارت معركة جغرافيا التحّرر والمقاومة، ولأنّها لم تنته بعد ولا زالت في أوجها، وأفقها ومستقبلها مفتوح على كل احتمال، لذلك نحتاج عاجلا لنعيد النظر بأدوات التحليل ومنظوراتها، وعكسها في خطابنا العام وإعلامنا وبناء سرديتنا، فلا نكون أعداء أنفسنا فنقتلها بالإحباط وبالتفسير غير الواقعي باسم الواقعية، فنغفل عن نقاط قوّتنا ونروّج للسردية الأخرى ولمنطقها، بينما نحتاج في هذه اللحظة المصيرية وعلى ضوء ما أظهرته مجتمعاتنا المقاومة من صمود أسطوري وثبات ومن أيّدها وناصرها في العالم، نحتاج لمطالعة نقدية لما بين يدينا من مدارس الغرب ونبحث أكثر في نظريتنا لنستفيد منها وتوظفها لخدمة كرامة مجتمعاتنا وكل المجتمعات في عالم اليوم؛ التي هي تأن من هذا النموذج الهيمني غير المسبوق في خطره على الإنسانية جمعاء ومستقبلها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء النصر نظرية الحرب الدولة حرب هزيمة الدولة نصر نظرية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النصر والهزیمة ولا بین

إقرأ أيضاً:

مساعدة الآخرين تخفف التدهور المعرفي لدى كبار السن بنسبة تصل إلى 20%

أظهرت دراسة حديثة أن التفاعل الاجتماعي الهادف لا ينعكس إيجاباً على الحالة النفسية فحسب، بل يمكن أن يسهم أيضاً في حماية القدرات الذهنية مع التقدم في العمر، إذ وجد الباحثون أن تخصيص وقت منتظم لمساعدة الآخرين خارج نطاق المنزل قد يحد من تراجع الوظائف المعرفية لدى البالغين في منتصف العمر وكبار السن.

وأفاد موقع "ساينس تِك ديلي" (SciTechDaily) بأن باحثين من جامعتي تكساس في أوستن وماساتشوستس في بوسطن أجروا دراسة طويلة الأمد تابعت أكثر من 30 ألف أمريكي على مدى 20 عاماً، وتبيّن من نتائجها أن الأشخاص الذين شاركوا في أنشطة تطوعية أو قدّموا مساعدات غير رسمية لأقاربهم أو جيرانهم أو أصدقائهم، أظهروا تباطؤاً في التدهور المعرفي بنسبة تتراوح بين 15 و20 في المئة مقارنة بمن لم يشاركوا في تلك الأنشطة.

وبيّنت الدراسة أن التأثير كان أوضح لدى الأشخاص الذين قضوا ما بين ساعتين وأربع ساعات أسبوعياً في مساعدة الآخرين. ونُشرت النتائج في مجلة "العلوم الاجتماعية والطب"، بدعم من المعهد الوطني للشيخوخة ومعهد "يونيس كينيدي شرايفر" الوطني لصحة الطفل والتنمية البشرية.

وقالت ساي هوانغ هان، الأستاذة المساعدة في قسم تنمية الإنسان وعلوم الأسرة بجامعة تكساس، والتي قادت الدراسة، إن "أعمال الدعم اليومية، سواء كانت منظمة أو شخصية، يمكن أن تترك أثراً معرفياً طويل الأمد".

وبيّنت أن الأثر الإيجابي لمساعدة الآخرين يتراكم بمرور الوقت ويزداد مع الاستمرار في تقديم الدعم، لافتة إلى أن تخصيص ما بين ساعتين وأربع ساعات أسبوعياً للمساعدة كان كافياً لتحقيق فوائد معرفية مستمرة وواضحة على المدى الطويل.



ويُعد هذا البحث من أوائل الدراسات التي تناولت أشكال المساعدة الرسمية وغير الرسمية معاً، مثل توصيل الجيران إلى المواعيد الطبية، أو رعاية الأحفاد، أو المساعدة في الأعمال المنزلية أو الإدارية. وأشارت الدراسة إلى أن واحداً من كل ثلاثة أمريكيين كبار يشارك في برامج تطوع رسمية، فيما يقدم أكثر من نصفهم مساعدات غير رسمية بانتظام.

