أرض تحكي تاريخها
تاريخ النشر: 12th, November 2025 GMT
ريم الحامدية
reem@alroya.info
دقّ جرس مُنبهي اليوم بنغمةٍ مُختلفة، وكأنّه لا يوقظني من نوم؛ بل يُوقظ فيّ شيئًا من الحنين، عند الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا بتوقيت أرض اللُبان كانت رحلتي إلى الجنوب على وشك الإقلاع، رحلة إلى أرضٍ لا تشبه سواها، إلى صلالة التي تفوح منها رائحة اللبان كأنَّها أنفاس التاريخ نفسه.
حين وصلت إلى المطار، كان أول ما استقبلني هو عبير اللُبان، يتسلل بهدوء بين أروقة المكان، كأنه يهمس لي: "أهلًا بكِ في أرضي." تلك الرائحة وحدها كفيلة بأن تعيدني إلى طفولتي، إلى كتب التاريخ التي كانت تروي أن سلطنة عمان هي موطن اللبان، وأن شجره كان يومًا من أثمن ما تُهدي به الأرض العالم وبينما كنت أُنهي إجراءات السفر، فتحت بريدي الإلكتروني لأجد رسالة من شركة أمواج، تحمل جدول أعمال رحلتهم السنوية إلى محافظة ظفار، حيث موسم حصاد اللبان. كان الموعد هذا العام في وادي دوكة، حيث ستحتفل الشركة بوضع حجر الأساس لمركز الزوار ومصنع محمية دوكة، مشروع يُعيد للحكاية القديمة نبضها من جديد، في مبادرةٍ تُعيد للّبان مكانته كمصدرٍ للهوية، وكحكاية لا تنتهي عن العُمانيين وعلاقتهم بالطبيعة، ذاك الموسم الذي يتجدّد كل عام كطقسٍ من الوفاء للأرض.
حين وصلت فندق أنانتارا، كانت الرائحة نفسها تنتظرني هناك، تنساب في الممرات، في أروقة الاستقبال، وفي تفاصيل الضيافة. حتى فنجان القهوة بدا وكأنَّه يبتسم في ظل عبير اللبان. وكأن كل التفاصيل هنا تذكرك أنك في أرضٍ تعرف قيمتها، وتقدّر رموزها، وتعيش تراثها كأنه الحاضر نفسه، كان الشعور داخلي يشبه العودة إلى بيتٍ قديم، بيتٍ أعرفه ولم أسكنه من قبل، لكنه يشبهني ويشبه وطني.
اللبان ليس مجرد شجرةٍ تُجرح لتمنحنا عطرها؛ بل هو ذاكرةٌ تجري في عروق عُمان. استخدمه الأجداد في طقوسهم وصلواتهم، وفي العلاج والعطور والمشروبات، فصار جزءًا من الحياة اليومية، من دفء البيوت، ومن أسرار الجمال والسكينة. إنه الرمز الذي اختزل في رائحته معنى النقاء والصبر والانتماء، وظل شاهدًا على طريقٍ تجاريٍّ كان يومًا شريان الحضارات.
في وادي دوكة، كل شجرة تحكي حكاية، وكل غصنٍ يُقطف منه اللبان يشبه وعدًا جديدًا من الأرض لساكنيها. هنا تتقاطع الشمس مع الريح، والعطر مع الذاكرة، والإنسان مع تاريخه. كل شيء يبدو في انسجامٍ صامت، كأن الطبيعة نفسها تصلي.
وعندما تغادر، لا تفارقك الرائحة، ترافقك في الحقيبة، في الملابس، وفي القلب. تدرك أن اللبان ليس مجرد عطرٍ عُماني، بل هو توقيع الأرض على كل شيءٍ جميلٍ يخرج منها، وأن الجنوب لا يُزار مرة، بل يُسكن فيك إلى الأبد، فاللبان، بما يحمله من عبق وتاريخ، كان وسيظل دومًا رمز الأصالة العُمانية وصداه العميق في ذاكرة هذه الأرض، علامة على هويتها وثباتها عبر الزمن.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العمدة المسلم في كنف الحرية والعلمانية
العمدة المسلم في كنف الحرية والعلمانية
خالد فضل
يعتنق الشاب الأمريكي محمود ممداني الدين الإسلامي كمعتقد روحي، وينحدر عرقياً من أسرة إفريقية يوغندية، وينتمي سياسياً إلى الحزب الديمقراطي الأمريكي، ويتبنى فكرياً مبادئ الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. تدعو تلك السيرة المختصرة إلى تأمل عميق، إذ تكشف بوضوح لا لبس فيه المكونات الإنسانية للفرد، وتناغمها لتجعل منه رمزاً لقاعدة واسعة من الجمهور، تمنحه ثقتها بحر إرادتها، وتضعه في موقع المسؤولية لرعاية مصالحها. يحمل منصب عمدة مدينة مثل نيويورك من الرمزية ما يجعله معياراً للبيئة الخصبة التي تزدهر فيها القيم الإنسانية الرفيعة، فهنا تنتصب معاني الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتجسيدها عملياً قبل أن ينتصب مجسماً بشعار الحرية كواحد من أبرز معالمها. هنا مقر الحكومة العالمية، الأمم المتحدة، عبارة موحية بالفعل، وتذكير دائم بوحدة الإنسانية في مواجهة واقع عيشها على بلدها المشترك، الأرض التي بسطها الخالق كما في اعتقاد الروحانيين أو أوجدتها الطبيعة كما يتصور الدهريون، وليس في اختلافهما أي مشكلة طالما سادت بينهم قيم الحرية والمساواة وقوانين وأحكام الديمقراطية المؤسسية وعلت مبادئ حقوق الإنسان كما هي في علوها على أي اختلاف بسبب العرق، النوع، الدين، الثقافة، اللون، المنحدر الاثني، إلخ.
