الكُتّاب والسلطة في بغداد العباسية.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT
الكتاب: "الكتّاب في العصر العباسي الأول: دراسة في النظم والثقافة والمجتمع"
الكاتبة: عفاف عبد الحفيظ محمد رحمه
الناشر: دار آريثيريا، ط1، الخرطوم 2021.
عدد الصفحات: 221 صفحة
ـ 1 ـ
كان لطبقة الكُتّاب في العصر العباسي الأول أهمية بالغة سياسيا وثقافيا واجتماعيا.. فقد تولوا كتابة الوثائق الرسمية والدواوين والرسائل والفرمانات ومثلوا امتداداً عملياً للسلطة وجسراً يصلها بالحياة اليومية في الآن نفسه.
تنزع الباحثة إلى الوصف التاريخي على حساب التحليل النظري الذي يبحث في الدوائر الوسائطية في نقل المعرفة وتطويرها. وتهمل المقاربة الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. وميل إلى الاطمئنان إلى النقل دون نقد الروايات. ومع ذلك ورغم هذه الهنات يمكن أن نعدّ أثرها "الكتّاب في العصر العباسي الأول: دراسة في النظم والثقافة والمجتمع" عملا جادّا ومتينا يجمع بين المنهج التاريخي الكلاسيكي واللمسة الثقافية التحليلية ويسدّ فراغًا واضحًا في دراسة الفكر الإداري الإسلامي.ولكونهم مثلوا "العقل الإداري والثقافي" للدولة جعلتهم د. عفاف عبد الحفيظ محمد رحمه موضوع دراسة قيمة من منظور حضاري شامل يجمع بين النظم الإدارية، والثقافة، والمجتمع. فاتبعت منهجًا تحليليًا تاريخيًا مقارنًا، يمزج بين السرد والتحليل، ويستند إلى المصادر الأصلية مثل الجهشيارى، الطبري، ابن خلدون، الثعالبي، والمسعودي، مؤكدة أن دراسة الدولة العباسية لا تكتمل إلا بفهم دورهم. وقسّمت أثرها إلى أربعة فصول مترابطة هي تطور الكتابة والوزارة، وصلاحيات ونكبات الوزراء، والتثاقف والترجمة والتأليف، وطبقة الكُتّاب في المجتمع العباسي.
ـ 2 ـ
في الفصل الأول من أثرها استعرضت الباحثة نشأة الكتابة والدواوين في الدولة الإسلامية حتى العصر العباسي الأول. فسلطت الضوء على تحول الكتابة من أداة إدارية بسيطة إلى صناعة فنية وسياسية متكاملة. وأبرزت أنّ اتساع الدولة وتعدد شؤونها تطلب إنشاء دواوين متخصصة، كديوان الجند والخراج والرسائل، لتنظيم المال والشؤون العسكرية والمراسلات الرسمية. وتلاحظ أن "الكتابة لم تكن مجرد تسجيل، بل فنّ متقن[كذا] يُنشئ به رجال الدولة نظمها الإدارية" (ص 65)، وهذا ما يرر تحوّل الكُتّاب إلى نواة الإدارة العباسية ومصدرًا للنفوذ الاجتماعي والسياسي. وكانوا مؤهلين لهذه المنزلة، باعتبار انتمائهم إلى الخاصّة المثقفة التي تجمع بين البلاغة والدقة، والمعرفة الشرعية والسياسية، واستعدادهم المسبق لهذا الدور. فـ"ـالكاتب الصالح يجمع بين البلاغة والفطنة، ليكون مؤهلاً للقيام بمهام الدولة" (ص 67).
