سلطنة عمان تواكب التحوّل الأخضر في مسار التمويل العالمي
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
د. يوسف بن حمد البلوشي -
يمثل التمويل الأداة المحورية التي تربط بين الادخار والاستثمار، وتوجيه الموارد المالية نحو القطاعات ذات الأولوية الاستراتيجية، ومن خلال هذا الدور يسهم في تحفيز النشاط الاقتصادي عبر تمكين المؤسسات من توسيع قدراتها الإنتاجية وتطوير مشاريعها، سواء من خلال تمويل رأس المال العامل أو الاستثمار في المشاريع طويلة الأجل.
يتجاوز دور التمويل البعد الاقتصادي ليشمل الإسهام في تعزيز الاستقرار المالي والحد من المخاطر والأزمات المالية.
إذ يُسهم في ضمان توافر السيولة لقطاعات الاقتصاد المختلفة لمواجهة الأزمات المحتملة، كما يشكل حافزا للابتكار وريادة الأعمال من خلال تمويل المشاريع والمبادرات الاقتصادية الجديدة، ما يؤدي إلى تنويع الأنشطة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على مصادر دخل محدودة. وإلى جانب ذلك، يسهم التمويل في تحسين تدفق الموارد بين القطاعات المختلفة، وتهيئة بيئة اقتصادية مرنة تمكن من توظيف رأس المال بكفاءة أعلى. ومن ثم، فإن التمويل لا يقتصر على كونه وسيلة لدعم النشاط الاقتصادي فحسب، بل يعد عاملا محوريا لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة وتعزيز الرفاه الاجتماعي، من خلال تأسيس قاعدة مالية قوية لدعم المشاريع التنموية، وتحفيز النمو المستدام، وضمان التوزيع العادل والفعّال للموارد داخل الاقتصاد.
ويعد التمويل الأخضر أحد التوجهات الاقتصادية الحديثة التي برزت استجابة للتحديات البيئية المتزايدة، ويمثل تحولا نوعيا في دور المؤسسات المالية والدول نحو دعم نمو اقتصادي مستدام يوازن بين تحقيق العائد الاقتصادي وحماية البيئة. ويعتبر أحد المكونات المحورية في التحول نحو نماذج تنموية أكثر استدامة وشمولاً، إذ يمثل توجها اقتصاديا يهدف إلى مواءمة التمويل مع الأهداف البيئية والمناخية طويلة الأجل. ويعكس هذا المفهوم اتجاها متقدما في الفكر الاقتصادي المعاصر، يقوم على إعادة تعريف الدور التقليدي للتمويل، من كونه أداة لتحقيق العائد المالي فحسب، إلى كونه آلية استراتيجية لتعزيز الاستدامة البيئية والاجتماعية.
ويرتكز التمويل الأخضر على مبدأ توجيه رؤوس الأموال نحو الأنشطة والمشروعات التي تسهم في خفض الانبعاثات الكربونية، وتحسين كفاءة استخدام الموارد الطبيعية، وتعزيز الطاقة المتجددة، وإدارة النفايات بشكل مستدام. ومن خلال ذلك، يسعى إلى الحد من المخاطر المناخية والبيئية التي باتت تمثل تحديا مباشرا للاستقرار الاقتصادي والمالي على الصعيدين المحلي والعالمي، وقد بات التمويل الأخضر ركيزة رئيسية في تنفيذ اتفاقيات المناخ مثل اتفاق باريس 2015، وفي دعم خطط التحول نحو الاقتصاد منخفض الكربون. كما يشكل عاملا محوريا في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتنشيط الشراكات العابرة للحدود في مجالات الطاقة النظيفة والبنية التحتية المستدامة.
التمويل الأخضر في سلطنة عمان
أما على المستوى الوطني، فيمثل التمويل الأخضر أداة اقتصادية استراتيجية لتعزيز هياكل الاقتصاد نحو مسارات نمو قائمة على الكفاءة والاستدامة، وتعزيز التنويع الاقتصادي، وخلق فرص عمل نوعية في قطاعات جديدة. ويشكل التمويل الأخضر أداة استراتيجية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، من خلال توجيه الموارد المالية نحو المشاريع والمبادرات التي تقلل من الأثر البيئي وتعزز الكفاءة الطاقية، وتحافظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة. على سبيل المثال:
• الهدف 7: طاقة نظيفة وبأسعار معقولة: يدعم التمويل الأخضر مشاريع الطاقة المتجددة، كالشمسية والرياح، ويتيح تمويل التحول إلى طاقة أكثر نظافة وكفاءة.
