الشعر ليس كلمات تُقال فحسب؛ بل هو نبضٌ يتشكّل حين يفيض الشعور، وصوت ينطق بما يختلج في الأعماق. وكل بيت من الشعر هو مرآة تعكس ما في قلب قائله، ولذلك قيل: “الشعر ديوان العرب” لأنه سجّل مشاعرهم قبل أن يسجّل أخبارهم، وكشف مكنون أرواحهم قبل أن يصف حياتهم.
والشاعر يدرك أن اللفظة ليست مجرد صوت يُنطق، بل هي إحساس يمتد إلى أعماق الروح، ويعلم أن للكلمة ظلالاً لا تُرى وحفيفاً لا يُسمع إلا للأذن المهيّأة.
لذلك كان عدد من الشعراء، ولا سيما في الشعر الشعبي عند بعض القبائل يميلون إلى تغليف المعاني بستار من الغموض الشفيف، فيقولون شيئاً ويقصدون شيئاً آخر، ويُظهرون صورة بينما يخفون خلفها صورة أخرى. وقد عرف هذا الأسلوب في الأدب العربي باسم التورية. حيث يكون للّفظ معنى قريب ظاهر، ومعنى بعيد خفي لا يدركه إلا من استوعب التلميح. لأن المعنى الحقيقي لدى أولئك الشعراء يسكن في منطقة لا يصل إليها إلا من تعمّق في فهم الدلالات.
وقد كان هذا الأسلوب ملاذاً للشعراء عند الخوف والحذر أو الحياء أو الرغبة في نقد لا يجرح أو إعجاب لا يفضح أو تحذيرٍ، يريدون أن يصل إلى من يُقصد دون أن يفهمه كل من يسمع.
ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة “المعنى في بطن الشاعر” وهي عبارة تتردد كلما وقف المستمع حائراً أمام بيتٍ من الشعر لا يُفهم مراده بسهولة، فتُفتح الأبواب للتأويل ويأخذ كل مستمع ما يناسب ذائقته وما يدركه عقله وما توافق مع خبرته في الحياة.
وفي بعض البيئات القبلية، كان هناك ما يُسمّى الخَبو في الحديث، وهو أن يتحدّث الشخص بشيء وهو يعني غيره، حيث يرسل الكلام كأنه عابر، لكنه موجّه بدقة إلى من يعرف أنه المقصود. فلا يفهمه إلا من شارك المتحدث خلفية الموقف، أو عاش معه تفاصيل الحكاية. وهنا يصبح الكلام رموزاً متبادلة لا تنفتح إلا لمن يملك مفاتيحها.
والواقع أن هذا الغموض ليس هروباً دائماً..بل هو فنٌّ في بناء اللغة. فحين يختار الشاعر أن يُخفي المعنى فإنه يضيف إلى الشعر بعداً جديداً بعد المشاركة في الفهم. فالمتلقي هنا لا يكون مجرد مستمع سلبي، بل يدخل في حوار مع النص يحاول تحليله حتى يصل إلى المعنى المستتر.
ولعل جمال هذا الأسلوب أنه يترك مساحة للخيال، ويجعل القصيدة قابلة للحياة في أكثر من سياق وأكثر من زمن وأكثر من قراءة. فلو كان الشاعر قد قال المعنى مباشرة لما بقي أثره طويلاً، أما حين يضعه في بطن الكلام؛ فإنه يضمن للقصيدة عمراً أطول وتأويلاً أغنى وحضوراً أعمق.
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
السلطان الشاعر سليمان النبهاني.. وأسئلة بَهلا
في عمان.. المجهول من تاريخ النباهنة أكثر من المعلوم، حاولت بعض الأطروحات أنْ تجد جوابًا لهذا الغياب المحيِّر لعهد استمر مئات السنين، وما لا ينبغي إغفاله.. أنَّ النباهنة ابتدأوا قبيلةً تقطن نزوى، ثم دخلت المعترك السياسي تصاعدًا، حتى تكونت لها دولة قوية على يد اليعاربة؛ لقد كان حضورهم بمقدار تطور دولتهم. المقال.. يواجه بأسئلة الغياب أحد أهم سلاطين النباهنة؛ وهو السلطان الشاعر.
سليمان بن سليمان بن المظفر بن سليمان بن نبهان النبهاني؛ أبو علي.. ولد حوالي عام 845هـ، فربّته بَهلا؛ عاصمة أخيه وأبيه وجده. لقد كرع من معين معارف علمائها، ودرس كتب العرب القديمة ودواوين أشعارهم، فجاء شعره قويًا. ورضع لبان مجدها؛ فتربى على الفروسية وحمل السلاح. تولى الحكم عام 874هـ بعد أخيه المظفر. وهو ليس سلطانًا عاديًا، فقد كانت حياته مليئة بالأحداث السياسية والعسكرية، وكان من أهل العلم، وشاعرًا عزَّ نظيره بعمان؛ قديمها وحديثها.