وأضافت هان أن "المساعدة غير الرسمية غالباً ما يُنظر إليها على أنها أقل فائدة صحياً بسبب غياب التقدير الاجتماعي"، لكنها أكدت أن نتائج الدراسة أظهرت أنها "تمنح فوائد معرفية مماثلة للتطوع الرسمي".

واعتمد الباحثون على بيانات طولية من الدراسة الوطنية للصحة والتقاعد، شملت عينة تمثيلية من المقيمين في الولايات المتحدة الذين تجاوزت أعمارهم 51 عاماً، بدءاً من عام 1998. وخلصت النتائج إلى أن التدهور المعرفي المرتبط بالعمر يتباطأ عندما يبدأ الأفراد بممارسة سلوكيات المساعدة بانتظام ويستمرون فيها.

وأشارت البيانات إلى أن الأشخاص الذين يجعلون المساعدة جزءاً من روتينهم اليومي يحققون مكاسب معرفية أكبر بمرور الوقت، فيما أظهرت النتائج أن التوقف الكامل عن تقديم المساعدة يرتبط بتراجع في القدرات الإدراكية. وقالت هان: "هذا يبرز أهمية إبقاء كبار السن منخرطين في أشكال من المساعدة لأطول فترة ممكنة، مع توفير الدعم اللازم لذلك".

وتؤكد الدراسة أهمية النظر إلى العمل التطوعي والمساعدة الاجتماعية كقضية صحة عامة، خصوصاً في المراحل المتقدمة من العمر، حين تبدأ الأمراض المرتبطة بالتدهور العقلي مثل الزهايمر بالظهور.



كما أشارت دراسة أخرى قادتها هان إلى أن العمل التطوعي يخفف من آثار التوتر المزمن على الالتهاب الجهازي، وهو مسار بيولوجي معروف بتأثيره على التدهور المعرفي والخرف، إذ ظهر هذا الأثر بشكل خاص لدى الأشخاص الذين يعانون من مستويات مرتفعة من الالتهاب.

وأشارت نتائج الدراستين إلى أن الانخراط في سلوكيات المساعدة قد يسهم في تحسين صحة الدماغ من خلال الحد من التوتر الجسدي وتعزيز الترابط الاجتماعي، وهو ما يترك أثراً إيجابياً على الصحة النفسية والعاطفية والقدرات الإدراكية لدى الأفراد.

ومع تزايد معدلات الشيخوخة والعزلة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة، شددت النتائج على ضرورة إتاحة فرص للمشاركة في أنشطة المساعدة حتى للأشخاص الذين بدأت لديهم علامات التراجع المعرفي. وأوضحت الباحثة هان أن "كثيراً من كبار السن، رغم معاناتهم من مشكلات صحية، يواصلون أداء أدوار مهمة في دعم من حولهم، وربما يكونون الأكثر استفادة من تشجيعهم على مواصلة هذا الدور".

مقالات مشابهة

  • أكثر من مليون مستنفر في السودان: العمق الشعبي يدعم القدرات العسكرية
  • من أصل سوري.. من هي زوجة زهران ممداني التي خطفت الأضواء؟
  • العمامة التي خانت المعنى: في محاسبة النخبة الدينية المتحالفة مع نظام الأسد
  • إتفافية تعاون دفاعي بين لبنان و هولندا لتعزيز القدرات العسكرية
  • نهيان بن مبارك: العلم رمز لقيمنا وحضارتنا التي نفاخر بها العالم أجمع
  • مساعدة الآخرين تخفف التدهور المعرفي لدى كبار السن بنسبة تصل إلى 20%
  • «أديبك 2025».. دعوة لتعزيز السياسات الواقعية وتبني الذكاء الاصطناعي وزيادة الاستثمارات
  • تعرف على عدد الأسرى والجثث التي أفرجت عنها المقاومة
  • فضل الله من أنصار: الدولة مطالبة بتحمّل مسؤولياتها في الحماية والإعمار