وكثيرا ما كانت الكتابة مرقاة للتدرج في السلّم الاجتماعي والسياسي. فلما تتطلّب هذه الوظيفة من الدّقة والكفاءة والفطنة ارتقى المميزون منهم إلى رئاسة الديوان. ثم نشأت استجابة لحاجة الخلفاء إلى معاونين في الحكم والإدارة، فكانت امتدادًا طبيعيًا لتطور الكتابة، إذ كان الخلفاء يستعينون برجال ثقة من الكُتّاب قبل أن يُعرف منصب الوزير رسميًا وقبل أن تنقسم الوزارة إلى نوعين: وزارة التفويض التي تمنح الوزير صلاحيات واسعة، ووزارة التنفيذ التي يقتصر دور الوزير فيها على تنفيذ أوامر الخليفة. وتعرض الباحثة عفاف عبد الحفيظ محمد رحمه العلاقة بين الوزارة والخلافة في هذه المرحلة فتقول: "الوزير حلقة الوصل بين الخليفة والدواوين، بين السياسة والتنظيم، وبين السيف والقلم" (ص 70).
ويصادر هذا الفصل على أنّ الكُتّاب والوزراء معًا قد شكّلوا أساس البيروقراطية العباسية، فارتبطت الكتابة بالوزارة ارتباطًا وثيقًا، وكانت آلياتها وأدواتها، من النسخ إلى صياغة المراسلات الرسمية، مرآة لتطور الدولة ونضجها الإداري. ومن هنا يمكن القول إن مؤسسة الكتابة والوزارة أسستا قاعدة ثابتة لإدارة الدولة العباسية، وجسّدتا تفاعل الفكر السياسي مع الممارسة التنظيمية.
ـ 3 ـ
في الفصل الثاني المعنون بـ"ـصلاحيات ونكبات الوزراء" سعت الباحثة إلى تحليل سلطة الوزراء في العصر العباسي الأول. فعرضت الصلاحيات الواسعة التي مُنحت لهم في إدارة الدولة، التي غالبت ما قادتهم إلى نهايات مأساوية عرفت بــ"ـالنكبات". فأشارت إلى المكانة المحورية التي احتلها الوزراء في بنية الدولة العباسية. وتبنت أطروحة مدارها على أنّ الوزارة لم تكن مجرّد وظيفة إدارية، بل مثلت مركزَ ثقلٍ سياسي يجمع بين القلم والسيف، وبين المشورة والتنفيذ. فقد كان الوزير يتولى إدارة الدواوين والإشراف على الجباية والمراسلات. وكان ينسّق علاقات الدولة الداخلية والخارجية.
وإجمالا كان يمثّل الذراع التنفيذية الأولى للخليفة. ومع اتساع الدولة، مُنح الوزراء سلطات شبه مطلقة، فاقترب بعضهم من مرتبة الخليفة نفسه، وهذا ما جعل المنصب محفوفًا بالمخاطر السياسية وجعل الخلفاء يخشون تعاظم نفوذ وزرائهم، فيلجؤون إلى الإقصاء أو الاغتيال فيما عُرف في المصادر بـ"ـنكبات الوزراء".
من هؤلاء الوزراء المنكوبين أبو سلمة الخلال، أول وزراء الدولة العباسية. فقد أسهم في تثبيت أركان الحكم بعد قيام الدولة سنة 132هـ، غير أنّ طموحه في توسيع صلاحياته وصلات محتملة ببعض العلويين أوقعاه في خلاف مع المنصور، فانتهى مقتولًا، في أولى صور الصراع بين الوزير والخليفة. ومنهم يعقوب بن داود وزير المهدي، الذي عُرف هذا الكاتب الفارسي بثقافته واعتداله. لكن دعمه للموالي الفرس أثار الشبهات حوله، فكانت نكبته وسجنه رمزًا لتوجّس الخلفاء من كل نفوذٍ غير عربيٍّ في البلاط.