دخل النبهاني حروبًا مع أخيه حسام منافسه على الحكم، إذ يقول فيه:
أتانا حسام مصلتًا لحسامه يجر خميسًا بحره متلاطم
يؤمّل أنْ يحوي عمان بجمعه ولله حكم في البرية قائم
استنجد سليمان على أخيه بالجبور حكام الأحساء، ولم يسعفوه، فأرسل إلى حاكمهم أجود بن زامل قصيدة يمدحهم فيها، ويعتب عليهم لعدم نجدته، يقول فيها:
فلِمْ تخذلوني عندَّ كل عظيمةٍ
وكفى بكم يالَ المروءةِ لازمُ
تخليتمُ عنا فطالتْ يدُّ العدىَ
علينا وثارَ المستنيمُ المخاصمُلقد نصح سليمان أخاه عن معارضته في الحكم فلم يستجب، وعندما قتله في إحدى المعارك رثاه:
أحسام أوجعني رداك ولم أكن قدمًا ليوجعني مصاب موجع
أحسام عزَّ عليَّ فقدك من أخ عفُّ الشمائل جوده ما يقلع
خاض النبهاني معارك مع الإمام عمر بن الخطاب الخروصي المُنصَّب عام 885هـ؛ أشهرها معركة حممت بسمائل عام 886هـ، انتهت بانتصار السلطان على الإمام، ثم دالت الأيام فانتصر الإمام عليه عام 887هـ، وحكم بتغريق «مصادرة» الأموال التي اُتْهِم الحكام النباهنة بأخذها من الناس ظلمًا.
بعد موت الإمام أخذ السلطان بثأره، فصادر أموال بني خروص في بَهلا، وأخرج منهم جماعة بزعامة مبارك بن يحيى، اتجهوا إلى الجبل الأخضر، وأخرى بزعامة أحمد بن عامر اتجهوا إلى إزكي، فتعقبهم السلطان إليها، ووقعت بينهم معركة أسفرت عن انسحاب عامر وجماعته إلى بوشر.
على إثر دعوة السلطان سليمان الجبور في صراعه مع أخيه حسام، جاء أجود بن زامل(ت:921هـ) إلى عمان، ليس لنجدة السلطان وإنَّما ليسيطر عليها. فتحالف معه بعض قبائل السر «الظاهرة» والجوف «الداخلية»، وهجم على نزوى سنة 893هـ، فجمع فقهاؤها الناس وردوا الهجوم، ثم توجه إلى بَهلا، وأخرج من حصنها السلطان وخرّب الحصن، وأقر الإمام الخروصي على الحكم مقابل خراج يدفعه له.
بعد موت الإمام الخروصي عام 894هـ تعاقب على الإمامة: محمد بن سليمان ابن مفرج، ثم عمر الشريف، ثم نُصّب محمد مرةً ثانية، ثم أحمد بن عمر الربخي، خلال هذه الفترة لم يُذكر للسلطان سليمان أي عمل عسكري قام به.
حتى بويع بالإمامة أبو الحسن بن عبدالسلام حوالي عام 900هـ، فدخلا في حرب، هُزِم فيها السلطان وهرب إلى هرمز، ثم طلب المساعدة من شيراز فلم يستجب له حكامها، وظل في فارس بعيدًا عن وطنه، ثم رجع إلى عمان وجمع رجالًا من بعض القبائل وزحف بهم إلى نزوى، وحاصر في حصنها الإمام أبا الحسن حتى مات في محتصره على رأس القرن العاشر الهجري.
ثم إنَّ السلطان استرد أمواله المصادرة، وبقي على هذا الحال حتى بويع محمد بن إسماعيل الحاضري سنة 906هـ بالإمامة، فقامت بينهما حروب؛ أشهرها موقعة الحقة عام 909هـ، وقف فيها بنو رواحة مع السلطان النبهاني ضد الإمام الحاضري، فانتصر الإمام وحكم بتغريق أموال بني رواحة الموالين للسلطان، بعد هذه المعركة اختفى ذكر السلطان، فيبدو أنَّه اغمد السيف في قرابه لتقدم سنه؛ حيث تجاوز الستين من عمره، ويقال إنَّه عاش حتى عام 915هـ.