• الهدف 9: بنية تحتية وصناعة مستدامة - يموّل استثمارات في بنية تحتية خضراء، ومصانع منخفضة الانبعاثات، ويحفز الابتكار التكنولوجي المستدام.
• الهدف 11: مدن ومجتمعات مستدامة - يساهم التمويل الأخضر في تطوير النقل العام البيئي، والمباني الصديقة للبيئة، وأنظمة إدارة النفايات المستدامة.
• الهدف 13: العمل المناخي - يدعم مشاريع التخفيف من تغير المناخ والتكيف معه، بما في ذلك تقليل انبعاثات الكربون وزيادة المخزون الطبيعي للكربون.
وبشكل عام، يمثل التمويل الأخضر حلقة وصل بين السياسات المالية والاستثمارية والاستدامة البيئية والاجتماعية، حيث يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية دون الإضرار بالبيئة، ويعزز الالتزام الوطني والدولي بأهداف التنمية المستدامة.
ويشهد تمويل المشاريع الخضراء في دول مجلس التعاون الخليجي تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، في ظل السعي المتزايد نحو التحول إلى اقتصاد مستدام يقلل الاعتماد على النفط ويعزز تنمية الموارد المتجددة. وقد أظهرت التقارير العالمية الرسمية، أن دول المجلس بدأت في تبني استراتيجيات مالية مستدامة ترتكز على دعم المشاريع البيئية والبنية التحتية الخضراء، بما يسهم في تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.
وفي السياق العماني، يشهد قطاع التمويل الأخضر تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، في ظل الجهود الرامية إلى تحقيق تحول اقتصادي مستدام يعزز التنويع الاقتصادي ويحد من الاعتماد على النفط والغاز كمصدر رئيسي للدخل الوطني.
ويُعد التمويل الأخضر أداة استراتيجية ذات أثر مزدوج، إذ يسهم في توجيه الموارد المالية نحو المشاريع الصديقة للبيئة، مثل مشاريع الطاقة المتجددة وإعادة التأهيل البيئي، كما يعزز تطوير البنية التحتية المستدامة التي تدعم الكفاءة الاقتصادية وتحسن نوعية الحياة. أيضا يسهم التمويل الأخضر في تحفيز الاستثمارات في مجالات الطاقة النظيفة والمشاريع الاجتماعية المستدامة، بما يسهم في تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة.
علاوة على ذلك، يسهم التمويل الأخضر في تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني من خلال توفير أدوات تمويل مبتكرة مثل الصكوك والسندات الخضراء وصناديق الاستثمار المستدامة، والتي تجذب المستثمرين المحليين والدوليين وتدعم المشاريع طويلة الأجل. كما يعزز هذا التوجه من الرفاه الاجتماعي عبر خلق فرص عمل جديدة، ودعم الابتكار في القطاع الخاص، وتعزيز الاستدامة المؤسسية والحوكمة البيئية والاجتماعية، ليصبح بذلك التمويل الأخضر محركًا رئيسيًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة والأولويات الاستراتيجية لـ«رؤية عُمان 2040».
وفي هذا السياق، أطلقت وزارة المالية العمانية في يناير 2024 إطار التمويل المستدام، وهو مبادرة استراتيجية تهدف إلى تأسيس بيئة مالية تدعم المشاريع المستدامة وتساهم في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في سلطنة عمان. يشمل هذا الإطار إصدار أدوات مالية متنوعة، مثل السندات الخضراء والصكوك المستدامة والقروض البيئية والاجتماعية، لتوفير التمويل اللازم للمشاريع البيئية، والطاقة المتجددة، والمبادرات الاجتماعية المستدامة. ويهدف الإطار إلى تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة الموارد المالية، وضمان توجيهها نحو المشاريع ذات التأثير الأكبر في تحقيق أهداف الاستدامة، بما يتوافق مع أفضل الممارسات والمعايير الدولية للتمويل الأخضر والمستدام. كما يسهم هذا الإطار في خلق قاعدة معلوماتية موثوقة تساعد المستثمرين على تقييم فعالية المشاريع، وتوفير أدوات قياس للأثر الاقتصادي والاجتماعي والبيئي للاستثمارات، ما يعزز من ثقة الجهات الممولة والمستفيدين.
