عربي21:
2025-11-14@18:15:52 GMT

الدولة الوظيفية بين البقاء والخيانة

تاريخ النشر: 14th, November 2025 GMT

كيف يُعاد تشكيل وعي المنطقة تحت المنظومة الأمريكية-الإسرائيلية؟

في لحظة تاريخية تتبدّل فيها موازين القوى في الشرق الأوسط، وتعيد فيها واشنطن وتل أبيب تشكيل خرائط النفوذ من جديد، يعود سؤال الدولة الوظيفية إلى الواجهة بقوة: هل تقوم بالدور حفاظا على بقائها، أم تنفيذا لإملاءات خارجية؟ وهل يصبح أداء الوظيفة -داخل منظومة لم تصنعها- شكلا من أشكال الخيانة، أم ضرورة فرضها ميزان القوة؟

هذا السؤال لم يعد نظريا، بل أصبح جزءا من واقع عربي تُعاد هندسته في الطاقة والسياسة والوعي، وتتشابك فيه وظائف الدول مع مصالح المركز الخارجي بصورة لم يعرفها تاريخ المنطقة من قبل.



هل تصبح الدولة الوظيفية، داخل منظومة لم تُنشئها هي، خائنة بمجرد أداء وظيفتها؟ السؤال لا يحتمل إجابة مباشرة لأنه يتطلب أولا إدراك طبيعة "الدولة الوظيفية"، فهذه الدولة ليست كيانا حر الإرادة بل طرفا يُعاد تشكيل دوره داخل منظومة أوسع منه؛ تمسك بمفاصل الأمن والاقتصاد والإيقاع السياسي. وفي هذا المجال الضيق تتحرك الدولة ضمن هامش محدود فرضته شبكات إقليمية ودولية فتؤدي وظيفة لم تصنعها، لكنها أصبحت شرط بقائها أو وسيلة لتفادي انهيارها.

اكتسبت المنظومة طابعا أمريكيا/إسرائيليا يعيد دمج دول المنطقة ضمن شبكة تُعرّف موقع إسرائيل؛ لا كطرف تابع بل كجزء مُنشئ للإيقاع الأمني والسياسي
ومن هنا لا يرتبط الحكم بالخيانة بصفة "الوظيفية" نفسها بل بطبيعة الوظيفة؛ هل تحمي المجتمع وتبقي على قدر من السيادة؟ أم تُنفَّذ على حساب الشعب ومصالحه بحيث تُقدَّم فيها مصلحة المنظومة على مصلحة الدولة؟ هنا فقط يتحول الأداء من وظيفة.. إلى خيانة سياسية؛ من دولة تؤدي دورا.. إلى دولة يُعاد تشكيلها

حين نقل ترامب مركز الثقل من واشنطن إلى تل أبيب لم تعد الوظيفة مجرد أداة لتكريس الهيمنة الأمريكية، بل أصبحت مشروعا يعيد هندسة المركز ذاته، مشروعا يرقّي إسرائيل من دولة وظيفية داخل المنظومة الأمريكية إلى مركز شريك في صناعتها وإدارتها. وهكذا اكتسبت المنظومة طابعا أمريكيا/إسرائيليا يعيد دمج دول المنطقة ضمن شبكة تُعرّف موقع إسرائيل؛ لا كطرف تابع بل كجزء مُنشئ للإيقاع الأمني والسياسي.

ولم يتوقف الأمر عند التحليل الرمزي بل تجلّى في خطوات عملية واضحة، فإدارة كوشنر لملف التطبيع (اتفاقات أبراهام) والعمل على "صفقة القرن" من خلال إدماج إسرائيل في منظومة الغاز الإقليمية؛ توسع نفوذها في قواعد الاشتباك وانتقال تقنياتها الأمنية إلى داخل البُنى العربية. هذا التحول جعل إسرائيل ليست شريكا في المنظومة، بل ايضا أحد مُهندسيها.

هنا تكمن الخطورة: فالمنظومة الجديدة وإن كانت امتدادا للمنظومات القديمة إلا أنها تشهد تحولا نوعيا في الأساليب والأدوات؛ لم تعد تعيد إنتاج الوسائل التقليدية، بل طورت آليات أكثر دقة في إدارة الأدوار وتوجيه السياسات وصياغة المجال، إنها قطيعة صامتة مكّنت المركز من إعادة هندسة الفاعلين وتشكيل موازين القوة بطرق لم تكن ممكنة قبل عقد واحد فقط.

التطبيع الناعم وتفكيك الوعي: كيف تتحول الوظيفة إلى أداة لإعادة هندسة الشعوب؟

هذا التحول في طبيعة الدور الوظيفي دفع المنطقة من مرحلة "التوقيع على المعاهدات" إلى مرحلة "تنفيذ المهام". وهو جوهر ما يُسمى بـ"التطبيع الناعم"؛ تطبيع لا يأتي من باب السياسة فقط بل من بوابة البنية التحتية والاقتصاد والمؤسسات.