للسلطان النبهاني ديوان غلب عليه الغزل والفخر والحماسة، طُبِع أول مرة عام 1965م، بعنوان «ديوان السلطان سليمان بن سليمان النبهاني»، في المطبعة العمومية بدمشق، بتحقيق وتقديم عزّ الدين أمين التنوخي(ت:1966م) عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وعلى نفقة سليمان وأحمد ابني محمد السالمي. ثم نشرته وزارة التراث القومي والثقافة عام 1985م، -ثم وزارة التراث والثقافة عام 2005م- بعنوان «ديوان النبهاني»، من طبعة التنوخي مع حذف اسمه ومقدمته، ووضْعِ مقدمةٍ لسليمان بن خلف الخروصي(ت:2018م) دون الإشارة إلى التنوخي.
قال عبدالله بن حميد السالمي(ت:1332هـ) في «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» عن شاعرية النبهاني: (له رائية تزاحم المعلقات السبع بلاغة، وتزيد عليها عذوبة ورشاقة)، مطلعها:
أللدار من أكناف قوٍ فعرعر فخبتُ النقا بطنُ الصفا فالمُشقرِ
ويقول التنوخي: (يمتاز شعر السلطان سليمان بجزالته، وجلجلة ألفاظه وتراكيبه، وقوة فخره ورقة تغزله. ويذكرنا برياضته للقوافي الصعبة وصياغته لتراكيب صاغة القريض بتنضيد ألفاظ المتقدمين من شعراء الجاهلية).
شبّب النبهاني بالنساء، فيقول في حبيبته راية:
ما بالُ راية أضحى حبلها انصَرما فلم ترقَّ ولم تحفظ لنا ذِمَما
وهو كثير الفخر بنفسه وآبائه:
نحن الملوك أبناء الملوك ومن سادوا ومن لهم في الأمر تقديم
وأولع بذكر الأطلال:
أهاج لك اكتئابًا وادِّارا
رسوم منازل أضحت قِفارا
ووصف الخيل؛ سلاح معاركه:
صقيل السراة جميل القطاة سليم الشظاة من البربر
النبهاني.. كثير المعارضة لفحول الشعر الأقدمين؛ كامرئ القيس بن حجر الكندي وعلقمة بن عبده الفحل ولبيد بن ربيعة العامري وعنترة العبسي وعمرو بن معديكرب والخنساء تماضر بنت عمرو، وأبي العلاء المعري وابن دريد.
فمن معارضته لامرئ القيس في معلقته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
يقول النبهاني:
أمن تبع أم أنت ليس بمنزل أوشم بزند أم وحي بجندل
لقد كان النبهاني أيضًا مشتغلًا بعلوم الشريعة؛ حتى قال مفتخرًا:
تناط حياة الدين والعلم والتقى وعزّ عمان كلها بحياتي
كان يستقبل وفود العلم من عمان وخارجها؛ يقول أحمد بن سعود السيابي: (وأنا أقرأ في كتب المغاربة، وجدت رسالة وجهها علماء عمان؛ إلى الفقيه رئيس العزابة في جربة ورئيس علمائها الشيخ الفقيه يونس بن تعاريت وأميرها الشيخ أبي زكريا يحيى بن سعيد بن أبي نوح السمومني.
وكان قد زار في عهد السلطان سليمان بن سليمان النبهاني عالم جربي اسمه عيسى بن أبي بكر بن محمد وهو إباضي من أهل جربة، في حدود بداية القرن العاشر الهجري، ووصل إلى السلطان، فقربه وأسكنه وأكرمه، وأخبر السلطان عن انتصار أهل جزيرة جربة على الغزاة الذين غزوا الجزيرة.
وعند عودته زوده علماء عمان برسالة جاء فيها: ونعلمكم أنَّه وصل الحاج المبارك عيسى بن أبي بكر إلى سلطان عمان -وهو السلطان الأعظم والعلامة الأكرم- أبي علي سليمان بن سليمان دام عزه وذل عدوه، إذ هو الإباضي المستقيم، ولولاه لاندرس المذهب... إذ هو عالم في أصول الدين لتعلموا ذلك).
أما أسئلة بَهلا.. فأولها: كيف تأتّى لهذا الشاعر في القرن التاسع الهجري أنْ يرتفع بشعره فيضارع المعلقات؟ والسؤال الثاني: لقد دوّن النبهاني حروبه بتفاصيلها، سواء مع أخيه حسام أم مع القبائل العمانية وغير العمانية، فلماذا غابت حروبه مع الأئمة عن شعره؟ والسؤال الثالث: لماذا تقاتل في زمانه سلاطين وأئمة بَهلا؛ ولم يوجدوا بينهم صيغة سياسية من التفاهم؟ لهذه الأسئلة أجوبة آتية.