في مارس 2024، أصدرت هيئة سوق المال العمانية تنظيمًا جديدًا يتيح إصدار السندات والصكوك المستدامة، بما في ذلك الصكوك الخضراء، ليصبح ذلك إطارًا قانونيًا وتنظيميًا داعمًا للتمويل المستدام. ويأتي هذا التنظيم بهدف تعزيز التمويل الأخضر وجذب الاستثمارات المحلية والدولية نحو المشاريع الصديقة للبيئة، والمبادرات التي تسهم في الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية.
ويسمح التنظيم الجديد للمؤسسات المالية والشركات بإصدار أدوات تمويل مبتكرة، يتم توجيه عوائدها إلى مشاريع محددة تحقق الأثر البيئي والاجتماعي المستدام، مثل مشاريع الطاقة المتجددة، وتحسين كفاءة استخدام الموارد، وإعادة التدوير، وتطوير البنية التحتية المستدامة. كما يوفر التنظيم معايير واضحة للإفصاح والشفافية، بما يعزز ثقة المستثمرين في سوق التمويل المستدام ويزيد من قدرة الجهات المصدرة على جذب التمويل بأسعار تنافسية.
كما لعب البنك المركزي العماني دورًا محوريًا في دعم وتعزيز التمويل الأخضر من خلال سياسات وإجراءات تنظيمية ورقابية متقدمة. ففي ديسمبر 2024، أصدر البنك تعميمًا إلزاميًا للبنوك والمؤسسات المالية بدمج معايير البيئة والمجتمع والحوكمة ضمن استراتيجياتها الاستثمارية وآليات إدارة المخاطر، بما يضمن أن جميع عمليات التمويل تأخذ بعين الاعتبار التأثيرات البيئية والاجتماعية للمشاريع. كما أعلن البنك المركزي عن تطوير تصنيف أخضر للتمويل يهدف إلى توحيد معايير الاستثمار المستدام، وتعزيز الشفافية في تصنيف المشاريع والمبادرات الخضراء، ما يسهل على المستثمرين والممولين اتخاذ قرارات مدروسة ويزيد من الثقة في السوق المالي العماني. ويساهم هذا التصنيف في وضع إطار معياري لتحديد المشاريع المؤهلة للتمويل الأخضر، مع التركيز على الحد من المخاطر البيئية والاجتماعية، وتشجيع الابتكار، وزيادة استدامة الاستثمارات على المدى الطويل.
إضافة إلى ذلك، قدمت الحكومة بعض الحوافز الضريبية والمالية لتشجيع الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة والمبادرات البيئية، مثل الإعفاءات الضريبية لبعض المشاريع الخضراء وتسهيلات التمويل للشركات والمستثمرين الذين يلتزمون بالمعايير البيئية والاجتماعية. حيث تهدف هذه الحوافز إلى خفض تكاليف الاستثمار في المشاريع المستدامة، وزيادة عوائد المستثمرين، وتحفيز القطاع الخاص على الانخراط بشكل أكبر في التمويل الأخضر.
وتشمل التدخلات الحكومية أيضا تمويل مشاريع استراتيجية للطاقة المتجددة والبنية التحتية الخضراء، مثل مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ومبادرات الهيدروجين الأخضر. كما توفر الحكومة ضمانات أو مشاركة في التمويل مع القطاع الخاص لتقليل المخاطر المرتبطة بالمشاريع طويلة الأجل، مما يعزز من جدوى الاستثمار ويحفز البنوك والمؤسسات المالية على التمويل.
من المتوقع أن تسهم هذه الإجراءات في دفع عجلة التحول نحو اقتصاد أخضر ومستدام في الاقتصاد العماني، من خلال ترسيخ أسس التمويل الأخضر والمستدام وتهيئة بيئة قانونية ومؤسسية داعمة للاستثمارات البيئية، والطاقة المتجددة، والمبادرات الاجتماعية. ويعزز ذلك قدرة الاقتصاد العماني على مواجهة التحديات المستقبلية وتحقيق أهداف «رؤية عمان 2040».
لتعظيم أثر التمويل المستدام، توصي التقارير الدولية بتطبيق مجموعة من السياسات والإجراءات الاستراتيجية، تشمل:
• تطوير أطر قانونية واضحة لدعم إصدار السندات والصكوك الخضراء والقروض المستدامة، واعتماد معايير محلية موحدة للاستثمارات المستدامة تتوافق مع المعايير الدولية.
• تعزيز البنية التحتية المالية وتطوير أدوات مبتكرة مثل الصكوك الخضراء والسندات البيئية وصناديق الاستثمار المستدامة لتوسيع قاعدة التمويل وجذب المستثمرين، مع مواءمتها مع السياسات الوطنية.