وتتخذ تجربة البرامكة موقعًا محوريًا في هذا السياق؛ فقد بلغ يحيى بن خالد البرمكي وابنه جعفر ذروة النفوذ في عهد الرشيد، فأدارا الدولة بمهارة، ووسّعا سلطان الإدارة والعلم. وتضخم نفوذهما المالي والفكري مما عجّل بنكبتهما سنة 187هـ، في لحظةٍ كشفت هشاشة العلاقة بين الخلافة ووزرائها الأقوياء. تقول عفاف عبد الحفيظ محمد رحمة إنّ "نكبة البرامكة لم تكن حادثًا طارئًا، بل نتيجة طبيعية لتنازع السلطتين السياسية والإدارية في بنية الحكم العباسي" (ص 84).
وتختم الباحثة فصلها بسيرة الفضل بن سهل وزير المأمون، الذي جمع بين وزارة السيف والقلم، فصار شريكًا فعليًا في إدارة الدولة، وأسهم في تولية علي بن موسى الرضا ولاية العهد. لكنه انتهى قتيلًا إثر مؤامرات البلاط، دلالةً على أنّ سلطة الوزير مهما اتسعت، تبقى مرهونة بحدود الثقة السياسية. وهكذا تكشف نكبات الوزراء، كما ترى الباحثة، عن طبيعة النظام العباسي الذي سعى دومًا إلى ضبط توازنٍ هشٍّ بين مركزية الخلافة وطموح رجالها الأقوياء (ص 90).
ـ 4 ـ
مثل التثاقف والترجمة والتأليف دعائم أساسية في تشكّل الوعي الحضاري العباسي، وفق الفصل الرابع من أثر " الكتّاب في العصر العباسي الأول". فلئن غلب الطابع الفارسي على بنية الإدارة العبّاسية وأساليبها منذ نشأة الدولة، فإن هذا التأثير لم يكن استلابًا ثقافيًا بقدر ما مثّل اندماجًا خلاقًا، جمع بين روح التنظيم الفارسية والعقل العربي الإسلامي. ومن منطلق هذه القناعة تشير عفاف عبد الحفيظ محمد رحمه إلى أنّ «العباسيين لم يأخذوا عن الفرس نظمهم الإدارية فحسب، بل أخذوا عنهم تقاليد الكتابة ومظاهرها الشكلية» (ص 65). وهكذا وُلدت ثقافة ديوانية جديدة أعادت صياغة مفهوم السلطة والمعرفة معًا.
برزت حركة الترجمة بوصفها الامتداد الأوسع لذلك التثاقف. فقد رعَى الخلفاء والوزراء العلماء والمترجمين لنقل علوم الفرس واليونان والهند إلى العربية ولاستيعابها والإفادة منها. فـ"ـبيت الحكمة في عهد المأمون لم يكن دار ترجمة فحسب، بل كان دار تفكير وإبداع" (ص 68). وهذا ما يفسّر الطابع الخلّاق لتلك الحركة التي تجاوزت النقل إلى إعادة إنتاج المعرفة ضمن أفق إسلامي إنساني. وقد تصدّر ابن المقفع هذا المشهد بترجمته كليلة ودمنة وتأليفه الأدب الكبير والأدب الصغير، اللذين رسّخا نوعًا جديدًا من الأدب السياسي التعليمي عُرف لاحقًا بــ"ـمرايا الأمراء" أو الآداب السلطانية.
التثاقف العباسي لم يكن مجرد انتقال للمعارف، بل كان فعلًا حضاريًا مركّبًا جمع بين الإدارة والفكر، بين الديوان والكتاب، فأسّس لنهضة عقلية جعلت من بغداد مركز العالم الإسلامي ومختبرًا للتفاعل بين الثقافات، بحيث صيغت هوية معرفية جامعة تقوم على الحوار بدل الانغلاق، وعلى الإبداع عوضا عن التبعية.ومثّل إدخال صناعة الورق إلى بغداد في منتصف القرن الثاني الهجري محور اهتمام الباحثة في هذا الفصل. فعدّته من أهمّ مظاهر النهضة الفكرية. فـ"تبدّلت صورة التأليف والقراءة بظهور الورق، فانتشرت الكتب والمكتبات، ونشأت مهنة الوراقة بما تفرّع عنها من النسخ والتصحيح والتجليد» (ص 73). فصار الكتاب وسيلة لتداول الفكر، لا حكرًا على النخبة، وتهيّأت بذلك بيئة اجتماعية تحتضن التأليف وتُثريه.