لا غرو أن مارتن لوثر كنج رائد المطالبة بالحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة قد كان لديه حلم منذ الستينات من القرن الماضي، وفي البيئة الصالحة المتطورة الناهضة المتطلعة للمستقبل، فاز أوباما بالمنصب الأول في بلد المساحات الشاسعة والشعوب المتعددة، ومنحدره من كينيا الإفريقية، ثم أتى ممداني ليفوز بعمودية المدينة العالمية ليؤكد صحة رؤيا كنج وسلامة بصيرته ودقة أحلامه. الإنسان بدون أحلام قطعة حطام.
يعتبر الدستور المنظم لحياة البشر في الولايات المتحدة الأمريكية دستوراً وضعياً، لم يدع واضعوه أنهم رسل الله أو خلفائه الموكلين بقيادة الناس إلى طريق الهداية وأبواب الجنان في يوم القيامة، لم يزعموا أنهم يجاهدون بالموت والفناء والإفناء ليحوزوا الطيبات من حور عين وولدان مخلدون وفاكهة وأباً وجداول عسل ولبن مما يشتهون. بل كانت غايتهم تنظيم وتيسير سبل العيش للإنسان من حيث هو إنسان فقط على الأرض من بداية تخلقه نطفة في رحم الأم وحتى مرقد جسده في مدفن يليق أو أي طقس يراه للتعامل مع موتاه دون تمييز ولو كان حرق الجثمان بأعواد الصندل أو ألواح الزان. المهم هنا يتوفر لكل طقس مكان، فالإنسان غاية الحكومات ومنتهى أمل السلطات، أما شؤون ما بعد الموت فليس لمن هم على الأرض عليها سلطان، تلك معادلة واضحة ظاهرة يتعامى عنها كثير من الناس فتراهم يسيرون في ركب من يبيعهم الأوهام وهم مصدقون، يقودهم للحتف وهم منقادون كالسوام لا يعقلون، ولو سأل سائل منهم سؤال بسيط لفك الطلسم المطروح، سيدي القائد هل لك أن تؤكد لنا حيازتك أنت شخصياً لمقعد صدق عند عزيز مقتدر كما تقول؟ نعم أنت تحوز الآن على مقعد الزعامة بوضع اليد أو الانتخاب سيان، لكن من يضمن لك المقعد في حيز آخر ليس فيه نحن الجمهور فننتخبك أو الجيوش فتنفذ عبرها الانقلاب؟ قبهت الذي ادعى وخاب.
تبرز هنا مدينة نيويورك، يقطنها ملايين البشر، من كل السحنات والمعتقدات، لكنهم رأوا فيما يطرحه ممداني سبيلاً لترقية أوجه حياتهم فاختبروه بالانتخاب وهم على نزعه من المنصب أصحاب الحق في الأجل المرقوم، هنا لم يك للدين اعتبار أو كونه أسود يوغندي من معنى، فهو اشتراكي ديمقراطي الفكر والتوجهات، وبالطبع علماني لا يزعم أنه نور الله أو وكيل الغيب. فهو مثل الملايين يطمح لتأمين السكن والمعاش والطرق والجسور ووسائل المواصلات والتوظيف، ليذهب من يشاء يوم الجمعة للمسجد أو السبت للكنيس وفي الأحد الكنيسة فذاك من حق الاختيار لمن يروم هدأة الروح ومن لم يختار فهو حر كما يشاء. ذاك ببساطة مفهوم العلمانية، البناء على مشتركات الحياة، والتعددية فيما وراء القبور. في هذه البيئة نشأ ممداني، تفتح وعيه، انخرط سياسياً، ونشط اجتماعياً، فحاز على الرضا والقبول والانتخاب. فهل من متدبر في هذا المسار، وهل لبني السودان فسحة للتأمل أم غاب عن أفقهم ضوء الصباح فباتوا رهائن لدي غلالات التضليل. نسأل الله السلامة.
الوسومالعلمانية العمدة المسلم الولايات المتحدة خالد فضل عمدة نيويورك كنف الحرية مارتن لوثر كينج محمود ممداني الدين