• توسيع أدوات التمويل الأخضر عبر إطلاق الصكوك والسندات الخضراء وصناديق الاستثمار المستدامة لتمويل المشاريع البيئية والاجتماعية.
• تقديم حوافز ضريبية أو تخفيض تكلفة التمويل للمشاريع الخضراء والطاقة المتجددة.
• دمج معايير الاستدامة في استراتيجيات البنوك والمؤسسات المالية، وإجراء تقييم دقيق للأثر البيئي والاجتماعي قبل تمويل المشاريع الكبرى.
• تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتسهيل تمويل المشاريع الخضراء ودعم الاستثمارات المستدامة.
• إنشاء تصنيفات موحدة للاستثمار الأخضر لتسهيل تقييم المشاريع وضمان الشفافية.
• تعزيز القدرات البشرية والمؤسسية عبر برامج تدريبية وتأهيل الكوادر الوطنية في مجالات التمويل المستدام وإدارة المشاريع البيئية.
د. يوسف بن حمد البلوشي مؤسس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مشاریع الطاقة المتجددة البیئیة والاجتماعیة الاستثمار المستدام التمویل الأخضر فی التمویل المستدام الموارد المالیة تمویل المشاریع أهداف التنمیة نحو المشاریع دعم المشاریع طویلة الأجل تحقیق أهداف فی تحقیق یسهم فی من خلال
إقرأ أيضاً:
سلطنة عمان والمجمع العربي للموسيقى يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون الثقافي
وقعت وزارة الثقافة والرياضة والشباب اليوم مذكرة تفاهم ثقافي بين سلطنة عمان والمجمع العربي للموسيقى، وذلك في إطار تعزيز التعاون المشترك في مجالات الفنون والموسيقى العربية، وتبادل الخبرات والمعارف الموسيقية بين الجانبين.
حيث وقع المذكرة من الجانب العُماني سعادة السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي وكيل الوزارة للثقافة، ومن جانب المجمع العربي للموسيقى الأستاذ الدكتور كفاح فاخوري الأمين العام للمجمع العربي للموسيقى، وذلك بمقر الجمعية العمانية للفنون، بحضور عدد من المسؤولين والمختصين بالشأن الثقافي والموسيقي.
ونصت المذكرة على التعاون في تنظيم مهرجانات وفعاليات موسيقية مشتركة، وتبادل الخبراء والفنانين، إلى جانب إعداد الدراسات والبحوث المتخصصة في الفنون الموسيقية، وإنشاء مكتبات ومراكز توثيق موسيقية، بما يعزز من حضور الموسيقى العُمانية في المحافل العربية والدولية، كما تشمل الاتفاقية دعم الكفاءات الوطنية العاملة في مجالات الموسيقى والفنون، وتبادل الإصدارات والنشرات العلمية والسمعية والمرئية، وتشجيع الإنتاج الفني المشترك بين سلطنة عُمان والدول العربية.
ويأتي توقيع المذكرة تأكيداً على دور سلطنة عُمان في دعم الثقافة العربية والمشهد الموسيقي، وترسيخ التعاون مع المؤسسات المتخصصة في الفنون والتراث، بما يسهم في إثراء الصناعات الإبداعية وتعزيز التبادل الثقافي العربي.
وصاحب التوقيع تدشين كتاب الندوة العلمية التي حملت عنوان" الفنون الموسيقية الشعبية في البلاد العربية ومخاطر اندثارها" التي استضافتها الوزارة في سلطنة عمان، اثناء انعقاد مؤتمر العام السابع والعشرين للمجمع العربي للموسيقى في ٢٠٢٣، حيث وثق الكتاب ست عشرة دراسة تم تقديمها في المؤتمر، منها "المحافظة على الموسيقى الشعبية العربية وتثمينها – فن الباكت أنموذجاً" للعماني ناصر بن محمد الناعبي، حيث تبلور هذا المحور بالاستناد الى امرين اثنين هما المحافظة والتثمين. مناقشاً أهمية الحفاظ على الموسيقى الشعبية العربية وتحديات الجمع والتوثيق، ودور الفرق الشعبية في الحفاظ على رصيد الموسيقى الشعبية العربية، وتناول الناعبي نمط موسيقي يمارس في سلطنة عمان، واختار كعينة لهذا المحور وهو "فن الباكت".
ويعكس هذا التوثيق اهتمام الوزارة بالمشهد الفني المحلي وتطوير البحث الموسيقي في سلطنة عمان.