وهكذا يتضح أن التثاقف العباسي لم يكن مجرد انتقال للمعارف، بل كان فعلًا حضاريًا مركّبًا جمع بين الإدارة والفكر، بين الديوان والكتاب، فأسّس لنهضة عقلية جعلت من بغداد مركز العالم الإسلامي ومختبرًا للتفاعل بين الثقافات، بحيث صيغت هوية معرفية جامعة تقوم على الحوار بدل الانغلاق، وعلى الإبداع عوضا عن التبعية.
ـ 5 ـ
يختتم الأثر فصوله باستعراض هذا البنية الاجتماعية والثقافية لمدينة بغداد في العصر العباسي الأول، مركز العلم والسياسة والحضارة، مسلطًا الضوء على طبقة الكُتّاب التي برزت باعتبارها فئة وسطى بين الخلفاء والعامة. فقد شكّلت هذه الطبقة جسرًا بين السلطة والمجتمع، وأمكن لها ان تجمع بين العلم والوجاهة والثروة، وأن تسهم بفاعلية في تشكيل الذوق العام، ورعاية الأدب والعلم، وربط الخلفاء بالشعراء والمفكرين.
كان الكُتّاب الذين "شكلوا نواة مجتمع البيروقراطية البغدادية، متجاوزين حدود الدواوين لتأثيرهم في الذوق والسياسة" (ص 102) يعيشون في بيئة علمية غنية ومتنوعة، تجمع العرب والفرس وغيرهم من الأعراق، مما أسهم في نشوء ثقافة هجينة متطورة. وقد أسست الدواوين قاعدة هذا المجتمع البيروقراطي، فيما ظهرت عائلات تورّث المهنة مثل البرامكة وبني سهل، فغدت الكتابة في بعض البيوت حكرًا يعزز مكانتها الطبقية. وتشير الباحثة إلى أنّ "استمرار العائلات في حرفة الكتابة ساهم في ترسيخ نفوذهم الاجتماعي والسياسي" (ص 105).
تميزت حياة الكُتّاب بالرقي والترف، فكان لهم لباس خاص ومجالس أدبية راقية لتبادل العلم والشعر والرسائل. واستخدموا الرسائل الإخوانية للتواصل الثقافي والاجتماعي، فشكلت مصدرًا مهمًا لتوثيق الحياة اليومية في بغداد، ورفعت مستوى النثر الفني. كما لعب الوزراء دورًا تكامليًا في دعم الكُتّاب والأدباء، فكانت مجالسهم ملتقى للمفكرين والشعراء، وعززوا تطور الشعر السياسي والمدائحي عبر الهبات والمكافآت، وهو ما يعكس تلاقي السلطة والثقافة في قلب الدولة العباسية (ص 108).
يخلص الفصل إلى أن الكُتّاب والوزراء معًا شكّلوا جوهر النشاط الحضاري في بغداد، إذ أسهموا في صوغ الهوية الثقافية للعاصمة، وارتبطوا ببناء مجتمع متوازن يجمع بين الإدارة والفكر، وبين الوظيفة والثقافة، فصاروا مرآة لتكامل الفكر والسلطة، ورمزًا للعقل الحضاري الذي صاغ وجه بغداد في ذروة ازدهار الدولة العباسية.