ويعمل التطبيع الناعم عبر ثلاث آليات:

1. تطبيع البنية التحتية: دمج شبكات الطاقة والكهرباء والموانئ والاتصالات مع إسرائيل، بحيث يصبح فك الارتباط شبه مستحيل دون كلفة كارثية.

المنظومة الجديدة وإن كانت امتدادا للمنظومات القديمة إلا أنها تشهد تحولا نوعيا في الأساليب والأدوات؛ لم تعد تعيد إنتاج الوسائل التقليدية، بل طورت آليات أكثر دقة في إدارة الأدوار وتوجيه السياسات وصياغة المجال، إنها قطيعة صامتة مكّنت المركز من إعادة هندسة الفاعلين وتشكيل موازين القوة بطرق لم تكن ممكنة قبل عقد واحد فقط
2. تطبيع سوق العمل وسلاسل التوريد: حيث تتحول الشركات الإسرائيلية إلى شريك في الإنتاج والتمويل، ما يجعل آلاف الوظائف مرتبطة باستمرار العلاقة معها.

3. تطبيع الوعي اليومي: ليس عبر الخطاب بل عبر الاعتياد (الفاتورة، التكنولوجيا، التطبيقات، الاستيراد، التصدير..). هكذا يصبح التطبيع ممارسة يومية قبل أن يكون قرارا سياسيا.

في هذا السياق، لم يعد تطوير البنية التحتية المصرية لتسييل الغاز مجرد مشروع تنموي، بل تحول إلى توريط بنيوي يدمج مصر في شبكة توريد الغاز لأوروبا عبر إسرائيل ويقيد القرار الاستراتيجي المصري في ملف الطاقة.

ولم يعد التطبيع محصورا في تطوير كامب ديفيد أو تأمين الحدود، بل هبط إلى مستوى أعمق: جزء من الشعب المصري اليوم يرتبط مصدر رزقه بمسار تطبيع اقتصادي، وهذا أخطر أشكال التطبيع لأنه يُعيد تشكيل العلاقة من أسفل من مستوى لقمة العيش.

ولهذا قال جاريد كوشنر في اتفاقيات أبراهام: "على الشعوب العربية والإسلامية أن تنظر فقط إلى مصالحها الاقتصادية". لم يكن هذا توصيفا بريئا، بل جزءا من مشروع لدفن الوعي عبر إغراق الشعوب في تفاصيل معيشتها حتى تصبح قابلة للاندماج في منظومة لا تملك تشكيلها.

الواقع يصنع الوعي أم الوعي يصنع الواقع؟

هنا تعود جدلية هيغل وماركس بقوة: هل الواقع يشكّل الوعي؟ أم الوعي قادر على تشكيل الواقع؟

فالمنظومة العربية اليوم تبدو وكأنها تُعيد إنتاج رؤية ماركس عندما تفرض البنى الاقتصادية -من الغاز إلى الموانئ- شروطها على الوعي العام. لكن التاريخ يمنح هيغل بعض الحق، فحين يتشكل وعي جماعي قادر على إدراك بنية المنظومة وطرق عملها فإنه يصبح قادرا على إعادة توجيه الواقع ولو ببطء شديد.

هذه الجدلية ليست تمرينا فلسفيا بل مفتاح لفهم طبيعة الدولة الوظيفية، فالمنظومة تُحكم قبضتها عبر الاقتصاد، لكن الوعي -إن استعاد نفسه- قادر على كسر الحلقة.

كيف نُقيّم الدولة الوظيفية؟

يتوقف تقييم الدولة الوظيفية على مسارين دقيقين:

المسار الأول: طبيعة المهام المطلوبة من المركز الخارجي، وعمقها وحدود إلزاميتها.

المسار الثاني: مدى تأثير هذه المهام على بنية الدولة؛ هل يُعاد تشكيلها جذريا؟ أم تُستخدم مؤقتا دون إدماج كامل داخل المنظومة؟

بين هذين المسارين يتحدد السؤال الأخطر: هل الدولة تُستخدم؟ أم يُعاد تشكيلها؟ أم أنها تدخل مرحلة الدمج الكامل داخل منظومة تُدار من مركز خارجي؟

خاتمة: لكي لا ينطفئ الضوء

يظل الأمل ممكنا ما دامت هناك زمرة -ولو قليلة- تحمل الشعلة زمرة لا تستسلم للذوبان ولا تبيع وعيها ولا تنحني أمام مشاريع الآخرين؛ دورها ليس أن تُغيّر العالم دفعة واحدة، بل أن تحفظ جذوة الوعي حيّة وأن تُمرّر هذه الشعلة إلى الجيل التالي كي لا تنطفئ الذاكرة ولا تنحرف البوصلة.