ـ 6 ـ
تنزع الباحثة إلى الوصف التاريخي على حساب التحليل النظري الذي يبحث في الدوائر الوسائطية في نقل المعرفة وتطويرها. وتهمل المقاربة الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. وميل إلى الاطمئنان إلى النقل دون نقد الروايات. ومع ذلك ورغم هذه الهنات يمكن أن نعدّ أثرها "الكتّاب في العصر العباسي الأول: دراسة في النظم والثقافة والمجتمع" عملا جادّا ومتينا يجمع بين المنهج التاريخي الكلاسيكي واللمسة الثقافية التحليلية ويسدّ فراغًا واضحًا في دراسة الفكر الإداري الإسلامي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب الذاكرة السياسية تقارير كتب الكتاب السودان كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة العباسیة الباحثة إلى یجمع بین فی بغداد جمع بین لم یکن
إقرأ أيضاً:
الكتابة الاستقصائية.. حين تمتزج الصحافة بالبحث العلمي
يُثير غياب تعريف جامع للصحافة الاستقصائية جدلا واسعا حول ما يميزها عن الصحافة التقليدية، فبينما يرى باحثون أنها مجرد امتداد للصحافة العادية، يرى آخرون أنها أقرب إلى البحث العلمي، بحكم التزامها بضوابط دقيقة، واعتمادها أدوات للتحقق من المعلومات وكشف أثر الموضوع وأبعاده.
من هذا المنطلق، نشر مركز الجزيرة للدراسات دراسة إعلامية بعنوان "البحث العلمي في العمل الاستقصائي.. استلهام العُدّة المنهجية لتحصين الكتابة الاستقصائية" للكاتبة وفاء أبو شقرا، أستاذة الكتابة الإذاعية والتليفزيونية، ورئيسة مركز الأبحاث في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، أجابت من خلالها على تساؤل: إلى أي مدى يستلهم الصحفي الاستقصائي أسلوب الأبحاث العلمية لإعداد موضوعه الصحفي؟ وأي دور لهذا الأسلوب في تعزيز قواعد الصحافة الاستقصائية وخلق ما يميّزها؟
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل خسرت الحركات الإسلامية جيل زد؟list 2 of 2كيف تسهم الانتخابات النيابية في إعادة بناء الدولة السورية؟end of listيتعين التمييز بين العمل الصحفي التقليدي والعمل الصحفي الاستقصائي؛ إذ لا تخضع صحافة الاستقصاء، كالصحافة العادية، لمعيار السرعة في البث والنشر، ولا لـ"جاذبية" السبق الصحفي وحصرية تقديم الخبر والمعلومة، بل تُعتبر عملا صحفيا يقوم على جهد بشري مكثف، يطمح ويجهد لتقديم المعلومات الموثقة، والتي يصبح التأكد من حقيقتها ودقتها ومصداقيتها أهم من المعلومة نفسها.
لذا، تَبرُز أهمية صحافة الاستقصاء، ليس لكونها تكشف فقط، عن الحقائق الغائبة أو المستترة أو المحجوبة، بل صحافة ترتقي إلى مستوى الحرفة، وتعتمد على معايير الصحافة المتأنية التي يقيس فيها الصحفيون تغطيتهم بالأشهر والسنوات وليس بالأيام.
فالمعايير المعتمَدة لاختيار أي موضوع استقصائي لابد أن يسبقها تأكد من جانب الصحفي حول إمكانيته في الوصول إلى المصادر المعنية بموضوعه، وأن يكون لديه القدرة على الحصول على الأدلة التي توثق الضرر الناتج عن المشكلة التي هو بصدد معالجتها من أجل مواجهتها.
إعلانكما استخدمت الكاتبة مقابلات مع صحفيين أكاديميين وممارسين لاكتشاف تصوراتهم وخبراتهم حول العلاقة بين الاستقصاء والبحث العلمي، ورأيهم فيما يخص واقع تدريس الصحافة الاستقصائية في الجامعات والمعاهد العربية والمواد والمقررات التي تُخصِّصها لهذه الغاية.
هذا فضلا عن رأيهم في أوجه الشبه بين التحقيق الصحفي الاستقصائي والبحث العلمي، وما إذا كانت هناك مواضيع استقصائية تحتاج، أكثر من غيرها، إلى أسلوب ومنهجية البحث العلمي.
الاختلافات بين الصحافة التقليدية والاستقصائيةبطبيعة الحال، تتشابه معايير الصحافة الاستقصائية مع المعايير العامة للصحافة، لكنها تختلف عنها من حيث مقتضيات طبيعة عملها الذي يقوم على قواعد أشد تعقيدا بشأن انتقاء الموضوع ومدى أهميته بالنسبة للجمهور، وكذلك من حيث قدرة الصحفي على الإلمام بكل التفاصيل الخاصة بهذا الموضوع.
وفي حين يكتفي الصحفي الميداني بنقل الأخبار والوقائع والبيانات والتصريحات والمواقف ونشرها ضمن قوالب صحفية معينة، فإن الصحفي الاستقصائي يتأنّى، ويغوص في محيطات القضايا، ويُحلِّل جذورها، ويبتكر زاوية ورؤية لموضوعاته بهدف نبش معلومات غير مرئية، يُحرِّك من خلالها الساكن ويكشف الجديد الذي يخلق أثرا إيجابيا من شأنه تغيير حياة الناس، وقد يقود أحيانا إلى تقديم الجناة إلى المساءلة.
ويعتبر صحفيون آخرون أن الاستقصائيات هي امتدادات للتجربة الصحفية التقليدية، فالأخيرة تركز على الإجابة على الأسئلة الخمسة (ماذا؟ من؟ متى؟ أين؟ لماذا؟) ، بينما تسعى الصحافة الاستقصائية إلى الإجابة عن سؤال (كيف؟) بغاية الكشف عن الأسباب الكامنة وراء تمظهر الواقع بهذه الحالة وتغييره وإيجاد الحلول.
وقارنت الدراسة بين الصحافتين على أكثر من صعيد:
أولها طريقة البحث والتغطية:حيث تواكب الصحافة التقليدية الأحداث اليومية وتكتفي بالحد الأدنى من المعلومات التي تُنشر بسرعة، مع الاعتماد على تصريحات المصادر دون توثيق معمق، بينما الاستقصائية تنخرط في موضوعات معقدة وطويلة الأمد، تُعالج ملفا متكاملا لا مجرد حدث عابر، وتقوم على جمع وتحليل كمّ واسع من البيانات، والتحقق منها بدقة، مع استمرار البحث حتى استكمال القصة ودعمها بالأدلة، ما يجعلها أوسع وأطول وأكثر شمولية.
الفرق الثاني يوضح الفروقات في العلاقة مع المصادر:في التقليدية، يعتمد الصحفي على المصادر الرسمية والمباشرة بشكل رئيسي، وغالبا ما تكون المعلومات محدودة وموجهة، مع حجب بعض التفاصيل عن الجمهور.
أما الاستقصائية، فتسعى لكشف المعلومات الخفية والتحقق منها بدقة، وتعتمد على مصادر متنوعة، بما فيها غير الرسمية، مع التركيز على جمع الأدلة وتحليلها لضمان مصداقية ونزاهة التقرير.
أما الفرق الثالث والأخير فهو في طبيعة المنتج الصحفي:فالتقليدي يقدّم انعكاسا مباشرا للواقع ويكتفي بعرض الحقائق كما هي ضمن قوالب جاهزة كالهرم المقلوب، بلا انخراط شخصي من الصحفي ولا إصدار أحكام أو تبني مواقف، كما يعتمد على بناء درامي يضفي قوة وتأثيرا على القصة.
أما التحقيق الاستقصائي فيرفض الاكتفاء بالواقع الظاهر، ويسعى لاختراقه وكشف أبعاده الخفية من خلال تتبع الضحايا والمتسببين، وربط الحقائق وتحميل الأطراف مسؤولياتها، وصولا إلى تقديم حكم أو مقترح لتصحيح الخلل، كما أنه يتخذ أشكالا تحريرية أكثر تنوعا وسردا متسلسلا بهدف الإقناع.