هناك شاب يراها من أفريقيا الأرض البكر، وآخر يراها من مصر بعمقها الحضاري، وثالث يراها من تركيا بثقلها وتجربتها؛ تختلف نقاط الانطلاق لكن حلم النهضة واحد.

وواجب الشباب اليوم أن يتسلحوا بأمرين لا غنى عنهما: إيمانٌ عميق لا تهزه العاصفة وعلمٌ يفتح أبواب الفهم والمقاومة وصناعة البديل.

فما دام هناك من يحلم فإن خيط البداية لم ينقطع، وما دام الشباب يتمسكون بالأمل ويدركون أن ما يجري ليس "مؤامرات" فحسب، بل طموحات الآخرين ومشاريعهم، فإن قدرتهم على الصمود تبقى أكبر وفرصتهم في صناعة البديل تظل قائمة.

الشباب الذي يفهم قواعد اللعبة لا يُستدرج، والشباب الذي يعي عمق الصراع لا يُعاد تشكيله بيسر، والشباب الذي يحلم هو وحده القادر على فتح نافذة جديدة في جدارٍ ظن العالم أنه لا يُخترق.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الإسرائيلية الدولة عربي التطبيع إسرائيل تطبيع عرب الدولة مدونات قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الوظیفیة داخل منظومة ی عاد تشکیل

إقرأ أيضاً:

هند الضاوي: إسرائيل تمهد لجرائم جديدة بحق الفلسطينيين بعد قانون الإعـ دام

أكدت الإعلامية هند الضاوي، أن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير أقام احتفالا صاخبا داخل الكنيست عقب إقرار القراءة الأولى لمشروع قانون يسمح بإعدام الأسرى الفلسطينيين، وأن هذه الخطوة تمثل "انحطاطا أخلاقيا جديدا للاحتلال" وتمهد لجرائم جديدة ضد الشعب الفلسطيني.

البيت الأبيض: الولايات المتحدة ليست مهتمة ببناء قاعدة عسكرية في قطاع غزةوزير الخارجية: ما قام به الرئيس ترامب لتحقيق السلام في غزة قابل للتحقق بالسودان

وأضافت الضاوي، خلال تقديم برنامج "حديث القاهرة"، عبر شاشة "القاهرة والناس"، أن بن غفير برّر فرحته بإقرار القانون بالقول إنه لن يكون هناك مروان البرغوثي آخر، في إشارة إلى القيادي الفلسطيني الأسير الذي ما زال يحظى بشعبية كبيرة داخل فلسطين وخارجها، موضحة أن هذا التصريح يكشف حجم الحقد الإسرائيلي تجاه أي شخصية فلسطينية رمزية.

وأشارت إلى أن بن غفير شخصية غير متزنة وتعاني من عقدة نفسية عميقة، مضيفة: "وزير يشعر بالنقص ومكروه حتى داخل المجتمع الإسرائيلي"، مؤكدة أن تمرير هذا القانون سيكون له تأثير خطير على الأوضاع في الأراضي الفلسطينية كافة، لأنه يمنح إسرائيل غطاءً قانونيًا لارتكاب جرائم إعدام ميداني بحق المدنيين والأسرى.

وشددت هند الضاوى على ضرورة تحرك المجتمع الدولي والعربي والإقليمي، وكذلك الاتحاد الأوروبي، لمواجهة هذا القانون، قائلة: "إسرائيل ليست دولة عادلة، وإذا تم تمرير القانون نهائيًا، فستصبح كل حياة فلسطينية مهددة، لأن الاحتلال سيعتقل أي طفل أو شاب من الشارع ويعدمه بلا مبرر".

طباعة شارك الإعلامية هند الضاوي بن غفير الشعب الفلسطيني فلسطين

مقالات مشابهة

  • محافظ المنيا: تطوير بيوت الله في مقدمة اهتمامات الدولة لزيادة الوعي الديني
  • بعد لقاء ترامب والشرع.. قلق في إسرائيل من "خسارة جبل الشيخ"
  • رسالة مباشرة من ترامب لولي العهد السعودي: آن أوان التطبيع مع إسرائيل
  • بعد لقاء ترامب والشرع.. قلق في إسرائيل من "خسارة جبل الشيخ"
  • 20 نوفمبر.. محطة تعيد رسم الوعي الوطني العُماني
  • هند الضاوي: إسرائيل تمهد لجرائم جديدة بحق الفلسطينيين بعد قانون الإعـ دام
  • قيادي بـ«حماة الوطن»: نجاح التصويت في المرحلة الأولى ترجمة حقيقية لحالة الوعي السياسي للمواطنين
  • العطر والدولة لكمال القصير يبحث في تناقضات وتحولات الوعي العربي
  • صور تكشف تدمير إسرائيل مبانٍ داخل "الخط الأصفر" بعد الهدنة