أشارت الدراسة أن الصحافة الاستقصائية تتقاطع مع البحث العلمي في العديد من الجوانب المنهجية رغم اختلاف غاياتهما النهائية. فكما يُعَد البحث العلمي مشروعا شخصيا للباحث، ينطلق بدافع شغف أو رغبة في اكتشاف جديد، ينطلق الصحفي الاستقصائي غالبا من دافع ذاتي أيضا ورغبة في كشف الحقائق وإصلاح الخلل، ما جعلها تُعرف أحيانا بـ"صحافة المشروع الذاتي".
إعلانكلاهما يتعامل مع المشكلات بوصفها موضوعات صالحة للاستقصاء أو البحث، ويخضع عملهما لعملية دقيقة تشمل جمع الأدلة والمعلومات وتحليلها، والتشكيك بالمصادر والتحقق منها، مع اهتمام كبير بالتفاصيل.
كما يشترك المجالان في وضوح القضية المطروحة وقابليتها للتقييم، وفي الانطلاق من فرضيات يتم اختبارها بالأدلة قبل الدفاع عنها أو دحضها، إلى جانب الحاجة لتحديد المصطلحات والمفاهيم بدقة خلال مراحل العمل.
لكن مع هذا التشابه، هناك اختلافات جوهرية، فالصحافة الاستقصائية تفرض النزول الميداني وملاحقة المصادر المباشرة، في حين قد يكتفي البحث بالمكتبات أو الوثائق. كما أن الصحفي قد يتستّر أحيانا على أدواته ومصادره لحماية عمله، بينما يعطي الباحث أولوية كاملة لتوضيح أدواته وأساليبه لقياس المصداقية.
والغاية تختلف أيضا: إذ يسعى الاستقصاء لكشف حقائق تمس الرأي العام والسلطات، بينما ينشد البحث العلمي تعميق الفهم وتطوير المعرفة الأكاديمية.
أما على مستوى الأسلوب، فإن الصحافة الاستقصائية تقدم مادتها بلغة مكثفة وقصة مترابطة موجهة لجمهور واسع ضمن قيود النشر والزمن، بينما يستخدم البحث لغة منهجية مطولة موجهة لمجتمع أكاديمي محدود. كما يظل البحث محكوما بإطار نظري وإشكاليات واضحة، بينما قد يغيّر الصحفي فرضياته تبعا لما يكشفه التحقيق.
ويُتاح للباحث عادة وقت كافٍ للتخطيط والتجريب، فيما يواجه الصحفي ضغوطا متواصلة مرتبطة بعامل الوقت، والتشويش، أو غياب الأدلة والشهود.
وفي النهاية، يعتمد الصحفي بدرجة كبيرة على اتصالاته الشخصية ومهاراته في الحوار والاستماع والتوثيق، مع ضرورة مراعاة الأبعاد القانونية والأخلاقية.
ورغم وضوح الفروق الجوهرية بين الاستقصاء الصحفي والبحث الأكاديمي، إلا أن الحدود بينهما قد تتداخل أحيانا، خصوصا مع دخول باحثين إلى الوسط الإعلامي.
ومع أن الاستقصاء ينطلق من تقاليد كتابة التقارير الإخبارية، إلا أنه يختلف في عدة نقاط تتعلق بعمق البحث، وبالعلاقة مع المصادر حيث لا يقبل الصحفي بمعلومة غير محققة، وبالنتائج التي تسعى لإثبات أن حدثا ما وقع وكان يجب ألا يقع أو العكس.
وغالبا ما تُبنى أفكار التحقيقات على الملاحظة، الحدس، المصادر، التسريبات أو تقارير المؤسسات، بينما يحدد الصحفي أولويتها وأهميتها.
وقد أكد صحفيون وأكاديميون أن القضايا المعقدة، خصوصا بعد الربيع العربي، دفعت الاستقصاء إلى تبني أدوات منهجية أدق شبيهة بالبحث العلمي، ولا سيما في التحقيقات ذات الخطورة العالية أو تلك التي تستند إلى بيانات طبية وبيئية ومالية.
وهكذا، تظل الصحافة الاستقصائية عملا مهنيا متينا يوظف طرق بحث وتحقيق صارمة، ويركز على جودة المعلومات وعدالتها ومساءلة المسؤولين، ما يجعلها قريبة من الصحافة المتخصصة التي تتطلب تكوينا معرفيا وخلفية علمية لدى الصحفي.
وتطرقت الكاتبة وفاء أبو شقرا في الدراسة إلى الأدوات البحثية في الكتابة الاستقصائية، حيث أوضحت أن الصحفي الاستقصائي عند طرحه الفرضية، يحتاج إلى التفكير المنهجي عبر توليد عدد من الأسئلة البحثية، ومن ثم تحديد وحشد مصادر وأدوات تُتيح له الوصول إلى إجابات على هذه الأسئلة.
ولخصت هذه الأدوات في:
التوثيق: يعني السعي للحصول على الوثائق، خاصة المحجوبة أو السرية. الملاحظة: والتي تتضمن مراقبة سلوك عينة التحقيق عن بُعد وتسجيل النتائج لاستخلاص المعلومات. المقابلة: وهي حوار مع العينة للحصول على إجابات مفتوحة أو مقيدة أو مختلطة تساعد في الوصول للنتائج المطلوبة. الاستبيان: طريقة سريعة وفعالة للحصول على معلومات كمية من عينة واسعة حول سلوكهم وآرائهم. مجموعات التركيز: تجمع مجموعة صغيرة لمناقشة أسئلة محددة بشكل مراقب للحصول على ملاحظات أكثر دقة من المقابلات الفردية. الاختبارات: تُستخدم في التحقيقات العلمية لطرح أسئلة محددة على المستجوبين للوصول إلى المعلومات المطلوبة. إعلانأما المصادر فتشمل:
مصادر رئيسية مثل المشاركين الفعليين في الأحداث والمستندات الرسمية، ومصادر ثانوية تتنوع بين الشفوية والمكتوبة والمرئية والمسموعة مثل الشهود والوثائق والصور والفيديوهات. كما توجد مصادر ذات خبرة أو مصلحة مباشرة توفر معلومات دقيقة وجانبا إنسانيا للموضوع، ومصادر مجهلة تحمي هويتها لكنها تقدم معلومات سرية مهمة، بالإضافة إلى مصادر مفتوحة متاحة للعامة عبر الإعلام ومواقع التواصل والدراسات المنشورة.وخلصت الدراسة لذكر أهمية تعليم الصحافة الاستقصائية في العالم العربي، فهي تدرَّس في 79 جامعة عربية، إضافة إلى الدورات التدريبية، بهدف تزويد الصحفيين بالأدوات والمنهجيات اللازمة لممارسة الاستقصاء الصحفي بمهارة ومسؤولية، رغم التحديات المرتبطة بمسائل حساسة أو قيود ميدانية.
وأكدت على أن الصحافة الاستقصائية تتجاوز مجرد نقل الأخبار لتكشف ما يُراد إخفاؤه، معتمدة على أدوات البحث العلمي ومنهجية دقيقة في جمع المعلومات والتحقق منها. فهي تتطلب من الصحفي وضع خطة واضحة، وتحديد المصادر المؤكدة والمحتملة، واختيار منهج التحليل المناسب، مع مراعاة الجدول الزمني والميزانية.
وأن التحقيق الاستقصائي، رغم تشابهه مع البحث العلمي، يظل منتوجا صحفيا يلتزم بمقتضيات المهنة، ويتميز بالقدرة على ابتكار أساليب عمل جديدة، ما يعزز مصداقية العمل الإعلامي وجودته، ويدعم دور الصحافة في خدمة المجتمع وكشف الحقائق.